في مجافاة الأصول السردية

الحكاء تقليد من تقاليد السرد القديم، تتلخص وظيفته في تمهيد الطريق للسارد كي يحكي، وما صار الحكاء تقليدا إلا لرسوخ دوره وسيطا بين المؤلف والسارد، فكان على المستوى الشفاهي يظهر مباشرة، ثم تطور فصار يظهر في قصة، هي إطار ويختفي ليترك للسارد أن يتولى مباشرة دوره المركزي في سرد قصص ضمنية، تتفرع منضوية في القصة الإطار. وشهد الحكاء على المستوى التدويني تطوراً آخر مهماً، ساهم في ترسيخه تقليدا سرديا، ويتمثل في ظهوره وسيطا بين المؤلف والسارد، فلا يكتب المؤلف نصا سرديا إلا وتزامن ظهور الحكاء معه، إما باستعمال التوالي السردي فيتكرر دوره مع كل نص تدويني، مما نجد مثاله في المقامات والمنامات، أو باستعمال التنضيد بأن يكتب المؤلف مقدمة لكتابه ويترك للحكاء أن يقوم بدوره بإسناد الحكي إلى سارد عليم، ما ساعد في إطالة السرد من جانب، وأضفى من جانب آخر على قالب القصة استقرارا مما نجد مثاله في «رسالة الغفران» والنصوص السيرية والرحلية والصوفية.
وما بين رسوخ التقاليد واستقرار قالب القصة، صار للسرد العربي القديم نظامه، وفيه للمؤلف مكانة مركزية يدل عليها التنوع في أوضاعه السردية، الناجمة عن التناوب في توظيف ضمائر الحكي (أنا/ المؤلف، أنت/ الحكاء، هو/ السارد) فضمير المتكلم يوظفه المؤلف ليعكس وضعا سرديا فيه هو كاتب القصة، في حين يستعمل ضمير الخطاب ليجعل الحكاء في وضع المواجهة المباشرة – متواليا أو منضدا- مع القارئ، ويستعمل ضمير الغائب لبناء وضع سردي فيه السارد مفصول عن المؤلف، لكنه في علاقة غير مباشرة مع الحكاء الذي يختفي كي يتمكن السارد من إحكام سيطرته على المسرود والمسرود له. ولا يظهر الحكاء إلا على مستوى ما بعد سردي، بوصفه نائبا عن المؤلف. ويعكس هذا التبدل في الأوضاع السردية حقيقة ما مرَّ به الحكاء من تاريخ طويل من التطور، تبدلت فيه أدواره، فكان رسوخ وظيفته أمرا طبيعيا، كمكون من مكونات النظام السردي القديم، سواء على مستوى التقانات أو الأشكال. وهو أمر كان معروفا في تأليف الكتب والرسائل الأدبية وغير الأدبية في مشرق البلاد العربية ومغربها.
إن رسوخ وظيفة الحكاء ومركزية المؤلف، تجعلنا نتساءل عن الأسباب التي جعلت النظرية السردية تتغاضى عن الحكاء؟ لأنها حسبته تكنيكا شفاهيا قديما تجاوزه الزمن ولا ضرورة له في السرد الحديث؟ أم لأن الكشف عنه لا يساير أغراض هذه النظرية ولا يماشي ما فيها من قواعد وأنظمة؟
لا شك في أن أي إجابة عن هذه الأسئلة تظل احتمالية، غير أن الأكثر أهمية هو ما تثيره الأسئلة نفسها من استغراب، فليس خافيا ما قطعته النظرية السردية من أشواط معرفية وإنجازات بحثية هي مثار الإعجاب والإشادة. ولعل للمدرسة الفرنسية القدح المعلى في ما حصل من تقدم في مضمار النظر التجريدي للفعل السردي، بوصفه فنا أو علما أو الاثنين معا، واحتل الإرث الهومري مكانة مهمة في ذلك كله، سواء من ناحية آليات الإبداع الشفاهي، أو من ناحية أساليب التدوين الكتابي.
وعلى الرغم من طول الباع الإجرائي والاقتدار النظري على بلورة فهم بنيوي، وما بعد بنيوي للنص وما بعد النص، فإن النظرية السردية وقعت في مآخذ ونواقص ومتروكات، استغلها المنظرون الجدد وعدوها هفوات وثغرات. الأمر الذي اقتضى إعادة النظر من أجل تأصيل مفاهيم جديدة بها تتلافى هذه النظرية نواقصها، وتستغور من ثم حقيقة ما للسرد من نظام، كان أدباء عصر النهضة قد بنوا عليه سردياتهم، وأقاموا تجاربهم فطوروا وحوروا واستحدثوا. ومن منظري المدرسة الفرنسية الذين سعوا الى تأصيل مفاهيم جديدة جيرار جينيت بكتابه «عودة إلى خطاب الحكاية» ووصفه بانه حاشية لكتابه «خطاب الحكاية» وفيه راجع آراءه، وردَّ على انتقادات منظرين غربيين، اعترضوا على تفسيراته لعلاقة المؤلف بالسارد والقارئ، واعترف جينيت بصحة بعض هذه الاعتراضات، وحاول تصحيح ما عده لبسا، مبررا المراجعة بأنها تمرين يأتي في ضوء ما حققته السرديات من تقدم أو تراجع.
ولا ريب بعد ذلك في أن يكون الحكاء ثغرة رئيسية في النظرية السردية، تجافى المنظرون الغربيون رسوخ وظيفته في السرد القديم، وتولدت عن هذا التجافي إشكالية المؤلف الذي أهملت مركزيته أيضا، مقابل علو شأن السارد ومتعلقاته من مقام ووجهة نظر وصيغة وصوت ووضع سردي، إلخ. ولعل أكثر المسائل تدليلا على مجافاة التنظير للحكاء – وما تركه ذلك من غموض على كينونة المؤلف وبسببها وجهت لجينيت اعتراضات كثيرة – هي مسألة التبدل في الضمائر، وما ينجم عنها من تبدل في الأوضاع التي هي في مبتدئها ومنتهاها من تبعات تقليد الحكاء بوصفه هو الفاعل الذي من خلاله يؤدي المؤلف دوره، ويقوم السارد بوظيفته إزاء كل من المسرود والمسرود له، بيد أن منظري السرد بكلاسيكييهم وما بعد كلاسيكييهم لا يريدون أن يستفهموا عن أمور لن ينفعهم البحث فيها، لأنها ستصب في صالح نظام سردي، لا يملكون في أدبهم نظيرا تأصيليا له، ومن ثم يكون الأسلم بالنسبة إليهم البحث في التبعات أو الفروع وترك المتبوع أي الأصول.
ولا يغير ترك الأصل وإنكار السابق من حقيقة أن النظام السردي موجود وحاضر، تدل عليه تقاليده التي عليها أقام السرد الأوروبي بنيانه، ثم طور بعضا من هذه التقاليد، أي أن هذا السرد وجد النظام متشكلا وراسخا، فاستمر يبني على ما كان مؤسسا قبله، فطوّر بعضا منه، وأضاف إليه آليات جديدة ونوع في الأساليب والتقانات. بعبارة أخرى نقول، إن تطوير ما كان أصلا وله تقاليد، سواء في جزء منه أو كله، لا يلغي حقيقة ما للأصل من تأسيس. وليس للمؤلف/ الروائي أو القاص أن يطور أو يبتكر من عدم، بل هو عادة ما يكون مستندا إلى تراكم كمي ونوعي سابق، متخذا من التجريب سبيلا، به يحقق بغيته في التجديد. وكان من نتائج التجريب في الرواية الحداثية أن ابتكر كتّابها جديدا بنوه على خلفية ما شاع من تقاليد سردية، فأجروا عليها تحويرات وتطويرات. وهذا ما أثار اهتمام بعض منظري السرد، لاسيما النقاد الجدد. وحاول ما بعد البنيويين تدارك الأمر بالقراءة والتلقي، وانفتاح النص، وافترض جينيت أن السارد هو الكينونة النصية التي لها وحدها أن تحدد الأوضاع السردية في القصة المثلية، أو القصة الغيرية. غير أن ذلك لم يحل إشكالية المؤلف من ناحية انفصاله أو اتصاله بالسارد وعلاقته بالقارئ.
وكان لتركيز فيليب لوجون في «السيرة الذاتية: الميثاق والتاريخ الأدبي) 1975 على السرد الأوتوبوغرافي، وموقع المؤلف من السرد والسارد، أن جعل جيرار جينيت يعترف بأنه يواجه خلطا بصدمة ما سماه لوجون «سيرة ذاتية بضمير الشخص الثالث». وأعرب عن تردده في تشخيص حال السارد (أقر بأن كل هذه الأوصاف القبلية والتبريرات البعدية تجعلني متشككا) ثم افترض وجود وضع إخباري (لا بد من التسليم بإمكان وجود أوضاع حدودية مختلطة أو ملتبسة). وإذا أضفنا إلى أتوبوغرافية لوجون وإخبارية جينيت، ما كان قد طرحه تودوروف وستانزال ودوريت كون وماك بال وغيرهم من إشكاليات أخرى، فإن الحقيقة ستتضح أكثر وهي، أن الحكاء ثغرة في النظرية السردية، وعلى المنظرين أن يعملوا على ردمها، فتودوروف مثلا وضع أطروحة في السرد العجائبي، ولم ينف إشكالية المؤلف وما سببته له ولغيره من شكوك لكنه برر الأمر بالقول: (إن انعكاسات التشكك ينبغي ألا تثبط هممنا. إنها تضطرنا فقط إلى الوعي بالحدود التي لا نستطيع تجاوزها. وهدف المعرفة هو الحقيقة التقريبية وليس الحقيقة المطلقة.. إن النقص ويا للمفارقة هو ضمان البقاء).
وبدءا من منتصف سبعينيات القرن العشرين ومرورا بتسعينياته، وصولا إلى وقتنا الحاضر، والبحث في (من يتكلم ؟) يمثل إشكالية كبيرة، لم توضع فيها فرضية نظرية قاطعة تعطي للمؤلف صورة واضحة مشتملة على مركزية دور الحكاء في السرد القديم واستعادة توظيفه مجددا في السرد المعاصر. ويبقى جينيت هو الأكثر اهتماما بمعالجة هذه الإشكالية، وما قدمه من مراجعات نظرية في كتابه (عودة إلى خطاب الحكاية) كان كافيا لأن يفتح الباب أمام منظري السرد ما بعد الكلاسيكي كي يقوموا بالتوسيع وإعادة النظر في المعالجات الجينيتية وغير الجينيتية.

كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية