في مكتبتي المتواضعة رواية للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «الغثيان»، وهي عبارة عن يوميات تبدأ منذ العام 1933. تدور أحداثها حول الهمّ النّفسي والضّجر والرَّهبة من العدم، مُملّة جداً، ولهذا استغرقتُ في قراءتها سنوات دون إنهائها. رغم أنّها من الحجم المتوسط، آمل أن أنهيها في يوم ما، لا أعرف قيمةَ إنهاء قراءتها، وهل ستؤثر على تفكيري كون كاتبها فيلسوفاً، أقرأ بضع صفحات ثم ألقيها جانباً ضَجَراً، ربما أستمتع بها مستقبلا في شيخوخة متقدمة مثلا.
مع تزايد مستوى الغثيان في الفترة الأخيرة فطِنتُ بها، ومرّة أخرى نظرت إلى غلافها ودار النّشر التي عملت لها لوغو لم أفلح في تفكيكه، ولكن من عنوان البريد الإلكتروني فهمت أنها دار نشر وتوزيع (فاروس) من القاهرة. إعداد الحسيني الحسيني معدى، قرأتُ بضع صفحات، كمن يرغم نفسه على طعام لا يحبّه، ومرّة أخرى ألقيت بها جانباً.
حالة غثيان تغلب على الرّغبة في القراءة.
أمريكا تطالب إسرائيل السّماح بدخول مساعدات إنسانية أكثر إلى شمال قطاع غزة، وفي إسرائيل يحرّضون، ويعتبرون إدخال المواد الغذائية خِيانة، لأنّ هذا مدَدٌ «للمخرّبين»، بينما والواجب هو تجويع «المخرّبين» حتى الموت، وفي القاموس الإسرائيلي الحديث، كلُّ أهل قطاع غزّة مخرِّبون، حتى أولئك الذين ما زالوا نطفة أو علقة أو مضغة في أرحام أمهاتهم، لأن النُّطفة ستصبح «مُخرِّباً» ولو بعد حين!
الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، يقول ما معناه أنّ أمريكا سوف تجري اختباراً خلال شهر، حيث يُفترض إدخال ثلاثمئة وخمسين شاحنة يومياً، ولكنّه يطمئن بأنّه مهما كانت نتيجة هذا الاختبار، لن تؤثّر على تزويد إسرائيل بالسّلاح للدفاع عن نفسها.
لو تبيّن مثلاً أنّ إسرائيل أدخلت تسعة وعشرين شاحنة فقط، بدلاً من ثلاثمئة وخمسين شاحنة في اليوم، فهل يعقل أن توقف أمريكا شحن الأسلحة وتعريض إسرائيل إلى خطر وجودي، وخصوصاً أنّ جبهة جديدة مع إيران على النار وباتت على وشك النضوج، وقد يجري تدشينها قبيل نهاية الشهر، يعني قبل نهاية الاختبار الأمريكي!
ثمَّ هل يعقل وقف تزويد إسرائيل بالسّلاح بينما مصانع حماس تعمل تحت الأرض! ثم إن هناك حديثاً عن تهريب مسدّسات من الأغوار الأردنية إلى الضفة الغربية ثم إلى غزّة! إضافة إلى إنتاج حِزب الله الحربي، الذي لا يتوقف في الليل والنهار.
تطلب أمريكا من ابنها المشاغب أن يُظهر شيئاً من الاحترام لرغبتها، لكنّه يتِفُّ ويغضبُ ويلعنُ الحُلفاء قبل الأعداء.
ولم يُغن نَصْبُ وحدات دفاع جوية أمريكية متقدّمة مع طواقمها لحماية سماء إسرائيل، ولم يقتنع الإسرائيليون بالموقف الأمريكي المتواطئ، الذي فضحه الإصرار على إدخال الطّحين والزيت والماء وعلب التونا، ومواد أخرى قد تكون خطيرة، إلى شمال قطاع غزّة.
هذا ليس نكراناً للجميل فقط، بل خيانة للشّريك، ماذا كنتم ستفعلون أصلاً من غير هذا الذي أفرغ مستودعاته من السّلاح الأشد فتكاً لأجلكم!
حسناً، للمقارنة فقط، تخيّلوا للحظات أنّ أمريكا تستيقظ في فجر يوم ما وتقرّرُ مناصرة وحماية الشُّعوب الطّامحة إلى الحرية، بعيداً عن المصالح الاقتصادية والهيمنة، وفجأة تَجري منافسة بين الديمقراطيين والجمهوريين على من يقدم الخدمة الأكبر لقوى التحرّر في أيِّ مكان في العالم!
مثلاً أن يأمر جو بادين بنصب وحدات دفاع جوية في قطاع غزّة لمواجهة الطيران الإسرائيلي! وأن يردَّ عليه دونالد ترامب بتصريح خطير «لو كنت رئيساً لما حدث هذا كله، ولارتعدت تل أبيب خوفاً، وركعت طالبة الصفح والغفران».
كيف كان الفلسطينيون سيشكرون أمريكا! كم عدد الدّبكات الفلسطينية في مراكز الإيواء التي سيذكرون فيها أسماء الأصدقاء الأبطال جو بايدن، ولويد جيمس أوستن المدافع عن الحريّة، وكم سيذكر ترامب بصيغة (أبو إيفانكا) بالخير والحب والتقدير، كم عدد الأعلام الأمريكية التي سوف تتقدّم المسيرات في الضّفة الغربية وعمّان والرّباط! (لا أدري إذا كان المشير عبد الفتاح السّيسي سيسمح للمصريين بالتّظاهر شكراً وعرفاناً لأمريكا على موقفها الأصيل من قطاع غزّة)!
تخيّلوا أعداد الأعلام الأمريكية التي سترفرف على خيام النّازحين وعلى البيوت المهدّمة، وأيُّ الكلمات سوف ينتقيها أبو عبيدة في كلمته المسجّلة لشكر الأخوة الأمريكيين رعاة الحرّية والعدل في هذا العالم الظّالم، وعلى رأسهم فخامة الأخ الرئيس جو بايدن ألبسه الله رداء الصِّحة! كم عدد الفلسطينيين والعرب الذين ستدمع قلوبهم قبل عيونهم وتهتف معتذرة «لقد ظلمناك يا أمريكا، سامحينا»! وسوف تُشطب مقولة مقولات مثل أمريكا رأس الحيّة ويوبّخ من يردِّدها، وتختفي عبارة «أمريكا هي الطاعون والطاعن أمريكا» من قصيدة مديح الظل العالي. وكم عدد أولئك الذين سيشهرون صورة أبراهام لينكولن على بروفايلاتهم في مواقع التواصل، وعلى زجاج سيّارات الأجرة والعربات التي تجرّها الحمير والخيول في قطاع غزّة! وكم فلسطيني سيلفتُ نظر زوجته بأنّها يجب أن تقتني منتجات التجميل الأمريكية، بدلاً من بضائع الألمان المصطفين تلقائياً ومن غير تأنيب ضمير مع الاحتلال.
وكم شاعر عربي سيهجو إعصار ميلتون الذي تسبّب في نزوح ملايين الأخوة في فلوريدا، وكم إمام مسجد سيختتم صلاة الفجر بدعاء حارٍ لإخوتنا الأمريكيين! «اللهم الطف بإخوتنا الأمريكيين في فلوريدا، اللهم ارفع غضبك عنهم، اللهم دمّر وأحبط عمل كلّ من يسيء إلى أيّ ولاية ولاياتها الخمسين، اللهم زِدها قوّة وغنى، وافتح عليها أبواب رحمتك وهدايتك يا أرحم الرّاحمين».
فجأة تطلب أمريكا تسريع التحقيق الدولي في جرائم الحرب لاعتقال نتنياهو وغالانت، وتؤكد مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أن ما فعلاه يزيد أضعافاً مضاعفة عن ما فعله الصربي «الشّاعر» والطبيب النفسي رادافان كاراديتش مع البوسنيين والكروات. أما الألمان، فكيف يُمكن يا حضرة وزيرة الخارجية، أن يُسهم إحراق الناس في الخيام بأمن إسرائيل، كيف يستوي هذا مع العقل الألماني اللامع!
سعادة الوزيرة أنالينا بيربوك، إذا كان فكر أجدادك اللامع قد أقنعهم بإبادة اليهود في أوروبا، فما هو ذنب أبناء غزة وفلسطين بأن يدفعوا ثمن غسل تاريخ أجدادك القبيح الأسود! موقف بلادك الإجرامي مما يجري في غزّة لا تمحوه المساعدات الألمانية للقطاع، من جهة تُعلنون تقديم مساعدات لإعادة تأهيل المستشفيات، ومن جهة أخرى تتفهّمون حرق الناس الذين يلوذون في محيط هذه المستشفيات؟
بهذا الموقف المثير للغثيان، تقولين إنّ العنصرية مـتأصلة وما زالت تدور في شرايينك الزرقاء.
أعلم أن هناك من يقول، قبل أن تلوم الغريب البعيد والأجنبي، لُم جيران الفلسطينيين، وأبناء جلدتهم.
نعم أتّفق مع هذا، ولكن باختصار، إذا كان الفلسطينيون يعانون من احتلال مُجرم، فالشُّعوب الشّقيقة تعاني من احتلالات طبقة فوق طبقة، وواجبنا أن ندعو لأخوتنا بالحرّية، وامتلاك قراراتهم بأيديهم، وأن يستطيعوا في يوم ما التعبير عن أنفسهم وضمائرهم ومشاعرهم ومواقفهم مما يدور في بلدانهم وفي فلسطين وفي العالم أجمع.