كان العالم أعمي: الشاعر العراقي شاكر لعيبي يحكي حصار بيروت
سعيد بوكراميكان العالم أعمي: الشاعر العراقي شاكر لعيبي يحكي حصار بيروت1منذ البدء تلفحك رياح الطموح العربي الحقيقي التواق للتغيير وتحقيق الأحلام. أقلها البقاء في الوطن الأم والعيش في عراق مكلل بالكرامة والحرية. وأكثرها ممارسة حرية ثقافية في بيروت الممتدة بقامة الكبرياء نحو سماء ملغومة بالحرب و الخيانة. منذ البدء نري المشهد الصامت الملتمع في ذاكرة الشاعر شاكر لعيبي يقف جسورا وحيويا (علي غصن حلمي يكاد ينكسر لفرط مائيته. مشهد غزالة نافرة، طافرة في أحراش لبنان من أرياف فلسطين وأهوار العراق وقيظ الجزيرة، مشهد كرمة يجلس فيها المتحاورون في السياسة والأدب والمقاومة المسلحة) * لم يكن شاكر يريد أكثر من الحرية في الحياة والابداع ورفاق يشاركونه هواجسه الفكرية والشعرية وكأن حضورهم الشخصي سيتكثف بحضورهم البهي.تحت سماء قنابل كان شاكر يحب اختراق الأمكنة والعلاقات والأشياء وكأنه طفل يتعلم مبادئ جديدة. الدهشة سلاحه والذاكرة كنزه الذي لا يفني (كنت والله، غرا في عالم من حذاق العرب، ولم أكن أسيطر علي مواهبي المفترضة. فعندما دعاني (ميشيل النمري) للعمل في مجلة الموقف العربي وافقت علي الفور براتب أنحل من ابرة. كنت أجد في المكتب قبالتي حيدر حيدر ومن بعده غالب هلسا اللذين كنت أسمع عنهما فحسب واقرأ لهما. كان هناك آخرون سيصيرون أسماء لامعة بعد ذلك مثل المصرية سلوي البكر والسوري نوري الجراح وأمجد ناصر وغيرهم. كنت قد تفتقت عن شهية أدبية وكنت أكتب بنهم في نقد الشعر والقصة. يوثق شاكر حضوره البيروتي بصدق وانفتاح علي كل العلاقات والصداقات الانسانية والثقافية. ما أحوجنا في هذا العصر العربي المشفّر الي تاريخ ثقافي صريح يقول ما لم يُقل. ذلك الجرح النازف وتلك السعادة الياقوتية صحبة الأدباء الحقيقيين. وذلك التواطؤ المهين لبعض مثقفينا في لحظة حاسمة من سيرة الثقافة العربية. ما علينا فلنترك هذا الموضوع جانبا حتي يصبح حقيقة ثم نتحدث عنه. شاكر يوقظ الأوجاع برحلته لكن الرغبة العارمة في الحياة تخفف حدة الاحساس الفجائعي: (كنت أريد ريحا معبأة بعبق الحياة. كنا نريد، جميعا، أغنية أخري أقل حزنا وأكثر توترا. كنا نسعي الي احلال أغنيات (فيروز) في الحياة الواقعية نفسها حيث الطفل الرمز المعشوق، شادي، لا يختفي في الحرش، في الموت. كنا نحب الحياة برعونة وكنا نحب بيروت رمزا للحياة ( للحيّ ـ العضوي) العربي الممكن. سوي أن الأحبة كانوا يختفون بوضوح في ابر القنافذ الي الأبد. وكان حصار بيروت، لذلك، أسوأ اللحظات في حياة مسعورة رغبت بالتهام عشبة الخلود (ص 16).2هي الحرب اذن تزرع الموتي يبابا لكل القناعات والعلاقات والذكريات. (يتعلم المرء أثناء حصار مثل حصار بيروت أن الكائنات الآدمية غير متشابهة اطلاقا في انفعالاتها ازاء الجوهري مثل الموت ص 25). أفرزت تجربة حصار بيروت الكثير من النصوص الابداعية والصحفية عن حصار بيروت، كما عند محمود درويش وسعدي يوسف وغالب هلسا وأمجد ناصر و الياس خوري ومحمد علي اليوسفي وغيرهم من لبنانيين وعرب. كتبوا بأعصابهم مسلسل القتل الجماعي والدمار اللانهائي المعد باحكام لتخريب لبنان و للتشتيت التراجيدي للفلسطينيين.بعض المثقفين العرب ربما وضعتهم مصائرهم التراجيدية أيضا أمام سبل عنيفة ليكونوا شاهدين بعين مختلفة و وذهنية وحساسية مغايرتين. (اننا الشاهدون ذوو الأعين النجل،كنا نحدق في دفقة الدمكيف تسيلبصمت تسيلتسيلوتأتي علي ورق يابسوعظام وعشبوتمتد حتي تغطي النهار النبيل ص 24).فلم يكن أمام شاكر لعيبي والجميع من خيار غير المضي نحو الموت أو البحر. فكان البحر الخيار الجبري للجميع. ولأن العالم أعمي، يستمر الشتات الأدمي في تاريخ الانسانية في توزيع الجراح علي موانئ مضيفة. وفي ذروة ذكري شعرية يصور شاكر لحظة الوصول الي مرفأ النفي الجديد بحساسية باهرة: (للحظة اشتد الصخب، كان المشهد مشهد مرافئ أخيرة مثل محطات أخيرة في قارة ملتهبة بعد نهايات حروب طاحنة. موانئ ومسافرون بأساطير وعجائب علي متن باخرة ميثيولوجية حوت كل أنماط الرجال والأفاعيل والسحرة. تدافعت الأجساد واختلطت أثناء النزول، وكانت بيروت التي ترفع شارات النصر لها منسية تلك اللحظة ومغيبة تماما، وليس لدي المستقبلين الهائجين ذوي الحماس البالغ، وانما لم يسأل عنها البتة، ولم تلتمع في ذاكرة أحد لسبب بسيط: انها ما زالت حاضرة ومحفورة فيها، لم تزل واقعا لم يمح بعد. لم تصر ماضيا. ص 44/45). لم يكن من السهل علي شاكر وغيره أن ينسوا بيروت لأنهم يحملونها معهم تحت جلودهم وجوارحهم وما العبور البحري والنزول من يابسة الطوفان الي يابسة المجهول غير عبور مجازي بكل المقاييس المتخيلة. وكأن السفينة اندفعت به من نهره البابلي دون هوادة لتخترق السيول العمياء التي أغرقت الأحبة والأمكنة والأشياء الحميمة. وما من طائر يستطيع حمل البشري لأن كل الطيور كانت صريعة في سماء الخيانة والخسارة. ہ كاتب من المغربہ شاكر لعيبي: حسرة الياقوت في حصار بيروت . سلسلة سندباد الجديد (الرحلة العربية الحديثة) دار السويدي أبو ظبي الامارات.الطبعة الأولي 20030