في ذكرى الاعتداء الإرهابي على أركانة.. التنوير أولا

حجم الخط
0

لم يكن لمشاهد الأجسام البشرية الممزقة والأعضاء المبتورة والأشلاء المتطايرة عبر السطوح، والأحشاء العالقة بأسلاك الكهرباء والدماء المتقاطرة من النوافذ المطلة على الأفق، سواء في حادث مقهى أركانة بمراكش في 28 نيسان/أبريل 2011 أو بحي الفرح بالدار البيضاء 2007 وكازا دي إسبانيا وغيرها في 16 ايار/مايو 2003، لم يكن لكل ذلك طعم الفزع ومذاق الخوف فقط ، بل كان فيه شيء أفظع جعل من هذه الأحداث تجربة قصوى لاختبار فكرة الإنسان وقيمته. فقد انطوت هذه المشاهد على أقصى درجات إهانة الجسد الإنساني وازدراء قيمته والحط من شأن فكرة الحياة وبخسها.
كان فيها شيء أقسى (من القسوة) من امتحان إحساس جماعي بالرعب أو حتى من توجس خطر مباغت يستعد للانقضاض المفجع. لأن ما ضُرب في الأساس هو القيمة، أي قيمة هذا الكائن المنعوت بالإنسان الذي اعتبر غاية في حد ذاته، وقيمة الحياة التي تجعل أثمن ما يحوزه في وجوده هو جسده وحاضره.
كانت النظرات المُحرَجة تفيض أسئلة حول ما الذي حدث بالضبط؟ ولماذا؟ حينها كان علينا أن نتذكر أن الطريق المؤدي إلى الإرهاب بدايته فكرة. الفكرة ذاتها التي جعلت من الإيمان عاطفة محضة للحقد والضغينة، وحوَّلت الكره والعداء إلى شرط لتأكيد قوة الإيمان بالله ودليل عليه. وصيَّرت مفهوم المؤمن إلى كيان مشبع بكل ميول الارتكاس الحاقدة على الغير المختلف والمعادية للتنوع الأصيل والاختلاف المبدع لسر التجربة الإنسانية عوض أن يكون الفسحة الرحبة للمحبة.
لم يكن علينا أن ننتظر لنكتشف الإرهاب في الأحزمة الناسفة المتحصنة بنفوس يائسة خرجت بأحلام مفخخة لتجفيف منابع الحياة، فقد انفجر قبل ذلك في العقول عندما تضخم الاقتناع الوهمي بأن كل ما هو رائع وبهيّ كان فيما مضى وانقضى، وأن الحاضر تافه وبخس وأن الجديد مسخ ممجوج، وأن الجسد فُضلة حياة شقية لا طائل من ورائها، وأن الرغبة مأساة الإنسان، وأن العقيدة شرط صحة الوجود.
انطلق الإرهاب عندما حُرم الإنسان من فرديته، ووُضع تحت شمول جماعي أساسه التماهي العقائدي والدوغما الدينية المُعَمّمة، فتحول التدين من تجربة فردية تختبر في حدود الحرية الشخصية إلى إلزام جماعي قاهر ليُحرم الفرد من تلك المسافة التي تقتضيها حريته، وتمنع أي تماه بين الإنسان وثقافة تغترب داخلها حريته الخاصة، وتنتفي إرادته ورغبته في أن يصير ذاته، ممسكا بزمانيته وتاريخيته.
انطلق الإرهاب أيضا عندما ترسخ في الأذهان أن العقيدة أسمى من الحياة، وأن العالم منذور لعقيدة واحدة هي التي يجب أن تسود وينبغي أن تفني من يخالفها، عوض أن يكون (أي العالم) الفضاء الرحب للتعايش.
وعندما تكرّس أن الحق المطلق هو عقيدة الذات والباطل المطلق هو عقيدة الغير. وأنه لا شر إلا حيث يكون الاختلاف، ولا اطمئنان إلا حيث المُمَاهاة والتطابق، وأن السلف صالح بالضرورة وأن عين الخطأ في مخالفته، وأن لحظة النقاء الوحيدة في التاريخ تجسدت فيه، وأن الأسلاف كانوا أرواحا شفافة لم تلطخهم لوثة المصالح ولا الرغبات الهشة والتطلعات الفردية الفجة. لذلك فعصرهم وحده الذهبي، كلّ شيء كان فيه على ما يرام، وسيظل حاضرنا يتيما وتافها ومبتذلا، طالما أنه لم يسع بكل ما في جهده لمحاكاته. يجب ألا ننسى أن الإرهابيين يقومون بأفعالهم وهم مقتنعون أنهم يُنفذون أمرا إلهيا وواجبا دينيا، إنهم في النهاية ضحايا فكرة تساهل الجميع أمام انتشارها وبسط نفوذها على الأذهان والنفوس حتى غدت مبرمجة بشكل مسبق انطلاقا منها.
في كل مرة تنفجر فيها الأجسام، وتتحرك نوايا الترهيب من أجل انتزاع ولاء عقائدي ما، يصوغ هذا السؤال الدقيق نفسه بقوة منتظرا إجابة واضحة من المجتمع: ما هو الموقع الذي تحدده الدولة للدين، هل في دائرة الحرية الشخصية للفرد أم في الإلزام الجماعي؟
ما لا ينتبه إليه السياسيون المغاربة الذين ينشغلون بالدرجة الأولى بما يخوله لهم نص الدستور من صلاحيات في الحكم والتصرف في التعيينات، من دون أن ينشغلوا بالمشاكل التي يدخرها أساسه الفكري للمستقبل، والتصادمات التي يوفر لها سندا شرعيا، هو أنه طالما لم نعمل على وضع أسس متينة لمباشرة علاقة نقدية بالماضي، بالذات وبالعقيدة، لن نتمكن من إرساء صيغة حداثية في تدبير سؤال الحكم والسياسة، إذ سيظل الالتباس قائما في ما يخص أشكال الممارسات التي تغطيها مصطلحات بعينها، سنعثر تحت كلمة الديمقراطية على شكل من الاستعباد والاستبداد، سنضحي من أجل الحرية ونحصد في النهاية نفوذا من العبودية. ستغدو الديمقراطية انشغالا تقنيا لمن يهوون التناوب على السلطة، لكن من دون تغيير حقيقي في درجات تحرر الناس.
مرات كثيرة نواجه اعتقادا رسميا بأن حل المشكل الاقتصادي كفيل بإزاحة شبح الإرهاب، حينها يكفي أن يتقوى الادخار لتشتد وتيرة الاستثمار فتفتح فرص الشغل ويخف الحقد وتذبل شوكة التطرف، لكن وبشكل دوري ومؤسف يكون من يذكرنا بخطأ هذا التصور، هم الإرهابيين أنفسهم بتوقيعاتهم الدموية. فيكون علينا الانتباه مرة أخرى من دون أن تلتفت الدولة لذلك، أن الورش الحقيقي والأعمق والأخطر الذي أفلتناه هو الورش الثقافي، أي النظام الذي يحدد رؤية الناس لذواتهم، ولصيغة وجودهم وفهمهم للحياة التي يسعون إليها.
تقدم لنا السياسة درسا مهما في هذا المجال. فالاختلاف، بل حتى الصراع بين الليبرالي والاشتراكي هو صراع حول رؤية في تدبير السؤال الاقتصادي والاجتماعي، هذه الرؤية التي تتحقق في مخططات اقتصادية وسياسات ضريبية ومالية ونقدية وتدخلات تقنية في ميزان الأداءات ترجح كفة الاستفادة من النمو لصالح هذه الفئة أو تلك. لكن في حالة الصراع مع الحركات السياسية المتدينة العنيفة فحقل الخصومة يتغير جذريا. لأنه حينها يصبح هو صيغة وجود الناس والتدخل في تفاصيل حياتهم الحميمة وضبط نزوعهم نحو التحرر، حينها يتحول كل شيء في حياة الفرد إلى قضية سياسية تستدعي الضبط الجماعي من اللباس والمأكل والمشرب وباقي التفاهات الصغيرة في الحياة، كل ذلك يصبح قضايا كبيرة مع الحركات السياسية المتدينة، لأن الأهم بالنسبة لها هو تدبير صيغة وجود الناس الخاصة والتحكم في أدق تفاصيلها التي لها امتداد مباشر نحو حقل حريتهم الفردية، في الوقت الذي كان من المفروض فيه أن تكون الديمقراطية نظاما يحمي الفرد من تدخل الدولة في حياته. إن حقل الصراع لا يغدو في عمقه حقلا سياسيا، لكنه مع ذلك يباشر نفوذه باسم السياسة وفيها.
تعيدنا عقارب الإرهاب إلى بداهة من فرط وضوحها صارت منسية، هي أن التنوير مهمة تاريخية حاسمة لا محيد عنها، للحصول على مجال أوضح لممارسة السياسة وتدبير فن الحكم والحكامة. وطالما لم نباشره كمشروع تاريخي تدخله الدولة بجدية، كما المجتمع السياسي والمدني الموازي لها، فإننا سنظل نتحرك في دائرة تعيدنا دائما إلى نقطة الصفر، سنثور من أجل الحرية لكننا لن نجني سوى العبودية، سنحلم بالديمقراطية لكن لن ننتصر اجتماعيا إلا لما يجعلها وسيلة في خدمة الاضطهاد، وسنفكر في المستقبل ونحن نتقهقر نحو أسوأ مظاهر الماضي .. فمن يفهمنا، إذن؟

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية