في أثر «فتيان دمشقيون في نزهة» … دمشق المقيمة في خيال القصيدة

حجم الخط
0

المتابع لتجربة الشاعر السوري نوري الجراح يتوجب عليه مع صدور كل ديوان جديد أن يهيئ نفسه لخوض تجربة قراءة جديدة من جهة، وأن يتحرر من المرجعيات القارة للكتابة الشعرية الحديثة، ذلك أن هذه ولدت هذه التجربة في أرض أخرى محكومة بوعيها الفكري والجمال الخاص، ما منحها خصوصية الوعي واللغة والرؤية إلى الذات والأشياء والعالم باعتبارها سؤالا دائم التجدد مع كل محاولة جديدة للكتابة. لقد استطاعت هذه التجربة المسكونة بقلق الذات، والمحكومة بمغامرة الكشف والخيال أن تظل مشغولة بعملية خلق جديدة للغة تكون قادرة على استحضار عمق التجربة وتجسيد أبعادها الدلالية والجمالية المختلفة. وفي ديوان الشاعر الجديد» فتيان دمشقيون في نزهة» ثمة ملمح جديد لقصيدة الشاعر، منذ عنوان الديوان على مستوى العلاقة مع الذات واللغة والمكان، يتجلى في تراجع مستوى الانزياح اللغوي والبلاغي من جهة، ومن جهة أخرى في بلاغة حضور الطبيعة والذاكرة المكانية بأبعادها الرمزية والحسية بصورة كبيرة في هذه التجربة. وإذا كان العنوان الرئيس يشكل مفتاح التجربة من خلال علاقة الإحالة المتبادلة بين العنوان والنص الشعري فإن بنية العنوان اللغوية والدلالية تختزل هذه العلاقة مع الطبيعة في بعدها الجمالي والرمزي الذي تتقاطع فيه ذاكرة الطفولة مع ذاكرة المكان، والتاريخ مع الأسطورة، والنشيد مع البعد الدرامي للقصيدة.
تشكل دمشق بؤرة القصيدة وفضاءها التخييلي، وقد تداخلت فيها الأزمنة والأمكنة والأصوات والأقنعة واللغات بشكل درامي موح يعكس تلك الرؤية المركبة من خلال لغة استعارية بالغة الكثافة الحسية، وهي تحفر عميقا في طبقات اللغة والمعنى والتاريخ، حيث تتداخل كينونة الذات مع كينونة الأشياء، وشبكة علاقاتها الدلالية والتركيبة، وهي تعمل بدينامية على تشكيل الوحدة الجمالية للقصيدة، الأمر الذي يجعل سؤال الشاعر في مفتتح قصيدته» القصيدة والشاعر» يشكل مدخلا أساسيا لاستكناه روح التجربة ودلالاتها على المستويين الجمالي والوجودي الذاتي والعام:
هل كنت طوال الوقت أتلصص على حياتي/ أم كنت أخرج إلى خلاء لأصطاد الحكايات/ ولأروي لشبان يافعين ما كنت أخاف أن أروي لنفسي/ في عتمة البيت.

من الهامش إلى المتن

بعد عنوان ديوانه الأول الصبي يأتي عنوان الديوان الجديد «فتيان دمشقيون في نزهة» لكي يستكمل رحلة الشاعر في مدينة الشعر الخاصة، محمولا على جناح مخيلة لا تكف عن توسيع فضاء القصيدة المسكون بالدهشة والخيال والمعنى. إن العنوان الرئيس بوصفه جزءا من الوظيفة الكلية لقصائد لديوان، يتجاوز كونه عنوانا فرعيا لإحدى القصائد، وهو ما يظهر من خلال الإحالات المتكررة إليها في قصائد الديوان (شكرا لك أيها الصبي لأنك دون الجميع أعطيتني يدك – أثر من صبية فرقهم لهو- كنا فتية عائدين- فتيتك الذين خرجوا من الكهف- فتيان طافوا على زبد وفتيات صرن عرائس للأمواج- حكاية رويت على فتية- فتى خرج إخوته في نزهة- فتيتك الذين أعطوا أصابعهم للمطارق). إن هذا التنويع في صيغ الخطاب وفي إحالاته الدلالية وشبكة علاقاته الرمزية والجمالية في داخل البنية الكلية للتجربة ذات الكثافة الحسية الظاهرة. وهكذا فإن البعد الرمزي لدمشق بوصفها البؤرة والمركز في قصائد الديوان، يكتسب في كل مرة سمات جديدة يخلق من خلالها شبكة من العلاقات الرمزية ترتبط برؤيا الشاعر من جهة، وبالدلالة الكلية للتجربة في سياقاتها الذاتية والعامة، أو التاريخية والمكانية.

العودة إلى الطبيعة

ما يميز لغة قصائد هذا الديوان وعوالمها هو العودة إلى لغة الطبيعة من خلال الإدراك الحسي الذي تتجلى وظيفته في تجسيد المعنى وجعل التجربة كما في قصائد الألواح السبعة بصورة خاصة واقعا ماديا محسوسا، من خلال الكثافة الحسية في الصورة المشهدية التي تتخذ سمات وصفية، أو سردية، أو حوارية موحية، حيث يتم استبدال الخطاب اللغوي بالخطاب البصري المتسم بالحركة والإيحاء والدال على زمن التجربة التي تتداخل فيها الصور والأخيلة والأزمنة. يظهر التوتر والعنصر الدرامي في هذه الصورة، من خلال غناها الداخلي بالحركة خاصة مع الاستخدام المكثف للفعل المضارع الدال على الحركة والآنية، ما يسهم في نمو القصيدة على المستويين المكاني والزماني معا. إن ما تنطوي عليه قصائد الديوان من كثافة حسية في هذا البناء المشهدي المؤلف من صور موحية يستخدم فيها الشاعر أسلوب التجسيد والتجسيم، ما يجعل المكان يسهم بصورة فعالة في إنتاج الدلالة وتعميق الشعور بها، في حين تبرز البنية الدرامية في هذا الخطاب البصري من خلال علاقات التقابل بين الثنائيات الـ»هنا» والـ»هناك» الماضي والحاضر الذات والعالم، حيث تشكل المعينات المكانية والزمانية والضمائر وأسماء الإشارة مرجعية لها زمنيا ومكانيا.
تتداخل في هذ التجربة طفولة المكان مع طفولة الشاعر، الـ»هنا» والـ»هناك» الأرض والسماء، سحر الطبيعة وأساطيرها الأولى، لغة الأناشيد والرمز ( قدموس- عشتار- شقائق النعمان- أدونيس) بينما يظهر تنوع اللغات وتعدد تقنيات التعبير وإلى جانب حشد التوصيف عبر استخدام الفعل المضارع واستخدام حشد التوصيف والتكرار والحشد التراتبي الذي يشمل التوصيف وتفصيل الإجمال واستطراد التداعي، الذي يسهم في تعميق الحالة الشعورية عند المتلقي وهي تتداخل مع الكثافة الشعرية عند الشاعر:
(نهاري مركب في زرقة تتخطف تحت سماء تتخطف، سرب مناديل/ هاربة، خفة أصوات في رياش مذعورة ونوافذ تركت للهواء.. نهاري الأعمى خطى عمياء في شمس صريعة ـ سماء طي سماء، طرش خراف تائهة في حقل شققته نباتات خائفة/ أصوات هاربة. أصوات أصوات، وألواح عائمة في زرقة غافلة، ومن جبال الموج أرى اليابسة تبتلع الهائمين على السفح، وأسمع رعدة القلاع/ وزعيق الطائر الهارب من السهم).
إن مركزية الذات في هذه التجربة تجعل حركة النص تنطلق منها وتذهب في اتجاهات مختلفة ثم تعود إليها، وفق ما تمليه رؤيا الشاعر وحركة القصيدة في أبعادها الرمزية والدلالية، حيث تنطوي هذه الرؤيا على أبعاد مأساوية على المستوى الوجودي والإنساني والتاريخي، الذي تشكل فيه المأساة السورية الراهنة جرح الذات المفتوح على التاريخ في بعده الوجودي التراجيدي:
كيف أفسر، إذن، ذلك الجرح الذي ينزف في قصيدتي

الصورة المشهدية والوصف

يتسم بناء الصورة المشهدية في قصائد الشاعر بالتجسيم والتجسيد من جهة، وبالطابع الحركي من جهة أخرى، إضافة إلى البعد الرمزي والدلالي، حيث تشكل عناصر المكان الطبيعة جزءا أصيلا في بنيتها التركيبية، وفي تكوين شبكة علاقاتها الإيحائية، في حين تسهم علاقة المقابلة الثنائية في خلق البعد الدرامي المتصاعد للقصيدة. وهكذا فإن السماء وما يحيل إليها من ظواهر طبيعية وألوان تشكل عنصرا أساسيا دالا في البنية الاستعارية للصورة البصرية أو السمعية في القصيدة. إن الخيال في هذه الصورة يعمل على تجسيد المعنى من خلال الوصف والكثافة الحسية، التي يعمل التكرار فيها على تعميق الإحساس عند القارئ بالحالة الشعورية الطاغية في القصيدة، إضافة إلى دور الحشد التراتبي الذي يشمل توصيف الحالات وتفصيل الإجمال واستطراد التداعي في تعميق تأثيرها الحسي والجمالي عند القارئ (نهاري مركب في زرقة تتخطف تحت سماء تتخطف، سرب مناديل هاربة، خفة أصوات في رياش مذعورة، ونوافذ متروكة للهواء – سماء في جوار سماء، سماوات معلقة على حبال بيضاء جيرية، سماوات متجاورة زرقاء عميقة، سماوات هفهافة ولها روائح غسيل أمهات أسطوريات، جلسن في شمس زرقاء، وغنين للبحر- نباتات الضوء تتنفس في كهوف غائرة وراء محاجر أتخمها سخام، مجسات العماء تشرب الضوء في أسلاك عملاقة تتلوى، الصور تهب في الأنفاق، وتهب بي، مسوخ بأجنحة ملونة يهيمون وراء أطرافهم العائمة في مجرى مقطّع الأوصال..).

الحضور والغياب/ الذات والعالم

يعمل الشاعر على تأكيد حضور الذات ونفيها في آن معا في سياق البنية الدرامية للقصيدة. كذلك يستخدم الرمز وتقنية التقنع، وتناص الخفاء الذي يحاول فيه امتصاص الحكاية الدينية أو الأسطورية، من خلال إعادة بنائها وتأويلها عبر محو حدودها لكي تعبر عن تجربة الشاعر، الأمر الذي يلغي الحدود بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات ويجعل العلاقة ذات بعد حواري بين التجربتين ما يثري البنية التكوينية والجمالية للقصيدة:
والآن أيها الفتى الجميل الجالس في جواري كيف مكنتني من أن أسوقك/ إلى هذا المصير/ لأكون الصائغ النائم/ وتكون أنت الشاعر الذي كتب القصيدة.
وفي قصيدة «أنشودة قدموس» أو حكاية أهل الكهف في قصيدة «جنازة قوس قزح» أو حكاية كعب آخيل أو صلب المسيح أو حكاية أدونيس وقابيل وهابيل، بينما يستعير قناع أموري في قصيدته نشيد أموري وقصيدة فتية من دورا أوروبوس. في حين يلجأ إلى معارضة قصيدة كفافي «في انتظار البرابرة» مرتين وهو يعيد بناء الحكاية على نحو جمالي ودلالي مختلفين: الطحان اللص وسارق العجلة من المعبد/ والتاجر اللاعب بالنقود والقاضي المرتش/ المحامي المصاب بالكلب/ والعسكري صاحب النياشين والجندي الراغب في سرير المتعة، أو معارضتها بهدف السخرية من مفهوم البرابرة، انطلاقا من وصفها مغامرة جمالية مبتكرة كما يشير الشاعر إلى ذلك: صهلت الخيل في قصيدة الشاعر ومشت بخيلاء/ حقا لقد كان البرابرة المحبطون لكونهم لم يصبحوا برابرة في ذلك اليوم/ حدثا رائعا خلفية مناسبة للهو صبي بعجلة في قصيدة.

دراما الوجود في سؤال الأرض

تعد قصيدة «ما بك أيتها الأرض» من أطول قصائد الديوان وهي تتألف من خمس حركات يفتتحها بسؤال استنكاري ومستخدما تكرار الاستهلال والتكرار العباري، بوصفه مظهرا إيقاعيا يلح على تأكيد الحالة الشعورية الطاغية في سياق البنية الدرامية للرؤية الوجودية والتاريخية الحزينة التي تحكم بنية القصيدة وحركتها: (ما بك أيتها الأرض؟/ أيتها المسكونة المتخبطة في المواقيت/ ما بك أيتها الصغيرة الطائشة المنتشية بالآلام/ أم الزلزال والبراكين والمعجزات/ ما بك، ما بك، أيتها الجميلة المنشقة عن نفسها/ الخارجة/ على/ أثقالها).
تتأسس البنية الدرامية في الحركة الأولى من القصيدة على علاقة المقابلة بين الثنائيات، بينما يشكل التكرار المكثف فيها، كما في الحركات التالية بؤرة دلالية تتجسد فيها معاني القصيدة خلال حوار الذات الشعرية معها، والذي تستحضر فيها لغات وحكايات دينية وأسطورية وتاريخية، من خلال استدعاء رموزها عبر هذا التداعي الشعوري المكثف. أما في الحركة الثانية فينتقل الشاعر من الإجمالي إلى التخصصي، أو من الرؤية العامة للوجود إلى الرؤية الخاصة حيث يحضر الموت معضلة الوجود الإنساني بوصفه قدرا ملازما لهذا الوجود:
أقف لك وأقف للموت/ مصرعي/ينظرني/ عرباته تصطخب تحت الأبصار/ خطوتي المتزلقة/ على/ الشق/ المتزلق/ ارتجافة من ولد في الرعدة وولد في البرق/ كم الساعة الآن، كم كانت الساعة الآن).
يعود في الحركة الثالثة إلى خطاب الأرض الذي تتداخل فيه مأساة الإنسان مع الموت، بينما ينتقل في الحركة الرابعة القصيرة جدا إلى ماضي الحكاية في العلاقة مع المكان وقد أغلقت عليه هذا الوجود كل باب. أما في الحركة الأخيرة فيعود الشاعر إلى المأساة السورية جرح الذات المفتوح على وجودها وهو ينوس في رؤياه بين الأمل بالقيامة الجديدة للحياة وانتصارها على الطغاة وبين اليأس وقد تحول هؤلاء الطغاة إلى قدر مكرس في الوعي الغائب للإنسان: ناديتني من كل فج عميق/ لأخرج وأتبعك/ ولما بلغنا الجبل ولاح مشرق الشمس/ أعطيت الحجر الدامي للشقيق، والأمثولة للكتاب/ كم نائم في سرير تريدين ليعيد الطغاة في الأرض رسم السراط/ ويستدرك المِمنون روايتهم عن شؤون القدر.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية