في رحاب الأكروبوليس: الاشتراكية ما تزال موجودة!
محمد بنعبد القادرفي رحاب الأكروبوليس: الاشتراكية ما تزال موجودة! قبل أن تتخذ الاشتراكية صيغة عقائدية جامدة كانت ردة فعل اخلاقية ضد جموح الرأسمال واتساع الفوارق بين الناس، وقبل أن تنغلق في قوالب مذهبية جاهزة كانت بالأحري اندفاعة فلسفية مستنيرة تجترح أسئلة التضامن والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر.وأي مكان في الدنيا يليق باستعادة ملكة الاندهاش واستئناف السؤال الفلسفي غير أثينا مهد التفلسف وترويض العقول؟هنا تحت ظلال الاكروبوليس اجتمع الاشتراكيون من كل البقاع والآفاق لمساءلة الذات والعالم، وكأنهم جاؤوا لتقويض البداهات أو لاستلهام أصداء تلك الهمسة السقراطية الخالدة اعرف نفسك ، من أجل أن يعيدوا صياغة السؤال حول ما تبقي في الذات الانسانية من خير وحق وجمال.هنا بقايا أصوات مخلخلة وبقايا سحر آسر، علي الشمال تماثيل مرمرية للعذراوات التي تقوم مقام الأعمدة، وعلي اليمين مسرح دينوسيوس الذي منه خرجت الملاحم اليونانية القديمة وعلي خطوات تبدو هضبة الاكروبوليس مثل معشوقة مهجورة في ثياب العرس.في رحاب هذه الاثينا التي صدرت للدنيا التراجيديا واللوغوس والديمقراطية، عقدت الأممية الاشتراكية مجلسها لتعميق النظر وحشد المبادرات من أجل قضايا السلم والديمقراطية والتنمية وحوار الحضارات.فمن أين يبدأ السؤال، أمن عتبات الالفية الثالثة أم من حطام القرن الماضي؟ فلتعد عقارب الساعة قليلا الي الوراء.من أول طلقة نارية في الحرب العالمية الأولي الي آخر صخرة هوت من جدار برلين، يمتد قرن من اعنف القرون في تاريخ الانسانية، وكان بحق كما سماه المؤرخ ايريك هوبزباوم L’age des extremes عصر الاقاصي، عصر التراجيديات الكبري والتقدم الاعظم، عصر الحروب المدمرة والشموليات الطاغية والازمات الخانقة، ولكنه كان ايضا عصر استقلال الأمم وسيادة الشعوب وانهيار الاستبداد وتحرر النساء وانتشار القيم الكونية للديمقـــــراطية وحقوق الانسان، وكان ايضا عصر تقدم العلوم والتقنية والتنمية الاقتصادية.وفي كل ذلك كان صوت الاشتراكية حاضرا بقوة، فقد ساهم الاشتراكيون غداة الحرب العالمية الثانية من موقعهم في انبثاق عالم جديد وفي تأسيس الأمم المتحدة، وفي تأكيد المبادئ الانسانية واستقرار النظام العالمي.القرن العشرون كان ايضا قرن الايديولوجيات. اذا كان بعضها يلغي الكرامة الانسانية في آخر حساباته، فإن بعضها ينحو الي الشمولية في عمق رهاناته. ولئن كان الاشتراكيون الديمقراطيون مرتاحين اليوم لانهيار هذه الانساق التي تسحق القيم الانسانية وتخنق انفاس الفكر، فإنهم لا يرون في ذلك أية نهاية للتاريخ أو أفول للسياسة، و انما فرصة ثمينة لتجديد الفكر واستئناف النضال.لقد اندحرت الفاشيات، وانهارت الشمولية السوفياتية، واختفت الديكتاتورية من عدد من المواقع، واستمرت الحركة الاشتراكية الديمقراطية تعبر مسالك القرن الماضي بكثير من المعاناة لتطل علي القرن الجديد بتوهج قوتها الاقتراحية، وبراهنية اسئلتها وقيمة الاجوبة التي تقترحها لحل مشاكل العالم.غير ان الاشتراكية لم تعد اليوم نظاما للانتاج وتنميط المجتمع، وانما مجموعة قيم انسانية ورؤية للتاريخ والثقافة. فهي لا تجعل من الســــوق قيمة وانما اداة فعالة يتعين ضبطها لتكون في خدمة المجتمع، اذ لا تخلق السوق في ذاتها اي معني ولا تبلور أي مشروع، ولا تمحو بالتــــالي متطلبات العقد الاجتماعي الذي يجعل مجتمع المواطنين، من خلال التداول الديمقراطي، ســــيدا لنفــــسه ومنتجا لقيمه.لا تقدم الاشتراكية الديمقراطية نفسها اليوم كمذهب عقائدي ولا تدعي لنفسها اي تفسير علمي للعالم، لكنها ترفض بالمقابل كل نزوع نحو تبضيع المجتمعات، فلا عمل الانسان بضاعة ولا منتوج العقل سلعة، ولا البيئة الطبيعية مخزون لا ينضب، ولا المسؤولية ازاء الاجيال القادمة قابلة للمتاجرة.الاشتراكية الديمقراطية سابقة علي الماركسية وباقية بعد الماركسية، وستبقي بالنسبة لملايين النساء والرجال أفقا سياسيا وأخلاقيا مفتوحا لنقد الرأسمالية وكبح جماحها، ولإشباع تطلعات المجتمعات البشرية نحو العدالة الاجتماعية، ونحو ازدهار الفرد في نطاق التضامن واحترام كرامة الانسان واستدامة البيئة.ذلك ما أكده جورج باباندريو زعيم الاشتراكيين اليونان في خطابه امام مجلس الأممية الاشتراكية بعد انتخابه رئيسا لها، اذ حث علي قيام الأممية بدور فعال في دمج المهاجرين ودعم المرأة والقضاء علي الفقر والبطالة، وعلي اسهامها كذلك في جهود المجتمع الدولي من أجل بناء عالم أكثر سلاما واستقرارا وتضامنا.بعد انهيار جدار برلين سنة 1989، هلل البعض لأفول الاشتراكية الديمقراطية، وذهب البعض الآخر الي حد ادعاء اختفاء اليسار ولاجدوي السياسة، وبعد ثماني سنوات كانت مدينة نيويورك تحتضن المؤتمر العشرين للاممية الاشتراكية (شتنبر 1996) الذي توج بانضمام اربعة وثلاثين حزبا من الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية في امريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا وافريقيا، وما زالت تتوالي الانضمامات حتي بلغت العضوية مائة وسبعين حزبا، مما أكسب الأممية الاشتراكية قوة تمثيلية هائلة، تجعلها اليوم اكبر قوة سياسية منظمة في الساحة الدولية، وهو ما يضع علي عاتقها مسؤولية كبري في التصدي لمشاكل هذا العالم، الذي ما زال يتلمس طريقه بصعوبة نحو نظام دولي يستقر عليه أو يوطوبيات جديدة يسكن إليها.كانت رحاب أثينا ملتقي آخر للتفكير والتدبير، لكنها كانت بالأخص لحظة سؤال في شؤون العالم ومصير الإنسانية.ہ كاتب من المغرب8