فيلم من إخراج هاشم النحاس نجيب محفوظ.. من الحرافيش إلي نوبل

حجم الخط
0

فيلم من إخراج هاشم النحاس نجيب محفوظ.. من الحرافيش إلي نوبل

كمال القاضيفيلم من إخراج هاشم النحاس نجيب محفوظ.. من الحرافيش إلي نوبلالقاهرة ـ القدس العربي تموج الحركة السينمائية بتيارات مختلفة من صنوف الأفلام والأفكار. وكالعادة تقف السينما التسجيلية علي حافة المشهد تكتفي بالتأمل والفرجة، وتشارك علي استحياء في المهرجانات والمناسبات الرسمية، وربما تكون الأسبق في الوصول إلي الجوائز، لكنها تظل بعيدة عن الجمهور وكأنها حاجز منيع يحول بينها وبين النور.. آخر تلك الأفلام التي أشبعت جوائز وثناء فيلم نجيب محفوظ للسيناريست والمخرج الكبير هاشم النحاس الذي يطرح من خلال بانوراما مأهولة بالسرد والتفاصيل مسيرة محفوظ الروائية الفنية، مكسبا إياها مذاقا سياسيا اجتماعيا استقاه النحاس من بين الحياة الزاخمة بالخبرات والإبداع الثري لصاحب نوبل ، مضمنا آراءه في القضايا السياسية بحرفية تتوازي مع براعة الكاتب الكبير التي عايشناها في روايته القاهرة الجديدة أو القاهرة 30 حسب تسميتها السينمائية، وميرامار وثرثرة فوق النيل والكرنك وأولاد حارتنا والشحاذ والحرافيش والثلاثية وخان الخليلي.انتخاب ذكي من جانب هاشم النحاس لأهم أعمال الأديب الكبير يغزله في خيط واحد ليكون مشدودا علي امتداد الرحلة الإبداعية الزاخمة ـ الزاخرة ـ فنري صورة نجيب محفوظ علي مقهي وادي النيل بوسط العاصمة مستقرا علي مقعده واضعا ساقا فوق الأخري وممسكا بصحيفة يقلب صفحاتها مع فنجان قهوة فنتذكر أجواء خان الخليلي بعبقها التاريخي ونتذكر النابغة.. ثم ينتقل بنا المشهد إلي كوبري قصر النيل فنطالع عميد الرواية العربية وهو يمشي الهويني في تأمل وسكون يصاحبه صوت الراوي نور الشريف الذي يتابع تحركات البطل في تأمل مواز ويتلو مقاطع من نصوص الرواية الخالدة أولاد حارتنا ، ويقدم قراءات تحليلية تتجاوب باقتدار مع المشاهد التسجيلية الحية وتتنامي موسيقاها مع وقع الخطوات كأنها خلفية تراجيدية لحيرة الراوي الباحث عن المعاني الكونية في ذلك النفق الممتد علي مرمي البصر، والمطروح علي جانبي النيل بدلالاته التاريخية، وخلوده الأبدي متحديا غشاوة الضباب الذي يكسو الصباح الباكر وينذر بسطوع شمس يوم جديد، وبينما تختلط الأفكار وتتزاحم الهواجس في رأس المتلقي تقترب الكاميرا من وجه نجيب محفوظ وملامحه لتربط بين البعد الفكري والذهني الدائر في الرؤوس وعبقرية العقل الذي صنع الملاحم وصاغ مئات الأفكار لشخصيات رواياته بشتي اختلافاتها، وتبايناتها الاجتماعية والنفسية بإعجاز يؤكد عظمة الكاتب وعبقريته، ومن كوبري قصر النيل ورومانسية النيل إلي حي خان الخليلي، حيث يلفحنا عبق التاريخ والطرز المعمارية الطاعنة في القدم، وتقودنا الكاميرا إلي الحواري الضيقة والمقاهي الشعبية الشهيرة لنسير بمحاذاة الرجل الذي قضي عمره متجولا متأملا باحثا في وجوه البسطاء وعوالمهم عن المدهش والمثير ليفرز من لحمهم ودمهم إبداعا جديدا يضاف لرصيده الوفير ، ناقلا إلينا عبر كتابة فلسفية عذابات هؤلاء الكادحين الفقراء أو ربما ينتقل بهم الينا من آخرين يعيشون في حماية فتوات الحسينية والدرب الأحمر والجمالية، فنري صور الطغيان والشر وانسحاق العدل تحت سنابك الخيول، وتلوح في الأفق أشباح الإجرام وضحايا الديكتاتورية العمياء علي يد صبية تحولوا بفعل ضعف الآخرين إلي فتوات يتولون مقاليد الحكم في الحارة ويقبضون بأيديهم علي مقدرات الفقراء المعدمين، قبل ظهور عاشور الناجي، ذلك الرجل الذي يتبني مفهوما مغايرا للفتوة قوامه العدل والقسطاس. هنا يبشر نجيب محفوظ بفجر جديد لواقع ساده الظلام ويقطع باستحالة دوام الحال علي ما هو عليه، وإن امتدت ولاية الظلم دهرا لا بد أن ينقشع الظلام وتأتي الثورة من رحم الواقع، ويتقاطع سيناريو هاشم النحاس أو رؤيته السينمائية مع ذلك التنبؤ ملقيا الضوء علي تنوع سياسي آخر في القاهرة 30 فنري ملامح الفساد السياسي وخضوع البطل محجوب عبد الدايم ـ الشخصية التي جسدها الفنان الكبير حمدي أحمد..صورتين لعملة واحدة، إذ يضطر الموظف البسيط لركوب موجة الانتهازية ويأخذ في التسلق والصعود علي درج الانحراف والتنازل إلي الحد الذي يوصله إلي بيع شرفه والمتاجرة في عرضه كثمن لرفاهيته وانتقاله من حياة العدم إلي حياة الرغد، وينطوي المعني الفلسفي الكلي علي عبثية الواقع وخيانته، فهو إن منحك شيئا لا بد أن يأخذ أضعاف ما حصلت عليه، فهي الضريبة المقدرة سلفا لمن ابتغي علوا في الأرض وفسادا.. والإشارة الدالة في الفيلم أو الشخصية هي نوع من الإدانة الجماعية لكل أطراف اللعبة ممن ارتضوا لأنفسهم الهوان وعجزوا عن التغيير، وفيما نري هذا الإلماح لفساد السلطة والمثقف علي السواء قبل الثورة يطلعنا الفيلم البديع علي مشاهد أخري من فيلم الكرنك لنقرأ بين السطور رأي محفوظ في مرحلة الغليان التي جسدت صراع الأجنحة وبروز مراكز القوي، كما اصطلح علي تسميتها بعد قيام ثورة يوليو، وسيطرة الدولة البوليسية علي السلطة، وهو ما نختلف معه تماما، حيث لا مجال للمقارنة السياسية بين زمن اتسم بالاستبداد والهيمنة واستغلال الثروات وهو الزمن الملكي وبين فترة وجيزة من مسيرة تاريخية شامخة امتلأت بالإنجازات وأعادت تشكيل الواقع بما يقتضيه الظرف السياسي، حتي وإن كانت هناك بعض السلبيات فالمساوئ لا تحجب المحاسن ولكن العكس هو الصحيح فإن الحسنة تمحو السيئة.. كما أنني أري ان هذا التنوع الفكري والسياسي في روايات نجيب محفوظ لا يمثل إلا وجهة نظره، وعلي السينما أن تنقل ذلك في إطاره التسجيلي لا بوصفه حكما يستوجب الاعتماد أو التعتيم عليه، وأقول ذلك ليس احتجاجا علي الرؤية السينمائية لهاشم النحاس، ولكن ردا علي ما أثير من جدل سابق عند عرض الفيلم عرضا خاصا من أن نجيب محفوظ أدان الثورة وممارساتها البوليسية لميوله الشخصية لحزب الوفد، وبغض النظر عما اذا كان ذلك صحيحا أو غير صحيح فهو لا يعني شيئا غير أن الفيلم قدم لنا وثيقة سينمائية بانورامية بالغة الثراء لحياة كاتب عملاق عاصر فترات عديدة من الحكم واستخلص منها عصاراتها في إبداع راق وعظيم ..وتتوالي المشاهد ويعرج المخرج علي حالة الفصام التي يعاني منها السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية مستعرضا آيات الديكتاتورية والقسوة داخل البيت تسير في تواز مناقض لطبيعة البطل خارج البيت، فمن الامتثال الأخلاقي والقوة إلي المجون والانحلال والإغراق في الملذات الفاتنة، ممارسات تشي بانقسام واضح تلقي بظلالها علي الواقع المحيط بالبطل سي السيد إذ تختلط الاتجاهات والتيارات ويعج الشارع بالثوريين وأنصار سعد زغلول المناهضين للاحتلال البريطاني، وتنتشر علي الجانب الآخر أعمال التدليس السياسي وتنشط بيوت الدعارة بدلالاتها الاجتماعية والسياسية لتمثل معادلا مطابقا لشيزوفرانيا البطل السيد أحمد عبد الجواد .. كما يعكس التزاوج أيضا قدرة الكاتب الكبير علي رصد الظواهر والتدقيق في النفس البشرية وإسقاطات ذلك التباين علي المجتمع ككل لتبدو الصورة النهائية مكتملة المراحل والمعاني، وهي الترجمة الإبداعية التي تؤكد أن الإنسان ربيب بيئته، وأن من الصعوبة بمكان فصل النفس الإنسانية عن المؤثرات المحيطة سواء كانت المؤثرات بيئية أو ميتافيزيقية أو غيبية، فالمحصلة النهائية تصب في قلب ووجدان وثقافة البشر.الفيلم جولة سياحية في حياة وواقع نجيب محفوظ وإبحار لا نهائي في فلسفة الكون.. لقد استوعب هاشم النحاس درس الأديب وامتص رحيق إبداعه وأفرز لنا رحيقا سينمائيا مماثلا في زمن فني لا يتجاوز الثلاثين دقيقة وهي بلاغة التعبير التي تصيب كبد المعني دون شرود أو جنوح.. إنه الفيلم الذي يليق بنجيب محفوظ ـ قيمة ومكانة.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية