قراءة في كتاب: تأملات حول المنفي لإدوارد سعيد.. تأملات في النقد الادبي والاستشراق وآلام المنفي

حجم الخط
0

قراءة في كتاب: تأملات حول المنفي لإدوارد سعيد.. تأملات في النقد الادبي والاستشراق وآلام المنفي

إدريــس الخـضراويقراءة في كتاب: تأملات حول المنفي لإدوارد سعيد.. تأملات في النقد الادبي والاستشراق وآلام المنفيتشغل أعمال إدوارد سعيد موقعا متميزا ولافتا ضمن جهود النظرية في مجال الدراسات النقدية والأنثربولوجية وتاريخ الأفكار. فمنذ أن أصدر كتابه الأول: جوزيف كونراد وقص السيرة الذاتية سنة 1966، مرورا بـ الاستشراق ((1978 ثم العالم والنص والناقد ((1983 و الثقافة والإمبريالية ((1993، لم يكف إدوارد سعيد عن إحداث خلخلة عـنيفة للمفهوم الحداثي للأدب والدراسة النقدية. فالحوار الثري والخصب الذي تمكن من القيام به مع أهم منظري ما بعد البنيوية مثل دريدا وميشيل فوكو، هو الذي مكنه من بلورة استقصاءات عميقة في صلب المعرفة، وتأسيس منظور جديد في التعامل مع النصوص كحادثة ثقافية تشتبك مع الخطابات والمؤسسات والأنساق الثقافية، الشيء الذي يستوجب قراءتها في ضوء هذه العلاقات المركبة التي تنسجها مع هذه المحافل بهدف الوقوف علي الطابع الدنيوي لهذه النصوص والعلاقات التي تقيمها مع كل أنماط القوة والسلطة مقاومة أو تواطؤا. وهذا المسلك الذي سار عليه إدوارد سعيد في قراءة الاستشراق الغربي من جهة والنصوص السردية التي تواطأت مع وجهة نظره أو حاورته هو الذي مكنه من أن يبين إلي أي مدي كانت الهيمنة الثقافية للغرب علي الثقافات الأخري سيرورة واعية وهادفة تحكمها إرادة أفراد وكذلك إلزامات مؤسسية تخترع حاجاتها وتصوغ كل موضوعاتها المتعلقة بالآخرين لأنها تنطلق من فهم للذات الغربية يري فيها عنصر تفوق عرقي وثقافي. وليس غريبا أن تغدو هذه الاستقصاءات اليوم من أهم مرتكزات النقد الثقافي والدراسات الثقافية والتاريخانية الجديدة والدراسات النسوية، وغيرها من التيارات الفكرية والراديكالية التي تمثل نوعا من الفكر المضاد والمقاوم.ضمن هذا الإطار يندرج كتاب إدوارد سعيد: تأملات حول المنفي ((1، والذي قام بترجمته إلي العربية الناقد السوري ثائر ديب، وقد صدر عن دار الآداب ببيروت السنة الماضية، ضمن القطع المتوسط (383 ص). وفي هذا المؤلف الهام يكشف إدوارد سعيد كالمعتاد عن عمق في التحليل والتأويل وقدرة علي استثمار مجالات معرفية متنوعة، ليس من أجل فهم الواقع وحسب وإنما بغية المساهمة في صنعه. وتلكم قيم علمية ميزت كتاباته السابقة وفي طليعتها: الاستشراق والثقافة والإمبريالية . وإذا كنا نجد إدوارد سعيد يسبر في هذا الكتاب المميز أغوار موضوعات متعددة كالمنفي والنقد والاستشراق والتذكر والهوية والقومية والتاريخ والأدب وارتحال النظرية..إلخ، فإنها علي تنوعها، تصب كلها في القضية التي شكلت انشغالا لافتا في منجزه الفكري وهي: التزام خط ثقافي واضح يناصر الحق ويقاوم ثقافيا كل أشكال السطوة، مهما كان مصدرها ومهما بلغت حدتها. وبهذا المعني فإن هذا العمل يتحاور ويتكامل مع الأعمال الأخري التي كتبها سعيد وعمل من خلالها بدأب علي تعبيد الطريق أمام وعي جديد بالآخر، لا يتورع عن مقاومة مظاهر التحيز في ثقافته، وانتقاد أشكال التناقض في تمثيلاته للآخرين.تغطي مقالات الكتاب فترة طويلة تقارب خمسة وثلاثين عاما، وهي فترة قضاها سعيد أستاذا للأدب المقارن بجامعة كولومبيا، ومثلت لحظة بارزة في مساره الحياتي. ولعل ما زاد من تعميق هذا الإحساس، كما ينقل سعيد، كون الجامعة التي اشتغل بها توجد بمدينة نيويورك التي كانت تمثل في ذلك الوقت بوابة العالم الأمريكي علي العالم، وقلعة لأجناس من البشر من ثقافات وأعراق وجغرافيات مختلفة، وحقلا لحركات فكرية وفنية راديكالية ومقاومة. وهو الوجه الذي بدأت ملامحه هاته في التلاشي بمرور الزمن، حيث غدت نيويورك موقعا رئيسيا من مواقع الإمبراطوريات الإعلامية والتكتلات الضخمة. ويحكي إدوارد سعيد عن الجو العام الذي كان يسود هذه المدينة إبان التحاقه بجامعتها، حيث كان النقاش الذي يخوضه مثقفو نيويورك علي أشده حول الستالينية والشيوعية، وهو النقاش الذي لم يجد فيه إدوارد سعيد ما يشده إليه، بالقدر الذي وجد في الأفكار المناوئة والمضادة للحرب ضد فيتنام، والتي كانت تفصح عنها بقوة كتابات فرد دوبي الأشد راديكالية وانفتاحا. وليس غريبا أن يتذكره سعيد بالتياع شديد في هذا الكتاب، لأن مقالاته ـ أي فرد دوبي ـ التي مثلت في ذلك الحين عملا تفكيكيا قويا بالمعني الفكري والسياسي، هي التي شجعت إدوارد سعيد علي الاهتمام بالأساليب الجديدة في التنظير الفرنسي وبالقص والشعر التجريبيين، وفوق ذلك كله بفن المقالة كطريقة لاستكشاف ما هو جديد وأصيل في زمننا بعيدا عن قيود الاختصاص . (2) هذا الاتصال بفرد دوبي هو الذي أوحي لسعيد بأن الطريق الذي يشقه لا يتقاطع بشكل أو بآخر مع مجلة البارتيزان ((3، لأنه طريق يتخلق من رحم نيويورك أخري غير مدينة الإمبراطوريات الإعلامية، من نيويورك جماعة الشتات من العالم الثالث وسياسات المنفي والسجالات الثقافية والحروب ضد الثقافة المكرسة. وهو ذات الموقف الذي أفصح عنه فرد دوبي من خلال دعمه القوي لإدوارد سعيد وهو الوافد الجديد والغريب علي هذه المدينة في ذلك الوقت. لم يكن ـ إذن ـ علي هؤلاء الغرباء واللاجئين والمنفيين بوصفهم نتاجا للتجربة المقرفة المرتبطة بالحرب الكولونيالية والتوسع الاقتصادي علي حساب أطراف أخري، سوي الانتظام في محيط جديد، حيث يشكل الإبداع بكل ألوانه وأنواعه أشد الأشكال الثقافية مقاومة وممانعة ضد من ينادون بامتلاكهم ثقافة نقية وعظيمة، ويوطنون في نفوس الآخرين الإحساس بأنهم إما عبيد أو دونيون أو شرقيون أو غير جديرين بالاهتمام والاعتبار. ومثل هذا الوعي المضاد لم يكن ليتبلور ويعبر عن نفسه من دون صعوبات أو عراقيل تحول دون قيامه. وتكفي الإشارة هنا إلي ما تعرض له إدوارد سعيد من كل ألوان المضايقة، حيث أحرق مكتبه بالجامعة، لأنه المفكر الذي ساهم بقوة في هذه المراجعة النقدية العميقة للمركزية الغربية، والتي مكنت القراء والنقاد من رؤية البؤس النسبي الذي تنطوي عليه سياسات الهوية والسخف الذي ينطوي عليه إثبات نوع من الأولوية التي لا يمكن الجزم بها في حقيقة الأمـر إلي أحـد التقاليد علي كل مـا عداه . (4) لقد دافع إدوارد سعيد عن فكرة أن المستقبل، كما تضيئه هذه الأشكال من التفكير التي يبلورها، لا يمكن إلا أن يتأسس علي الفكرة التي قالها تي إس إليوت ذات مرة، إذ لا يمكن أن يحرم الواقع من الأصوات الأخري التي تقطن الحديقة. ((5 ومعني ذلك أن المستقبل يمكن أن يكون مجديا حين يتأسس علي قيم التواصل والتعارف والاختلاف الندي والاعتراف المتبادل.من الصعب الإحاطة في هذه القراءة بجميع القضايا التي تثيرها هذه المقالات، فهي تتصل، كما قلنا سابقا، بالأدب والنثر الروائي العربي والسينما والرقص…، غير أن ما يربط بينها علي نحو بارز هو تشابكها، بوصفها ممارسات جمالية، مع السياسي، بحيث يغدو الإعجاب براقصات مثل تحية كاريوكا أو بنجوم سينمائيين مثل جوني (طرزان) وإيسمولر تعبيرا عن ذلك الحراك القوي، وعن المقدرة الحرة التي لم تستغرقها الحياة السياسية كلية ولم تقض علي ما فيها من تخلق وعنفـوان. و إذا دققنا النظر في ما يتناوله إدوارد سعيد في مقالات هذا الكتاب، أمكننا أن نلاحظ أن ثمة ثلاثة موضوعات هامة تلتقي عندها كل مضامين هذا العمل وهي: النقد الأدبي والاستشراق وألــم المنفي. وهي تتفاعل فيما بينها وتتقاطع، الشيء الذي يجعلها حاملة لتأثيرات أغلب التيمات التي شكلت هاجسا بالنسبة له، سواء كانت ذات طبيعة سياسية أو تاريخية أو جمالية. 1 ـ النقد الأدبي انطلاقا من السرد الذي يجلو المشترك بين من يعيش المنفي واللجوء والتهميش يدخل إدوارد سعيد إلي مناقشة تيمة مركزية في أعماله الفكرية وتتعلق بكيفية قراءة النصوص الأدبية وتأويلها بما يستجيب لمتطلبات التجربة التاريخية وأهميتها، وهو بذلك يرسم أفقا لما ينبغي أن تكون عليه وظيفة النقد في علاقته بالأدب. فلكي يبلغ النقد الأدبي ذلك المستوي من الوعي الحقيقي والمنتج بالظاهرة الأدبية بوصفها فعالية فكرية وثقافية وجمالية، فإن عليه أن يُقوّم الأدب علي أساس أنه عمل فرد منشبك في ظروف يسلم بها الجميع مثل الإقامة والجنسية والمحلة المألوفة واللغة والأصدقاء إلخ… (6) لكن كيف يمكن للدارس أن يجمع بين هذه العناصر وكيف يفصلها، وكيف يقرأ العمل وشرطه الدنيوي؟ فالنقد عندما ينشغل بالاشتراطات الدنيوية للأدب بملامحها السلبية والإيجابية سيحمل شحنة من القلق فريدة وعناية كبيرة بالتفاصيل، بما يجعله مختلفا عن ذلك النقد المكرس الذي كثيرا ما يلجأ إلي تتفيه هذه العناصر والاستخفاف بها وتجاهلها، إما بدعوة صيانة استقلالية الأدب، أو بذريعة أولوية البحث في شعرية الأدب بهدف فهم القوانين التي تحكم اشتغاله. وهذا النقد الذي رَعَاهُ بعض الحداثيين مثل تي. إس إليوت ودعاة النقد الجديد، هو الذي كرس القطيعة بين النصوص والتاريخ، واستبعد كل أوجه الحياة عن الفن. وحتي عندما يستحضر إدوارد سعيد نقادا آخرين كجورج لوكاش أو تلميذه لوسيان كولدمان أو كلينت بروكس أو بول دي مان، وغيرهم من الدارسين الذين تتبدي مشاريعهم النقدية منفتحة علي مرجعيات الأدب، ومتمردة علي الفهم الحداثي للأدب، فإنه يجد في أعمالهم ذلك التعبير عن الإجماع ذاته الذي ميز النظرية النقدية الغربية وحدد موقفها المستبعد للتجربة التاريخية اللصيقة بالتوسع الإمبراطوري ما وراء البحار بكل ما رافقه من إخضاع وإذلال وإسكات لأصوات شعوب وثقافات توجد خارج أوروبا. وبمعني آخر، فإن هذه الاجتهادات حتي وإن كانت تقول بالعلاقة المشروعة والمبررة بين المنتج الأدبي والسياق الثقافي العام، فإنها لا تذهب في فهم هذه العلاقة إلي مدي تستكشف فيه طبيعة العلاقة بين التمثيلات الأدبية والحركة التوسعية التي قادها الغرب باتجاه دول آسيا وإفريقيا والعالم العربي منذ القرن الثامن عشر. ولذلك فهي تبدو في مقاربة سعيد متواطئة ومنحازة.يعتقد سعيد أن ثغرات هذا النقد وتحيزاته تنكشف بمجرد ما يقابله المرء بتلك الإنتاجات التي تحققها الأصوات الجديدة لكاتبات نسويات يَعْـتبرنَ أن منجز النقد الأدبي قد تشكل في غياب تام لصوت المرأة. ويذكر إدوارد سعيد كتاب المجنونة في العلية لساندرا غيلبرت وسوزان غوبار، وهو كتاب يقر بأن ثمة حضورا أنثويا قد طرد إلي العلية بفعل إقصاء متعمد ومبرمج. وإن إغفال هذا الحضور أو الاكتفاء بملاحظته واحتجازه احتجازا صارما في مكان بعيد يعني إنكار شرعية تجربة جديرة تماما بتمثيل مساو .(7) وهذا لا يعني أن النقد النسوي قد نأي بنفسه عن الشكلانية وإغراءاتها، بل إن ما لفت انتباه القراء إلي هذا النقد هو قدرته علي المزج بين مقتضيات الشكل وإرغامات التجربة التاريخية التي طالما تجاهلتها النقاشات الأدبية ولم تعترف بها. وضمن هذا الإطار يندرج كتاب: اللعب في الظلام البياض والخيال الأدبي لتوني موريسون باعتباره مثالا ضافيا ومميزا. فما يشغله، كما يقول سعيد، هو الطرائق التي يحول بها الكثير من الكتاب خلفيتهم الاجتماعية إلي خصائص تنعكس علي مستوي اللغة وتولد التواءات وتشوهات فيها. ومن هذا المنطلق يمكن أن يفهم المرء انشداد إدوارد سعيد إلي كتاب مثل جوزيف كونراد وميرلوبونتي وسيوران وفيكو وتيودور أدورنو، لأن كل واحد منهم يقدم شهادة مقلقة، انطلاقا من تجربته التي قارع فيها ظروفا صعبة ومهددة لم يكن بالإمكان تجاهلها أو غض الطرف عنها. يميز إدوارد سعيد بين صنفين من النقد. فهناك أولا النقد الذي يعني بدراسة شاعر أو كاتب ما بهدف استجلاء كل المصادر التي شكلت تجربته الفنية وأغنت معانيها. وهذا النوع من النشاط يقوم به كولردج مثلا، أو يقرأ أدبا معينا كالأدب الإنجليزي ليستخلص من خلاله عناصر تقليد عظيم مثلما يفعل ليفس تحديدا. وهناك ثانيا النقد الذي يبدو في الكثير من تحققاته خارجا عن النقد منظورا إليه علي أنه نشاط له معاييره الداخلية الخاصة. وهذا الشكل من النشاط النقدي الأشد فردانية مثلما تجلوه أعمال تيودور أدورنو أو ر. بلاكمور يتميز بكونه لا يفصل بين الأشكال الأدبية والتجربة التاريخية، بل ينظر إلي هذه الأشكال باعتبارها ممارسات اجتماعية يقود الاستبصار الجيد لها إلي فهم أشياء ذات صلة بالمجتمع وقيمه وعاداته. وعلي هذا النحو فإن الأشكال التي قد تبدو للمرء أشد بعدا عن المجتمع كالموسيقي الغنائية والموسيقي الإثنا عشرية مثلا هي من أفضل الأمكنة لرؤية بصمة المجتمع علي الذات وما يحدثه فيها من ضروب التشويه أو التحدب والتقعر كما قال فريديريك جيمبسون . (8) ولذا فإن فعل النقد كممارسة يستلزم نوعا من الإيمان بالمستقبل وبالمشاركة في رسم ملامحه والإسهام في صياغته أو صنعه والتأثير فيه. وانطلاقا من النمذجة التي يقدمها بنجامين للأدب اعتمادا علي قراءته لمارسيل بروست حيث يميز بين أدبين أحدهما توجيهي وينطبق عليه ما يكتبه بروست والثاني مؤثر وتمثله كتابات بيغي، يطرح إدوارد سعيد تمييزا آخر بين نمطين من النقد ينضافان إلي التصنيف الأول. فهناك النقد الذي يحافظ دوما علي نوع من المسافة، بحيث لن تجد فيه ذلك الإصرار علي نقل رسالة إيديولوجية معينة إلي القارئ كما يمكن للمرء أن يستشفه من أعمال تيودور أدورنو، أما النمط الثاني فهو المكافئ لنموذج بيغي، إذ يراهن ممارسوه علي التأثير في القارئ بشتي الطرق الممكنة ودفعه إلي أن يأخذ ما يقدمونه ويستخدمه في غير مكان.ثمة عوامل عديدة مما يحيط بالنقد تجعل المرء يتصور له مستقبلا يشق مسارا آخر. فمن جهة هناك الاتساع الملحوظ في الثقافة الجماهيرية واختلال المعايير المحددة لما ينبغي أن يقرأ واحتمال أن يغدو النقد الذي يكتبه الأكاديميون هامشيا، فضلا عن الأصوات النسائية الآخذة في الظهور وكذلك أصوات المثقفين من خارج أوروبا.. وكل ذلك يضع شروطا مقيدة للنقد ومعينة لأفقه الذي لا مكان فيه للمنظوماتية والنظرية وإنما للتصلب الذي تفصح عنه تلك الممارسات من النقد المعارض ذي الوظيفة العلمانية والاستقصائية والمتحركة دون كلل.((9 فقوة هذا النقد الذي يدرج إدوارد سعيد ضمنه أعمال دوناتو لم تكن في أي مكان أكثر فائدة منه في الضغوط المتواصلة المبذولة ضد الامتيازات أو السلطة الممنوحة للنصوص الجمالية أو الثقافية علي أساس الطبقة أو العرق أو الجنس. فالرؤية المركزية الأوروبية للثقافة قد تآكلت بعض الشيء، ودعاوي الثقافات التابعة والتيارات النظرية التي تسير بعكس قاعدة البراغماتية الإمبريقية المسيطرة والقطيعة هي دعاوٍ محسوسة لا يمكن تجاهلها .(10). لعل الفكرة التي يمكن أن يستوحيها المرء مما يقوله إدوارد سعيد، هي أن النقد الذي تمثله المقالة بامتياز، لا يجد مكانه بين جدران الفصول الدراسية. فما يمارس داخل هذه الفضاءات هو نقد مهمته محافظة أو وصائية، فهو يكرس شكلا معينا للقراءة والتأويل، في حين أن النقد الذي يمكن أن يؤثر في المستقبل هو الذي يضرب بجذوره عميقا في المادة الاجتماعية والإيديولوجية، ويعبر الحدود بين التخصصات ويسقط الحواجز بينها. فهو لا يدافع عن مواقع مكتسبة بقدر ما لا يألو جهدا في التبرؤ من الصنمية الاستهلاكية وإنكارها ومقاومة أشكال هيمنتها. وإذا ما أدرك المرء أن التحولات التي تشهدها الثقافة الحديثة والتي تتجه إلي إبداع شتي الوسائل التي تتيح حكما سلسا للمواطنين وهمودا سياسيا، فإن النقد كممارسة فكرية ثقافية يغدو حضوره ملحا. ذلك الحضور الذي لن نتصور جدواه ما لم يدافع الناقد عن الأثر الاجتماعي لعمله وعن دوره التوجيهي كما يصفه غرامشي، ويعمل علي توضيحه بكل قوة. ہ باحث من المغربالهوامش:1 ـ إدوارد سعيد : مقالات حول المنفي، ترجمة : ثــائر ديب، دار الآداب، بيروت، لبنان 2004.2 ـ نفســـــــــــــــــــــه، ص 8.3 ـ البارتيزان ريفيو هي المجلة التي جمعت حولها جماعة المثقفين اليساريين الراديكاليين الذين عرفوا بمثقفي نيويورك. أسسها راف ونقاد آخرون. ومنذ عددها الأول الصادر سنة 1937 بعد أن أعيد تنشيطها، عبرت المجلة عن روح النضال ضد الفاشية والحرب والدفاع عن الاتحاد السوفييتي والدعوة إلي أدب البروليتاريا. ومن أهم كتابها من جماعة نيويورك ريتشارد شيس وإرفينج هو ولونيل تريلينج وإدموند ويلسون وألفريد كازن وفيليب راف، وقد ارتبط بها مثقفون آخرون. وقد شكلت الروابط بين السياسة والجماليات، الجدلية الأساسية لهؤلاء المثقفين الذين جمعوا بين الثقافة ذات الطابع الكوزموبوليتاني (المنفتح علي العالم) والسياسات الراديكالية. لمزيد من التوسع يمكن العودة إلي : فنسنت ليتش : النقد الأمريكـي من الثلاثينيـات إلي الثمانينيات، ترجمة : محمد يحيي، مراجعة وتقديم : ماهر شفيق، المجلس الأعلي للثقافة، مصر 2000، ص 99.4 ـ نفســـــــــــــــــــه، ص 14.5 ـ إدوارد سعيد : الثقافة والإمبريالية، ترجمة : كمال أبو ديب، الطبعة الثانية، دار الآداب، بيروت، 1998، ص 392.6 ـ إدوارد سعيد مقالات حول المنفي، ص 20.7 ـ نفســــــــــــــــــه، ص 26.8 ـ نفســـــــــــــــــه، ص108 9 ـ نفســـــــــــــــــه، ص: 111.10 ـ نفســــــــــــــه، ص: 111.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية