قصة الاستدراجين : من غزو الكويت الي اغتيال الحريري

حجم الخط
0

قصة الاستدراجين : من غزو الكويت الي اغتيال الحريري

مطاع صفديقصة الاستدراجين : من غزو الكويت الي اغتيال الحريري عندما تتعاظم الأخطار الخارجية ضد أي كيان سياسي كالدولة والمجتمع والوطن، تغدو بقية المشكلات الداخلية من طبيعة ثانوية. ذلك هو قانون بدهي قام عليه مصطلح الأمن القومي، وهو بدوره كان وراء نشوء شبكيات القانون الدولي. وفي مرحلة من تطور العلاقات العربية فيما بين وحداتها الدولية القائمة علي المواجهة المتمادية مع إسرائيل والغرب وخاصة أمريكا، ازدهرت الي حد ما أفكار بعض النخبة المهتمة بالشأن العام، وتداولت بعض المفاهيم عن الأمن القومي. لكن قلما كانت لهذه الأفكار تنبهات واعية علي مستوي السلطات الرسمية. ومع تراجع ما يدعي بالموقف القومي، صارت لفظة القومية في حد ذاتها مدعاة للإهمال وحتي للسخرية، وانسحب هذا التراجع في التعبير وفي الاهتمام، علي كل أفق مفاهيمي أو اعتباري لمسائل المصالح والتداعيات المخيمة علي أجواء السياسة والثقافة وقضايا الأمن الخاص، والاقليمي والقومي الشامل. وكان من نتائج هذا التراجع أن تلقي الضربات يحلُّ فُرادي قطرياً، لكن كوارثه تدمر الأمن القومي عامة.ليست الهزائم العسكرية وحدها هي المسؤولة عن تمزق اللحمة الطبيعية ما بين الكيانات. بل يبدو أن الأنظمة المحلية أو القطرية المستمرة، قلما استطاعت أن ترفع ممارساتها الي مستوي المسؤوليات الكبري المطلوبة منها، حتي في مرحلة المد القومي وبعض انجازاته الإيجابية النادرة، مما اتاحته هذه الانجازات من الفرص الإقليمية والدولية للإنقضاض علي واقع التجزئة وإحداث بعض المتغيرات النوعية في خارطتها، كان يمكن أن يطلق حركة ذاتية مؤسّسة وقادرة علي انتزاع شيء من المبادرة المستقلة عن الظروف الخارجية، والتي يمكن البناءُ عليها تراكماتٍ تاريخية لصالح مؤونة مستمرة، تغذي ركائز وعوامل موضوعية للأمن القومي، لكن ما جري كان هو العكس تماماً، إذ أضاعت معظم الأنظمة الموصوفة، بأدوارها القيادية في المحيط العربي، فرصاً سياسية ثمينة حسب التقديرات الاستراتيجية، وفي ظل ظروف دولية ملائمة نسبياً.ودون أن نمضي بعيداً في ماضي التجربة السياسية الداعمة لتنمية أمن قومي حقيقي، وأسباب تعثرها وإحباطها، يكفي فقط استرجاع هذه المرحلة التراجيدية الأخيرة من قصة انهيار الاستقلالات القطرية واحداً بعد الآخر، وبدءاً من ذلك الاستدراج الأول والأخطر الذي انزلق اليه النظام العراقي السابق مع احتلاله للكويت. فلقد وقع المحذور الأكبر في إحداث انقسام عنفي مطلق في بنية الأمن القومي سمح باصطفافات عجيبة داخل الصف العربي، وشرّع لأول مرة عودة التدخل الدولي العسكري في عمق الوضع الجيو سياسي للحالة العربية الشاملة، وقد افتتحت حرب الكويت، التي اشتركت فيها أكثر من ثلاثين دولة أجنبية الي جانب معظم الدول العربية وبقيادة أمريكية، افتتحت هذا الفصل الذروي من تفكيك الأمن القومي. وبالطبع كان الرابح الأول إقليمياً هي الدولة الصهيونية، بينما أصيب المشرق العربي بانفصام بنيوي حاد، كان من نتائجه الكارثية عودةُ أعلي أشكال الاستعمار الاحتلالي الي صميم المشرق بعد تدمير نظاميٍّ لحضارة العراق وشرذمة شعبه وتمزيق وطنه.هكذا أمست أمريكا هي اللاعب الأول داخل خطوط الأمن القومي وتفاصيله اليومية، بعد أن أمسكت جيوشها بمحاور المشرق من شمالي الجزيرة العربية وخليجها إلي عمقها السعودي. لم يتبق سوي ما يسميه الاستراتيجي زئيف شيف بكتلة الشمال، أي شمال إسرائيل، المؤلفة من سورية ولبنان وحزب الله، وكأن هذا الأخير، حسب تصنيف زئيف، يشكّل لوحده كياناً قائماً بذاته، أو دولة بمعني الكلمة. هذه (الكتلة) والأخيرة والمعاندة نسبياً هي التي ينبغي تفتيتها. وقد اعتبرت إسرائيل أن ما يؤسس قوة هذه الكتلة هو التحويل المستمر للتواجد السوري في لبنان إلي استيعاب واحتواء سوري له صائر نحو الاندماج التام بين الدولتين، مما سيحول مستقبلاً دون أي انفكاك ممكن بينهما أو يجعله صعباً بدون عملية تدخل شبه عسكرية من الخارج. هذا الوضع سوف يُخلّ بميزان التوازن الجديد والانتصاري الذي حققته إسرائيل منذ اتفاقية أوسلو، وتخلي حركة فتح عن الكفاح المسلح خارج فلسطين وداخلها، وانخراطها فيما اصطُلح عليه حسب مفردات أوسلو، بالشراكة مع الدولة العبرية، ما يعني أنه لم يتبق أمام إسرائيل، وفي خانة العدو إلا هذه الكتلة. وربما يتعاظم شأن الكتلة مع تجذّر التحالف الضمني بين سورية وإيران التي تكاد تحتل مركز الصدارة من العداوة مع تل أبيب والصهيونية العالمية، خاصة بعد عودة المحافظة المتشددة إلي حكم طهران، وتأكيد خطة التصعيد المعبر عنها في خطابات الرئيس الإيراني الجديد، الصريحة والحماسية.والآن، إذا ما أردنا حقاً أن نفهم (المايحدث) اللبناني السوري، منذ التمديد المفروض لرئيس جمهورية لبنان، وصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن، والخروج السوري الكامل من لبنان، ومقتل الرئيس الحريري، وانفجار ما دُعي بثورة الحرية في بيروت، وكل مسلسل الاغتيالات والتطورات والتداعيات المحتدمة طيلة النصف الثاني من العام الماضي، وإلي أيامنا الراهنة، نقول ان الفهم العلمي لكل هذا الصخب والغضب المتبادل بين دمشق وبيروت، لن يأخذ دلالته الاستراتيجية الصحيحة إن لم يوضع في موقعه المركزي من خطة تدمير آخر الخطوط الدفاعية للأمن القومي العربي.ويمكن اعتبار انطلاق المرحلة الحالية من تلك الخطة بمثابة استدراجٍ تالٍ آخر بالنسبة للاستدراج الأول السابق والمتحقق مع غزو الكويت ثم حرب (تحريرها) الدولية في مطلع تسعينيات القرن الآفل، وقد يجيء هذا الاستدراج الثاني تحت عنوان مباشر وهو اغتيال الحريري، لكن دلالته (التاريخية) تنصبّ في استراتيجية تفكيك الأمن القومي، وكمدخل إلي ـ تكتيك ـ يتتالي عبر تداعيات سياسية متصاعدة، تصل في نهاية الشوط إلي قلب موازين القوي كلها ما بين الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وحتي عمقه في إيران وما وراءها إلي أفغانستان، بحيث تغدو كامل هذه الأقاليم العربية والإسلامية، منطقة نفوذ وسيطرة مباشرة لأمريكا والصهيونية العالمية وبدءاً من مركزها الثاني: تل أبيب بعد واشنطن. مثلما نجح الاستدراج الأول بواسطة غزو الكويت في تحقيق كل أهدافه بكسر الدرع الأصعب للأمن القومي، والمتمثل في الحد الأدني من التضامن العضوي والعفوي المتوارث، ليس بين الدول المستحدثة فقط، ولكن بين شعوب الأمة الواحدة، كذلك يريد أن ينجح الاستدراج الثاني، وبواسطة الجريمة السياسية، وتداعياتها الجيوسياسية والاجتماعية والسكانية، في فصل التوأمة المتوارثة، وغير المصنوعة بيد أية استراتيجية دخيلة بين جناحي الشعب الواحد الذي هو في دولتين: سورية ولبنان.وربما سوف يُعرف أو يُكشف منفذ الاستدراج، ولكن يبقي السؤال الأساسي: من هو المخطط أو المدبر والموحي البعيد بتفجير الأوضاع كلها بين القطرين دفعة واحدة وعلي النحو الجاري منذ الشتاء الماضي، والمتصاعد بوتيرة شبه مدروسة. فالسؤال الأول عن المنفذين هو من مسؤولية القضاء، وتتابعه لجنة التحقيق الدولية رغم تعثرها الظاهر حتي اليوم من خلال التقريرين المنشورين، وفقدان القرائن المادية الحاسمة حتي الآن، وخاصة بعد تنصل الشاهد الرئيسي من إفادته الأولي أمام اللجنة، والانقلاب عليها كلياً في دمشق، وقد تفوز هذه اللجنة بأدلة أكثر فعالية بانضمام السيد خدام نائب رئيس الجمهورية السورية الي صف المعارضة، وترشيح نفسه لزعامة هذه المعارضة، فلدي هذا الرجل، الذي كان الوجه الثاني واليد الطولي، وربما العقل المفكر لقيادة حافظ الاسد ومنذ أكثر من ثلث قرن، لديه ولا شك خزين هائل من المعلومات والأسرار عن سيرة العهد الأسدي في مرحلتي الأب ومن ثم الابن.أما السؤال الثاني الأهم والأخطر والمتعلق بالكشف عن هوية ومسؤولية التدبير الأصلي والموحي بمخطط الاستدراج الكبير، فليس ثمة من سبيل الي الإحاطة بأبعاده إلا باستحضارٍ واعٍ لتلك الاستراتيجية المعلنة دائماً، والمتصدية من مرحلة الي أخري، لمصير الأمن القومي العربي، ومنذ نشأة معالمه الأولي مع دخول الوطن العربي في حقبة الاستقلالات وإنشاء الدول المستقلة السيادة، فقد استخدمت هذه الاستراتيجية تكتيكات متعددة ومتطورة بحسب تطورات التقدم المجتمعي والحضاري للأقطار البارزة الأدوار في التحولات العامة داخلها والمشعة بها علي محيطها، والفاعلة في معادلات التوازن الجيوسياسي الممسكة بدفة التوجيه الشاملة لمسيرة المنطقة، وبالطبع كانت الرقابة الاسرائيلية بالمرصاد دائماً لكل شاردة وواردة، تستنطقها دلالتها القريبة والبعيدة. وتحفز مؤسساتها الاستخبارية والأمنية علي وضع خطط التوجيه عن بعد أو التدخل المباشر. وربما يمكن الاعتراف بأن اسرائيل كانت دائماً السباقة الي استشراف التحولات العربية، والاستعداد للتعامل معها، وملاقاتها في بداية طريقها الي التكون بما يناسب من أساليب العمل ماوراء خطوطها بالذات، وليس فقط بالمواجهة المباشرة معها. الأمر الذي جعل النخبة الاسرائيلية الحاكمة تهنيء نفسها علي ما آلت اليه أحوال الأمن القومي العربي، بينما وصلت هي الي أفضل حال من انعدام أية تهديدات جدية لأمنها قد تصدر عن أية دولة مجاورة لها. ويمكن لهذه التهنئة للذات أن تبلغ كذلك ذروتها مع إنفراط عقد (الكتلة) الشمالية، كما تصطلح عليها استراتيجيتها، من حيث أن هذه الكتلة هي ما تبقي من جبهة الشمال. وقد حدث أخيراً للجبهة أن استقالت ليس من تسميتها فحسب، بل من مستقبلها الموهوم الذي علقت عليها كل آمال (الأمة) المؤجلة.ہ مفكر عربي مقيم في باريس9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية