قراءة في أسباب الانحدار الفرنسي

حجم الخط
0

قراءة في أسباب الانحدار الفرنسي

د. محمد نعمةقراءة في أسباب الانحدار الفرنسيلا يمكننا الاكتفاء بالوقوف امام حرائق الضواحي الفرنسية لكي نعطي لوحة تحليلية كاملة عما يصيب الجمهورية الفرنسية من خلل. ان لهيب المواجهات التي اندلعت بين 27 تشرين الاول (اكتوبر) و17 تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة الفائتة بين السلطات الفرنسية وشبيبة الضواحي والتي ادت الي احراق 9 آلاف سيارة ومقتل ثلاث مواطنين (واحد سقط عرضياً واثنان توفيا صعقاً وشكل موتهم فتيلا لهذا التمرد)، وجرح المئات ومنهم 206 من الشرطة، وتوقيف اكثر من 3100 مواطن وسجن اكثر من 500 شاب واصدار اكثر من 570 مضبطة ايقاف بحق الجانحين، وهذا اذا اغفلنا ارقام الدمار الذي لحق بالمؤسسات العامة والخاصة. فان هذا كله يؤكد الانطباع بان كمية العنف هذا واتساعه علي مجمل الاراضي الفرنسية لم يكن علي الاطلاق سحابة سوداء في سماء صيف زرقاء. لقد بدا هذا العنف كحمي وكعارض من مجموعة عوارض تلف ازمة بنيوية عميقة وواسعة.ان الجمهورية الفرنسية تمر بأزمة مستفحلة بدأت عوارضها بالظهور منذ عام 1995. في تلك السنة تم انتخاب جاك شيراك رئيساً للبلاد وذلك دعماً لشعاره لا للشرخ الاجتماعي فاذ به يعين آلان جوبيه والذي دفع وللمفارقة بمبدأ الشرخ الاجتماعي الي حده الاقصي. فاذ بفرنسا تمتعض وتخرج احتجاجاً علي اصلاحاته النيوليبرالية ثم تدفع به بعد ذلك الي خارج الحكم. وبالتالي ان ازمة 1995 والتي اظهرت الشرخ الاجتماعي بشكله الحاد قد اطاحت باكثر الشخصيات قرباً من شيراك، والاكثر اتقاداً من اهل اليمين، وادت الي تعميق الشرخ بين الطبقة السياسية برمتها و الشارع الفرنسي، بعد ذلك ارتأي الفرنسيون معاقبة اليمين الحاكم طالبين من اليسار عبر انتخابات برلمانية استلام ادارة البلاد. ليونيل جوسبان تساكن مع شيراك المحافظ، فقام ببعض الاصلاحات الخفيفة او الملطفة والتي لم تؤذ اندفاعة وتجذر ليبرالية البني والقطاعات الاقتصادية لفرنسا ولم تغن قواها العاملة والمنتجة او المستهلكة. وبالتالي فان نظام التضامن الاجتماعي الفرنسي قد تم تفكيكه وهدمه من قبل اليمين واليسار معاً. فالفرنسيون لم ينسوا ان جوسبان قد خصخص قطاعات اقتصادهم اكثر من زعماء اليمين وبالتالي لم يعاقبوه فقط كما يدعي الاشتراكيون بسبب تراخيه في موضوع الخوف ومشاعر اللاامن عند الفرنسيين، ولو انه أخذ طريقاً اكثر تصلباً متماهياً بذلك باليمين الفرنسي وبطوني بلير، بل ايضاً بسبب ليبراليته المموهة واصلاحاته غير الجذرية. فقد تمت الاطاحة به اثناء خراب انتخابي مرعب لعام 2002، وهذا ورغم كونه الوزير الاول الاكثر شعبية منذ مدة طويلة. ان هذا الخراب الانتخابي قد أدي في الدورة الاولي الي وضعية سياسية فريدة بحيث كان اليسار واليمين المحافظ واليمين المتطرف متساوين تقريبا في التمثيل الشعبي. مما دل رمزياً علي شرخ تمثيلي وسياسي حاد بين الطبقة السياسية والناخب الفرنسي. اما في الدورة الثانية ان الخيار والذي فاحت منه روائح الخوف والانطواء عند الفرنسيين فقد بدا نتيجة لاندفاعهم نحو وضع ثقلهم خلف اليمين بجناحيه المتطرف والتقليدي.في هذه الاثناء وفيما بعد لقد مرت مجموعة من الاحداث ذات دلالات مهمة عن تقهقر سمعة فرنسا ونفوذها: نذكر علي سبيل المثال اولاً رشق الوزير الاول جوسبان بالحجارة في جامعة بيرزيت الفلسطينية وذلك رداً علي ما تفوه به من كلمات منحازة ومسيئة للمقاومات ضد اسرائيل ناعتاً اياها بالارهاب . ثانياً، خسارة جاك شيراك وطاقمه الحاكم وايضاً اليسار التقليدي لمعركة الاستفتاء حول الدستور الاوروبي، مما خدش صورة فرنسا العالمية وضعضع وزنها الاوروبي كما اصابت في الصميم هالة الرئيس الفرنسي وتأثيره الاوروبي.ثالثاً، خسارة باريس امام لندن بانتخاب العاصمة المنظمة للالعاب الاولمبية لعام 2012، وكيف استطاعت بريطانيا ورغم تمرغها في وحول حربها علي العراق ان تهزم فرنسا وذلك بفضل شبكة علاقات متشعبة ودعاية لا تخلو من حيوية شبابية تعكس الجو الفعلي للندن كفضاء منفتح ومتعدد الثقافات والاعراق، بينما استكانت فرنسا لعظمتها ولنفوذها الابوي الواهم علي امم حديقتها الافريقية واكتفت بدعاية لا تعبر الا عن ارستقراطية المكان وانكفائية الهوية.ثم جاءت سنة 2005 والتي تبقي سنة شؤم وارهاق لفرنسا والمنعطف الحاد لها. فنيران الضواحي اخذت تحرق ما تبقي من يقين في مثل الجمهورية وافكارها بالمساواة وبالاخوة وبوحدتها غير المجتزأة. فاذا بها تبدو ساحة انشطار بين جيلين، جيل المؤسسات برموزها وبكوادرها وجيل الشبيبة المقصية اقتصادياً، والمهمشة سياسياً او المحاصرة في ضاحيتها اجتماعياً واثنياً. ان هذا الانشطار والمزمن في المجتمع الفرنسي يعبر عن تفكك الموديل الفرنسي للاندماج الثقافي والمهني وايضاً للتعاضد الاجتماعي. انه ذاك الموديل الذي لم يتغير منذ الستينات والذي يرتكز علي الاقتصاد المدار من عل وعلي ثقافة الشركة المغلقة والمنغلقة علي الذات، وعلي قطاع عام ثقيل وشديد التمركز والذي يحكم علي فئات كثيرة وخصوصاً الشبيبة بالاقصاء من الدورة الاقتصادية ومن الدورة السياسية ويحولهم حصراً الي مستهلكين خانعين للموضة والموديل المتلفزين.انها انشطارات المكان والمكانة لدي الجمهورية والمستعصية للاسف علي الترابط او التضامن. امكنة عالية الامن والحماية والعناية وترمز للثروة وللسطوة وامكنة فقيرة غير آمنة ومسيبة ترمز للغريب المخيف او للقريب المقصي.ان سنة 2005 المشؤومة هذه والتي انتهت بهذا الحريق الهائل، فلقد بدأت اصلاً مشرعة لكل الاحباطات والتخيلات الدونية او الاستعلائية لدي مجموعات المجتمع الفرنسي المختلفة وذلك عندما قامت الطبقة السياسية : بمبادرة من اليمين الحاكم وبصمت اليسار علي اصدار تشريع قانون يشيد ويمجد بالحقبة الكولونيالية لفرنسا. فاذ بقانون 23 شباط (فبراير) عام 2005 وفي مادته الاولي ينص علي: ان الامة تعبر عن اعترافها للنساء وللرجال الذين ساهموا في منجزات فرنسا في المقاطعات الفرنسية: الجزائر، المغرب، تونس، في الهند الصينية وايضاً في الاراضي التي كانت سابقاً تحت السيادة الفرنسية كجزر الانتيل في المحيط الهادئ . اما المادة الرابعة من القانون فانها تشير بوضوح الي: التأثيرات الايجابية للاستعمار الفرنسي وخاصة في شمال افريقيا .ان التاريخ المقونن هذا يحسم السجالات بين قوي الحدث الواحد والمتباينة فيما بينها، ويحمي التمايزات بين التاريخ والذاكرة، بين الذاكرة الكلية الواحدة والذاكرة الخاصة بكل جماعة، بين الباحث والسلطة، وينفض يده من منطق التسويات الاجتماعية التي هي في لب فكرة الديمقراطية. تسويات بين الجماعات المختلفة والمكونة للجمهورية والتي تقوم علي قراءة واحدة للذاكرة مع امكانية كامنة ودائمة في التجديد والتساؤل، لكي تجد هذه الجماعات وكذلك الافراد امكنتها اللائقة في الذاكرة الجماعية.مع قوننة تاريخ المنجزات الاستعمارية هذه تنتفي حاجة الدرس والتمحيص، ويقفل باب الاجتهاد في مسائل جوهرية واقل ما يقال عنها بانها كانت ايضاً جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية. مع هذا القانون يفقد التاريخ الفرنسي ضرورته كارضية آمنة لاية قراءة مستقبلية متزنة ويذوي كنص قابل للتجدد وللتعدد. وذلك كي يصبح ايقونة سوفييتية تدل علي ايديولوجية النظرة الاحادية والمقدسة للحدث الاجتما_سياسي. ان هذا القانون يعكس ضيقاً فرنسياً واضحاً من التعامل العقلاني ليس مع حاضر الجمهورية وحسب بل وايضاً مع ماضيها، ان هذا الضيق يترجم في غياب فاقع لمعالجة مؤسساتية وجماعية بماضيها وحاضرها وبعلاقتها مع الآخر. والا لماذا هذا الغياب الطويل لاي جهد منهجي لدراسة مرحلة حكومة فيشي المتعاملة مع المحتل النازي؟ والا لماذا لم يتم الي الان انشاء حتي معهد او مركز واحد للدراسات كي يعتني بالضبط بمسألة ماضي الجمهورية الكولونيالي كما هي الحال في بلجيكا مثلا؟ لماذا وحتي الان لم يخطر ببال الدولة الفرنسية وعلي مدار كل حاضرها المابعد كولونيالي بان تؤيد او تدفع من اجل القيام بالابحاث اللازمة في هذه المسألة؟ فان كان تاريخ الجمهورية هو فعلاً مدعاة للافتخار فقط لماذا اذن هذا الهروب من التساؤل، هذا الرفض للبحث، وهذا الصمت الثقيل؟ هنا لا يمكننا الا ان نجيب بان الكبت هو سيد الذاكرة الاستنسابية وهو مدد للنرجسية المنتفخة للذات الخائفة من ماضيها ومن حاضرها علي السواء. ان هذه الجمهورية والتي تسهو وتفيق علي تراتيل ولادتها لحقوق الانسان وللديمقراطية العلمانية لم تزل تتشبث بالكبت كخيار لألطف الاوجاع. فبه يفقد التساؤل او الشك مبرره كي تنال الاوهام الوردية عن الذات مستساغها. لماذا هذا الخوف كله من القول بان تاريخ الجمهورية وتاريخ الاستعمار علي مدي قرنين كانا متحدين لا انفصام بينهما. لماذا والي الان لم يتم وبلغة رقمية كشف الحسابات لمعرفة ما قدمه اقتصادياً الاستعمار والاستعباد الفرنسيين للقارة السوداء؟ ان الاستعباد ليس هو كما تنظر له الطبقة السياسية الفرنسية مجرد حكاية من حكايات الاغريق القدامي. انه فعل عنيف متجذر في الزمان والمكان، موثوق بآهات الروح ومنقوش علي جسد الكثير من الشعوب اقتلاعاً واذلالاً. ان هذا القانون الاستعماري لا يأتي فقط كي يدغدغ بعض مشاعر الافتخار القومي لدي الفرنسيين ـ ولدواع انتخابية كذلك ـ والذين يشهدون انحسار نفوذهم العالمي والاوروبي شيئاً فشيئاً، او فقط كمناسبة حنينية لمنطوق لا ينسجم بتاتا مع عصرنا ذو الثقافات المتقاطعة والمتداخلة، والعولمة الخارقة للاوطان والهويات، انما مع عقلية القرن التاسع عشر او الثامن عشر والقائمة علي التصنيف العنيف والهرمي للتمايز والتذويب الدموي للثقافات. انه يأتي كتعبير امين عن ازمة طبقة سياسية تكتفي بالمراوحة والاستكانة لقدر الاشياء وقضائها. انه ذاك الصمم النفسي والذي يسحب نفسه علي العديد من مسائل اجتماعية حساسة ملحة وقابلة للانفجار: الشبيبة بقلقها التعليمي والمهني، الضواحي بعزلتها وبعوزها، العطالة عن العمل المتفشية والمتجذرة، متطلبات الاصلاحات السياسية والاقتصادية والادارية المنتظرة طويلا من هذه الطبقة السياسية وبيروقراطيتها المترهلة. انه الصمم النفسي الذي ترجم للتو في حالة الطوارئ التي لجأت اليها الحكومة الفرنسية لمواجهة تمرد شبيبة الضواحي، بحيث انه ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لقد لجأت الدولة الفرنسية لفرض حالة الطوارئ مرتين: الاولي عام 1955 وكانت موجهة نحو المهاجرين الجزائريين المتظاهرين من اجل استقلال الجزائر، والثانية بعد خمسين سنة وقد فرضت ضد احفادهم بالذات، شبيبة الضواحي والمقصيين عن دورة الاقتصاد والسياسة. انه الصمم النفسي وذلك عندما تدخل الدولة مع طبقتها السياسية بمنطق صراع وميزان قوي مع شبيبتها، رجال غدها. انه محبط بدلالاته التي تشير اولاً علي العجز عن تخطي السائد بوحدانيته الثقافية الي تعددية واعدة، وثانياً علي الجمود في النظرة لسياقات المواطنة المنفتحة، ومصائر السلطة وتوزيعها. اننا نقولها بمرارة، ان فرنسا تفتقد ومنذ مدة طويلة الي افكار ومفاهيم ومثل جديدة. هناك ثمة ضمور فكري واضح يصيب طبقتها السياسية، لا بل مفكريها. اين نحن اليوم من حقبة عمالقة الفكر الفرنسي امثال نجوم الظواهرية كجان بول سارتر وموريس مرلو بونتي ومفكري الفلسفة البنيوية مثل كلود ليفي ستروس، ورولان بارت ولويس التوسير وجاك لاكان، والمنشقين او المحاورين لها امثال ميشال فوكو وجيل دولوز، والذين تركوا بصماتهم الفكرية واضحة ليس علي الحياة الثقافية والاجتماعية في فرنسا او في اوروبا فقط بل تعدتهما لتصيب القارات الخمس. وهل يمكننا ان ننسي ايضاً اوائل نقاد ومفككي الايديولوجيا الماركسية والذين تصدرهم بحق المفكر ريمون آرون. فمنذ ان الغي فرنسوا ميتران عقوبة الاعدام عام 1981 وبقرار رئاسي ارادوي اولاً وذلك رغم عدم شعبية هذا القرار، فان هذه الجمهورية لم تات باي جديد فكري او مفاهيمي لا من اجل توثيق عري التوافق والتضامن بين مواطنيها ولا من اجل صيانة ديمقراطية تمتاز بكونها نظام حياة محكوم بثنائية التوازن والتجدد، ولا من اجل وقف النزيف الحاصل منذ مدة في سمعتها وحضورها الدوليين. لكن رغم هذا كله فان فرنسا الانوار لم تزل خزاناً لا ينضب من الطاقات والقدرات، ولا ينقصها اطلاقاً اي شيء سوي الحكمة والشجاعة لايجاد الفكرة والمثال اللائقين لتلألئها. لان انوارها لم يحن انطفاؤهــــا بعد. فحرام علي هذه الانوار ان تنطفئ. مدير مجلة مدارات غربية 8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية