كائنات إيفلين عشم الله في «حصاد سنين العمر»: إرث الروح المصرية وتجلياتها

القاهرة ـ «القدس العربي»: «ما أرسمه ليس كوابيس، هي كائنات طيبة، تقاوم، وأخرى سعيدة.. متعايشة ومتقبّلة».
(من حوار إيفلين عشم الله في جريدة «الأهرام» المصرية في 12/9/2018)
من أجواء الريف المصري وحكاياته الغامضة على لسان المُسنّات، وكذا مقامات أولياء الله الصالحين وسيرتهم الأكثر غموضاً وكرنفالات الاحتفاء بهم، تنسج الفنانة إيفلين عشم الله ـ مواليد عام 1948، وتخرجت في كلية الفنون جامعة الإسكندرية عام 1973 ــ لوحاتها، أو عالمها بمعنى أدق، هذا العالم الذي بدأ منذ آواخر سبعينيات القرن العشرين، وحتى هذا العام 2024. ويأتي معرضها الذي أقيم مؤخراً في غاليري (آزاد) في القاهرة ليستعرض هذه المسيرة بمراحلها المتباينة، تحت اسم «حصاد سنين العمر». ومنذ تلك البدايات التي تقترب من التجريد، وصولاً إلى كائناتها السريالية التي تطورت حتى أصبحت المُعبّر الأساسي عن تجربتها الفنية، لا تخرج عشم الله عن عالم الريف المصري وأساطيره، مع تماس هذا العالم وموضوعاته مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي ضربت مصر منذ انقلاب يوليو/تموز 1952 وحتى الوقت الراهن، مع تطور وعي الفنانة نفسه على ما حدث وما يحدث.

الأصول والامتداد

هناك حالة من التواصل ـ من الصعب إنكارها ـ رغم الاختلاف في الرؤية والتقنية بين أعمال إيفلين عشم الله، وكل من عبد الهادي الجزار (1925 – 1966) وحامد ندا (1924 – 1990)، هذا من خلال التلقي الأولي لهذه الأعمال، فهناك امتداد لهذه الروح التي تنتمي للشعب المصري وطقوس المصريين، وإن تراوحت أعمال الفنانة بين الجزار وندا، بل الدمج بينهما، الذي يعود في الأساس للدمج بين مدرستين في التحليل النفسي، هما (فرويد ويونج)، ومنه التعبير بما عُرف في ما بعد بالسريالية، فبينما اعتمد ندا منهج فرويد، مال الجزار أكثر إلى منهج يونج، ودمجت عشم الله بين المدرستين أو الرؤيتين من خلال تجربتها الخاصة، من حيث العالم ومفرداته وطقوسه التي عايشتها بنفسها وتنفستها منذ طفولتها.

كائنات كرنفالية

يختلف صخب الحياة في الريف المصري عنه في المدينة، فبين العمل في الحقول والصلاة ـ سواء في الجوامع أو الكنائس ــ هذا النمط الحياتي الهادئ نسبياً، بخلاف بعض مناوشات ومعارك السلوك الإنساني المعهود، ينقلب الأمر وقت الاحتفال، أو الكرنفال الديني بطبعه، والمُستمد من مظاهر الاحتفاء بمولد أحد أولياء الله الصالحين، والموقرين جداً في المخيلة والروح الشعبية المصرية حتى الآن، والمتمثل في مُوْلد (إبراهيم الدسوقي) في محافظة كفر الشيخ محل ميلاد الفنانة، والواقعة شمال مصر، هنا ينتصب السيرك ـ حقيقة لا مجازا ـ حيث الأسود والحيوانات المتوحشة، وبني آدميين تتسم حياتهم بالغرابة مقارنة بسُكان القرى، فنجد لاعب الثلاث ورقات ـ المحتال غالباً ـ ولصوص الموالد المشاهير، والغجريات ضاربات الودع وقارئات الطالع، وكذا الدراويش الذين يهيمون ويتحدثون دوماً بالغامض من الكلمات، والذين يخلطون في لحظة واحدة بين الغضب والابتسام حد البلاهة، وصولاً إلى رسامي الوشوم، ليخلدوا سيرة الأبطال الشعبيين فوق أجساد الشجعان أو حتى الجبناء من أهل الريف، والمظاليم بالأساس. كل هذا الصخب، وهذه المخلوقات تجسده وتعبّر عنه لوحات إيفلين عشم الله.

تناغم المخاليق

في لوحات عشم الله حالة دائمة من التناغم بين جميع مخلوقات الله.. حيوانات، حشرات، فاكهة وأشجار، وأشكال مختلفة من محاصيل الأرض الزراعية، وكذا أسماك البحيرات، ناهيك عن السماء وما تحتويه، إلى جانب البشر. هؤلاء الذين يأتون في نهاية قائمة المخلوقات، فالأرض ليست حكراً عليهم وباقي الكائنات عبارة عن هامش لحياتهم، بل على العكس، تطغى هذه المخلوقات بتنوعها وعددها على وجود الإنسان نفسه، الذي لا يجد سوى التعايش معها في تناغم ـ قد يكون مرعباً ـ بل إنه يتمثل أجزاء من جسدها وتتآلف تماماً مع تكوينه حسبما تراه عين الفنانة.. كرأس ضفدع أو نجمة بحر، وحتى جسد إنسان ينتهي بذيل سمكة.
ومن اللافت أن هذه الأشكال التي تبدو مُزعجة للوهلة الأولى، نجدها في غاية التآلف والتسامح مع عالمها، وتأتي حركاتها ووضعيتها في اللوحة لتؤكد ذلك، فهي في غاية الفرح، وتقوم بألعابها في براءة تتنافى تماماً مع تكوينها. يؤكد ذلك أيضاً ـ حالة اللعب والفرح الدائم ـ الألوان المُبهجة لأغلب اللوحات، والمستمدة بدورها من أجواء وألوان شم النسيم. وعلينا في الأخير ألا نخشى أو نخاف هذه الكائنات، حتى لو كانت تنتمي إلى عالم حواديت الجدات.. عالم الجن أو العفاريت، وهو ما تراه إيفلين عشم في حوارها نفسه في جريدة «الأهرام»، قائلة «إذا تعمقنا ولم نكتف بالظاهر سنجد أننا نحن العفاريت».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية