في ‘عصفورية’ خطيب بدلة: مجانين مثقفون يمتلكون مبادئ يدافعون عنها!

حجم الخط
0

بلغت القصة السورية في هذا القرن تطوراً فنياً يفوق وضعها في العقود السابقة، لما شهده هذا العقد من غنى بالنظريات المطروحة في الساحة العالمية على مختلف الصعد، وبمصطلحاتها الجديدة، مثل البنيوية والتفكيكية ونظرية الاستقبال وغيرها.
قسم المؤلف خطيب بدلة مؤلََفه ‘عصفورية’ وهو قصص ساخرة إلى قسمين؛ القسم الأول (حكايات من خارج العصفورية)، ويتضمن القصص التالية: اليوم العالمي للمياه – من مذكرات انقلابي قديم – صفر في الإنشاء – البوزنك – بكاء عند الأهرامات – حكاية إنسان رقيق جداً – مزراب من ذهب – معقولة نتفق – قط (بريوي) في القن- من مذكرات حكم رياضي درجة ثالثة.
أما القسم الثاني (حكايات ميدانية من داخل العصفورية) ويتضمن هذا القسم قصص: اعتصام سلمي في العصفورية – لقاء مع المجنون أبي طرفة – السائق والمعلم – حوار مع المجنون أبي عبدو الفهلوي – مجنون الكهرباء – لقاء مع المجنون الرياضي.
جاءت قصص المجموعة بلسان راوٍ عارف بضمير المتكلم، في معظمها، كما جاءت بشكل القصة المألوف ‘مقدمة وحبكة وخاتمة’ ما عدا بعض القصص، كقصة ‘بكاء عند الأهرامات’ التي لم يضع لها القاص خاتمة تبين ما حصل في نهاية القصة، عندما شرع البائع بالبكاء مع عوضين، حيث يضع المتلقي أمام تساؤلات؛ فيا ترى هل اشترى منه تلك الأهرامات؟ ألا يجوز أن يكون البائع قد قدم مساعدة ما لعوضين لتحسين وضعه؟ أو قد يكون تأثر شعورياً ولا إرادياً، من دون العمل على مساعدته؟
وقصة ‘مزراب من ذهب’ عندما تحول عبد المجيد من إنسان فقير بسيط إلى غني شرير، محب للشهرة والرياء أمام الآخرين؛ حيث طلب من أبي محمود أن يحكي أمام ضيوفه القادمين من العاصمة حكاية والده حينما قتل الجنديين الفرنسيين ورماهما من شباك السرايا، لكن أبا محمود رفض مبدئياً الإقرار بحادثة لم تحصل، لكن حينما حوصر تماماً من قبل رجال عبد المجيد، وجد عبد المجيد يقول له: معك وقت.. من الآن حتى المساء.. فكر في الموضوع على مهلك …
فالسؤال يطرح نفسه أمام المتلقي؛ يا ترى هل سيفعل أبو محمود ما أمر به أم لا؟ وإذا لم يفعل ماذا سيحصل له؟
فالقاص ترك دوراً لمخيلة المتلقي، في تحديد الخاتمة أو وضع احتمالات متعددة للنهاية.
هذا مما يضفي المزيد من حرية الاختيار وإعمال المخيلة، وتحقيق المتعة في نفس المتلقي.
وكذلك في قصة ‘معقولة نتفق’، حيث صور القاص طريقة الانتخابات للمجلس النيابي بأسلوب فكاهي وساخر من تلك الانتخابات التي جرت في زمان قديم غير محدد في حارة غير مسماة منقسمة إلى حارتين؛ شرقية وغربية؛ حيث احتار الأستاذ إبراهيم في أمره – بين الحارتين – عندما فكر بترشيح نفسه لعضوية المجلس،إذ كان في اعتقاده أنه سيحصل على أصوات الناخبين من الحارتين، لأنه ليس داخلاً في أية تكتلات عائلية.
فقد ترك القاص في نهاية القصة للمتلقي حرية اختيار النهاية مثيراً في نفسه التساؤل عما إذا كان المرشح إبراهيم سيتابع ذهابه وإيابه ما بين الحارتين للحصول على الأصوات؟ وهل سينجح مرشح في مثل تلك الانتخابات المعتمدة على حارتين ضمن بلدة كبيرة يحتاج فيها الناخب إلى أصوات العديد من الحارات للفوز بالانتخابات؟ كما نجد في مضمون هذه القصة ما ينسجم مع عنوان هذه المجموعة القصصية ‘عصفورية’.
وتعالج قصص المجموعة موضوعات متعددة بأسلوب ساخر، حيث تلعب الذاكرة دوراً مميزاً في استرجاع هذه الأحداث، كما عبرت لوحة الغلاف بصورة قلم مبري ضجر يشكو الويلات مما يلاقيه، عن مضمون هذه القصص الساخرة، خير تعبير.
وموضوعات القصص بدورها تصنف في قسمين واضحين، يربط بينهما خيط واضح، هو حكايات عن المجانين خارج العصفورية وداخلها، بيد أن هؤلاء المجانين ليسوا بمجانين عاديين، فهم من طبقة مثقفة وواعية تمتلك قيماً ومبادئ تتمسك بها وتدافع عنها.
كما فيها قصص رشيقة وقصيرة من دون تكرار ولا إطالة، تنقلت موضوعات القصص بين الوطني السياسي، والإنساني والاجتماعي، وكان للمرأة حضور بها، أعني القضايا التي تعاني منها المرأة الشرقية، كقضيتي الحجاب والشرف، كما في قصتي ‘البوزنك’ و’من مذكرات انقلابي قديم’.
حيث تطرق القاص في قصته ‘البوزنك’ إلى فكرة الزواج من امرأة سافرة متبرجة، غير محتشمة مثل حسيبة، وركز على فكرة الزواج من امرأة محتشمة مستورة، فهذا من طباع أهالي البلدة.
إلا أن البوزنك أحبَّ حسيبة وصمم على الزواج بها. وأراد أن يثبت أنه إذا تزوج حسيبة يجعلها سيدة بيت ترفع الرأس (وربما كانت هذه الفكرة في رأسه تعويضاً عن نقص نفسي يعانيه).
كما يمكن أن تكون نظرة أهالي البلدة إلى المرأة المحجبة ـ دون غيرها ـ بوصفها قدوة في الشرف والطهارة يمكن أن تكون خاطئة، لماذا؟ لأن موضوع الأمانة والشرف هو أمر ذاتي معنوي داخلي ينبع من النفس الإنسانية الداخلية، فقد أثبتت حسيبة طهارتها وأمانتها لزوجها عندما بعثت خبراً لزوجها – عن وفاة نورية وبأن نورية هي ابنته مع محمد الذي كان يصعد إلى السطوح ويراها عارية، على الرغم من أنها لم تتستر، لم تنظر إليه أية نظرة فيها خيانة لزوجها.
وفي قصة ‘من مذكرات انقلابي قديم’ نرى أن زوجة الانقلابي لم ترض عن أمر مرافقتها إياه إلى قصر الملك من دون حجاب، وفضلت الطلاق والاستغناء عن حقوقها على ذلك الأمر.
وعلى صعيد الموضوع القصصي السياسي يقارن القاص بين حالتي السياسة والسياسيين بين البلاد الشرقية والبلاد الغربية. مقيم في فيلا فخمة بسويسرا بصفة لاجئ سياسي، سعيد لارتدائه ثيابا أوربية أنيقة، يشعر بالدهشة والاستغراب من السياسة في بلادنا الشرقية، حيث يصبح بعض العمال أو الفلاحين حكاماً تعبدهم الجماهير، بينما يساق آخرون إلى السجون لإعدامهم، باسم الله والوطن والشعب.. لكونهم متآمرين، خونة.
ومن ينج من الإعدام كما نجا هو، تفتح له البلاد المتحضرة أبوابها على مصراعيها، باعتباره لاجئاً سياسياً.
كما عبر القاص على الصعيدين الإنساني والاجتماعي خير تعبير، في قصة ‘حكاية إنسان رقيق جداً’ وقصة ‘صفر في الإنشاء’، عن ذلك الواقع، وتجلياته في النفس البشرية .
فقد برع الكاتب خطيب بدلة في تقديم صورة لواقع إنساني اجتماعي بأسلوب ساخر، ومؤثر في نفس المتلقي، حيث تحدث عن رجل يدعى أحمد، وهو طيب ورقيق وشفاف، بيد أنه كسول، مسترخي، متطامن، بخلاف زوجته التي تحثه كي يعمل، ويصرف على عياله، ويعيش بين الناس بشرف، والعمل هو أن يأخذ مبلغاً من المال كانت قد ادخرته لغدر الزمان، ولكنها اكتشفت أنه أكبر غدر من غدر الزمان،المهم أن يأخذ المبلغ ويشتري به كديشاً فتياً، وينزل به إلى السوق، ويقف بجواره، ويحمل عليه أشياء من يريد ايصالها إلى منزله لقاء أجر معلوم.
بيد أن هذا الكديش من النوع الكديشنجي (قياساً على النسوانجي)، فما إن يرى طيف كديشة عابرة، حتى ينط في الهواء، ويوقع أحمد والأشياء المحملة على ظهره أيضاً، ويجري وراءها مسرعاً.
فتحتدم المشكلة بين أحمد وزوجته حتى اقترحت عليه (بخصي الكديش)، مما أثار أحمد رغم برودة أعصابه، قائلاً: إن هذه العملية ليست كديشية؛ قصدي ليست إنسانية، فلو تعرض أي إنسان ذكراً كان أو أنثى لمثلها، هل يبقى لحياته معنى؟). لكنه أذعن لأوامر زوجته، بنفس حزينة، متألمة.
أخيراً مات الكديش، فأشارأحمد إلى رأسه: ‘نحن هون خالصين’.
وبلغة بسيطة تتضمن بعض مفردات من الكلمات العامية واليومية المتداولة، وبأسلوب خالٍ من التعقيد يضج بالسخرية، وبالوقت نفسه بالأسى والحزن على هذا الواقع الإنساني والاجتماعي الرديء الذي يعانيه بطل القصة، أنهى القاص قصته مبيناً عدم قدرة البطل بمفرده على مواجهة المجتمع، أو لبساطة ورِقِّة وشفافية هذا الفرد، وربما لسوء الحظ الذي لا مفر منه في تأمين عيشة كريمة له ولعياله.
وكذلك في قصة ‘صفر في الإنشاء’ عندما طلبت معلمة اللغة العربية من طلاب الصف الخامس أن يكتبوا موضوعاً عن المطر، وكان أكثر الموضوعات التي تسلمتها المعلمة غرابة ومدعاة للتأمل هو موضوع يبدؤه كاتبه بعبارة: أنا أكره المطر. حيث يعبر التلميذ عن كرهه للمطر لأسباب عدة أهمها ما يعانيه من شعور بالبرد القارس والتعب والتقصير بالدراسة، وذلك كله ناجم عن الفقر (فقر والده).
فالكاتب يسلط الضوء على الواقع المعاش والجانب الإنساني فيه بطريقته الخاصة التي شكلتها عوامل عدة أهمها: ثقافته الأدبية والسياسية، وبيئته الجغرافية والاجتماعية، فضلاً عن ظروفه الاقتصادية ومرحلته العمرية.
معتمداً في أسلوبه على تحويل البنية الحكائية المتعلقة بيومياته إلى سرد قصصي، لينقل مفارقات حياتية ومشاهد أثارت اهتمامه.
الحكاية ضمن الحكاية:
يسرد القاص خطيب بدلة قصة داخل قصة، متأثراً بأسلوب القص المدون التراثي، والحكايات الشفهية الشعبية، محاولاً الاستفادة من هذا الموروث القديم وتوظيفه في سرد معاصر. سواء عن طريق اعتماد الراوي الذي لا يخلو من طرافة محببة، كما في (المقامات) أو تضمين قصة داخل قصة كما في (ألف ليلة وليلة). وذلك باستخدام بعض المفردات والعبارات العامية المتداولة طلباً للمزيد من التصوير المباشر.
وكان هذا على حساب البنية السردية وانحيازاً صريحاً للواقعية التسجيلية. ففي قصة ‘اعتصام سلمي في العصفورية’ ينتقل القاص بالكتابة من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب لمخاطبة القارئ والتحاور معه، من خلال إبداء رأيه في تلك الواقعة، بأسلوب ساخر. فهو ليس مع زميلهم (أبو نبيرة) لأنه عنيد، ولم يسمع منهم بأن المسايرة ضرورية في بعض الأحيان، فمع أن الاسم الرسمي لعصفوريتهم: العصفورية العربية (الديمقراطية) العليا .. فقد أصر على أن الديمقراطية غائبة، وبنسب مختلفة، عن الدول العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج.
إذ يسرد القاص ضمن حكايته عن زميلهم في العصفورية حكاية عنترة بن شداد، كيف كان عنترة يحارب، والسيوف الهندية البيضاء تقطر من دمه، والرماح الشبيهة بحبال الجب تنغرز في صدر حصانه الأدهم، وهو يتذكر وجه عبلة، فيقذف بنفسه باتجاه السيوف يريد تقبيلها لتخيله بأن لمعانها يشبه لمعان فم عبلة.
وبعد زعم أبي نبيرة أن الديمقراطية غائبة في البلدان العربية، أصبح حاله مثل حال المسكين عنترة، فلم يبق ضمن الحدود الاقليمية للعصفورية عاقل أو مجنون، مدير، أو موظف أو سائق مبيت، أو… إلا وهاجمه ووقف ضده.
نلحظ أن القاص سرد حكاية مناسبة لموضوع حكايته ضمن القصة، وهي من الموروث القديم، ولا يخفى ما في ذلك من جمالية وإبداع في السرد القصصي.
ولو عدنا إلى موضوع العناوين التي اختارها الكاتب لقصته ‘اعتصام سلمي في العصفورية’ ومن ثم اختياره – بشكل عام ـ لعناوين قصصه، يمكن أن نلاحظ بسهولة نجاحه، ودقة اختياره لكثير من عناوين القصص، خاصة في هذه المجموعة التي بين أيدينا – فعلى سبيل المثال- نذكر بعض العناوين (من مذكرات انقلابي قديم – البوزنك ـ مزراب من ذهب ـ معقولة نتفق؟ – لقاء مع المجنون أبي طرفة ـ لقاء مع المجنون الرياضي…). فهي عناوين لافتة بحق وتشد انتباه القارئ واهتمامه في البحث والقراءة ليكتشف ما وراءها وما تخفيه، كما تثير في نفسه المتعة والضحك.
الوصف: ونجده حريصاً في كثير من المناسبات، في كتاباته،على الاستغراق في الوصف، وصف المكان، والشخوص والطبيعة وكل صغيرة وكبيرة يجدها تنتمي بشكل أو بآخر إلى الغرض المقصود، كي يبقيها حية وطازجة في رؤى المتلقي.
وهو في كل ما كتب كان حريصاً على تكريس الأمكنة، من خلال كتابة واقعية (إن صح التعبير) مصحوبة بنوع من الفكاهة والسخرية، وذلك عن طريق ملامسته هموم اجتماعية، وإنسانية وسياسية.
واللافت في أمر سلكه في الكتابة أنه لم يخرج في كل ما كتب عن الواقعية، ولأن نقل الواقع كما هو ليس إبداعاً كما يقول النقاد، لابد أن يلاحظ المتلقي أثناء قراءة نتاجات القاص خطيب بدلة أنه يحاول أن يخرج من خلال عبارات وجمل إبداعية منتقاة عن ذلك الرتم الواقعي، وإن لم يكن خروجه في السياق، ومن خلال إغراقه في الوصف، لكن ذلك كله يأتي على أجنحة إيقاعات سهلة ورشيقة وشيقة، فهو لا يجنح للإطالة والتكرار الممل كما في كثير مما نقرأ ونسمع، وغالباً لا يخرج عن النص، بل يحرص على العمل في دائرة وحدة الموضوع الذي يختاره.
وكمثال على ما أقول سآتي بواحدة من قصص المجموعة، وهي بعنوان ‘حكاية إنسان رقيق جداً’ وهي قصة بسيطة وسهلة وواقعية، وتحمل فكاهة وسخرية من ذلك الواقع الإنساني والاجتماعي الذي يعيشه ذلك الرجل الطيب الرقيق الشفاف والكسول.
كما خرج الوصف عن إطار وظيفته التزيينية إلى التفسير والإبهام والترميز، وهو ما نجده في’عصفورية’ أبهى صوره، فالكاتب لا يكف عن وصف الشخصيات المحيطة به، ووصف الواقع المعاش، وتفاصيل الأحداث المرتبطة بالحياة اليومية بأسلوب ساخر.
فمن الوصف الفيزيقي للشخصية الذي ينصب على ملامحها الخارجية، كما في قصة ‘اليوم العالمي للمياه’، ‘شاب متوسط الطول ‘، إلى الوصف الترميزي الذي يشير إلى الانقلابات السياسية والواقع السياسي في البلاد الشرقية، كما في قصتي ‘من مذكرات انقلابي قديم’، و’معقولة نتفق؟’ ثم إلى الوصف النفسي والإنساني، كما في قصة ‘حكاية إنسان رقيق جداً’ ذلك مما يورث المتعة والتشويق في نفس المتلقي .
تشكيلات المكان
تتجلى أهمية المكان في صياغة الوجود بأبعاده كافة، لارتباطه الوثيق بالحياة ذاتها، وبأحداثها المختلفة التي تستمد منها الفنون على تعددها العناصر المجسدة لقوامها ولمبتغاها الإبداعي، الذي سخرت رسالتها من خلاله من أجل الإنسان وأحلامه في حياة كريمة، يتحقق فيها الواقع المرغوب والمشتهى الذي سعت إلى تصويره الأنشطة الإنسانية المتعددة، ومن ضمنها الكتابة الإبداعية، متخذة من المكان مرتكزاً مهماً وتقنية أساسية في تجسيد ما قامت من أجله، وهو ما يتبدى جلياً في العديد من الأعمال والنتاجات الإبداعية على المستوى الإنساني.
ونلحظ ذلك في العديد من قصص القاص خطيب بدلة في مجموعته عصفورية، حيث جعل من مدينة إدلب وبيئتها الاجتماعية منطلقاً لتجسيد تلك الشخصية الشعبية، فلا تكاد قصة تخلو من ذكر مدينته أو بلدته أو الحديث عن بيئة البلدة وعاداتها الاجتماعية المعروفة.
البنية/ السرد
السارد المهيمن الذي يتسلم من الكاتب بين الفينة والأخرى زمام السرد ومنع القيام ببعض الأدوار المنوطة بالشخصيات، لأن السارد المهيمن لا يتردد التغلغل ضمن عملية القص والتعدي عليها عن طريق الوعظ أو التعليقات أو الإفصاح عما يجب التفكير به، كما يعبر رولان بورونوف، في حين أن الصورة المثلى لدوره تكمن في انسجامه مع دور الشخصيات وبتواريه خلف نشاطها من دون الإخلال بحركتها؛ فيكون غير مرئي، وقديراً في مساهماته ومواكبته سيرورة الحدث، وهو ما نجح به القاص في الأماكن التي رافق بها الراوي بطل قصته حين قام بجولته الأخيرة، جاعلاً دوره مقتصراً على نقل هذه الجولة بجملة وصفية لمظهرها الخارجي.
كما في قصة ‘من مذكرات انقلابي قديم’ حيث يورد القاص ملاحظتين؛ الأولى: يبين فيها عدم ذكره في القصة لاسم الشخص الانقلابي الذي تعود له الأوراق، وتاريخ الأحداث التي يتحدث عنها، وذلك بناءً على طلب صديقه.
أما الملاحظة الثانية: فيوضح فيها ما سيقوم به في سرد القصة بأنه سيقوم بعملية انتقاء لتلك الأوراق التي يراها مهمة وخطيرة.
وفي قصة ‘لقاء مع المجنون أبي طرفة’: نجد ملاحظة يتطرق إليها الكاتب- ليدلل على الفكرة التي أراد توصيلها للقارئ، وهي صفة البخل في ذلك الرجل- بأن المعدل الوسطي للدفع في تلك الأيام بين مئة ومئتي وحدة نقدية من وحدات بلدنا، إلا أن هذا الرجل لا يريد أن يدفع للمومس سوى خمس وحدات نقدية، أيضاً، مما يدل على شدة بخله، أنه لم يتزوج بعد وفاة زوجته.
وفي قصة ‘حوار مع المجنون أبي عبدو الفهلوي’ نلحظ تداخلاً بين السرد والبنية الحكائية التي نراها على لسان القاص، حيث يقول ‘انتبهوا إلى الخلط الذي يتعمده زميلنا أبو عبدو الفهلوي في الرواية فعلى أيام جرير ومربع لم يكن ثمة سيارات’.
فيتماهى القاص خطيب بدلة مع نصه باستخدامه بنية حكائية متعددة الدلالات، ومتعددة المستويات، وتحويل ما هو شعبي إلى بنية نصية مفعمة بالانفتاح على واقع اجتماع وسياسي واقتصادي، مستخدماً قدرته الفائقة على استكناه المفارقة الدلالية والتعبيرية، ودائماً ينجح في انفتاح هذا النص لعدم تحديده أو عدم وضع ضوابط له، لأنه منشغل أكثر بالعالم المحيط به، ومنشغل أكثر بالتعبير وبكافة الوسائل والطرق عن هذا العالم المليء بالمفارقات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية