فيلم ‘السقوط’: سحر القصة وروعة الفانتازيا

حجم الخط
0

للفانتازيا نمط خلاب في التأثير في المشاهد فهي استدعاء لفضاء الأحلام إلى عالم اليقظة، فحين تخاطب الأنماط الأخرى من الأفلام مشاعر المشاهد الواعية وغرائزه، تخاطب الفانتازيا المخيلة والروح البريئة واللاوعي بشكل أساسي. وليس تأثير الفانتازيا الساحر تأثيرا لحظيا بل له امتداد وتغلغل في النفس عميق، يعلم ذلك كل من عاش تلك الحالة.
وفي ظني أن هذا النمط من الأفلام لا يلائم أن يرتكز على شخصية أو على حالة عاطفية محددة، بل من جوهره أن يكون المشاهد هو الموضوع، ولذلك فبراعة المخرج أساسية جدا هنا ومهمة، هناك أنماط درامية تتمحور حول شخصية رئيسية تكتسب عناصرها منها وتكون بذلك الأحياز والشخصيات الثانوية والمكان والزمان مساهمة في تعزيز التوحد مع تلك الشخصية كما نشاهد مثلا في أفلام من مثل : limitless، Hancock، Spider man، وغيرها. مشكلة هذه الأنماط أنها مع تعزيزها وتضخيمها لمجموعة مهمة من الأفكار، لا تستطيع أن تفصل تلك الأفكار في ذهن المشاهد عن سيطرة النموذج والشخصية، وربما يكون الفصل صعبا خصوصا لدى الأطفال . في حين أن للفانتازيا قدرة رائعة على اكساب المعاني والأفكار حيوية تفاعلية بخطاب مباشر للمشاهد دون استدعاء نموذج مجسد. فقصص الخيال للأطفال من مثل ‘شجرة الفاصولياء’ لها أثر كبير في جعل مخيلة الطفل فعالة وغنية بحيث أنها تتيح له أن يستدعي بنفسه كثيرا من الصور والأفكار بحرية وإيجابية. فيلم المخرج تارسيم سينج ‘السقوط’ جسد هذه الفكرة من خلال المضمون والشكل .
يتمحور الفيلم حول تأثير القصة وسحرها وفلسفتها، فحب الإنسان للقصة يكشف عن ولع الإنسان بالمعرفة وحبه للاستشراف والفهم والتفسير وعشقه للغموض، هذا الدوار الميتافيزيقي الإنساني تكشف عنه ‘القصة’ بأبهى صورة. وفي الأدب الشرقي يكفينا نموذج ألف ليلة وليلة والتي هي قصة داخل قصة ليرينا ضعف الإنسان أمام سحرها ورغبته المستدامة في التطلع إلى نهاية فحين يستمع شهريار إلى شهرزاد على مدى ألف ليلة لقصة ينتظر نهايتها نرى أنفسنا نحن قراء القصة- في موضع شهريار نبحث عن نهاية.
الطفلة ألكسندريا ذات الست سنوات ستعبر عن هذا السر الإنساني، ولعل هذا هو سر اختيار ‘Tarsim singh’ لطفل، فآخر ما نريده هنا هو التكلف والاصطناع، وسنسلط الضوء فيما بعد على براعة المخرج في الحفاظ على عفوية هذه الطفلة أثناء الفيلم.
تنقل ألكسندريا إلى المستشفى بعد أن سقطت في مزرعة عائلتها من على شجرة برتقال وانكسر ذراعها، وبينما هي تتجول بسعادة في المستشفى تتعرف على ‘روي والكر’ ممثل بائس مقعد يعالج من آثار سقوطه أثناء أدائه مشهدا حركيا، وبينما تتضح لنا سريعا مساعي هذا الممثل البائس لإنهاء حياته يبدأ ‘روي’ يقص على ألكسندريا قصة خيالية ليتوسل بشغفها لتمامها أن تحضر له المورفين لينهي حياته.
تبدأ الفانتازيا الساحرة والجو الخيالي الآسر وتتجلى براعة ‘تارسيم’ في نقل الصورة وتلوين الأماكن والشخصيات (تم تصوير الفيلم في عشرين دولة)، ويأسرنا ‘تارسيم’ ببراعته اللافتة في عرضه للشخصيات من خلال مخيلة ألكسندريا، سوف نرى ألكسندريا تستدعي وجوه تلك الشخصيات من وجوه مألوفة لها، بائع الثلج الذي تراه كل صباح على باب المستشفى، والممرضة، وأخيرا من المؤكد أن يكون بطل الحكاية في ذهنها هو الراوي نفسه، ويوغل ‘تارسيم’ في تعميق فلسفة القصة والخيال بأن يربط بأسلوب إخراجي رائع بين القصة والواقع بفواصل ولقطات مرحة فكاهية ليؤكد على أننا الآن نعيش في ذهن ومخيلة ألكسندريا.
كنت أتسائل طوال مشاهدتي للفيلم عن صعوبة التعامل مع ألكساندريا أثناء التصوير، لأجد فيما بعد أن ‘تارسيم’ وحفاظا على عفوية الطفلة الصغيرة لم يقيدها بحوار مكتوب بل تركها تتحدث بحرية طوال الفيلم، هنا نلاحظ أن المخرج هو صاحب الدور الأكبر في نقل الصورة من خلال مخيلة واسعة وذكاء إخراجي فريد، طلب ‘تارسيم’ من ‘روي’-الراوي- أن لا يقف على قدميه أبدا أثناء جلسات التصوير بل أمره أن يتنقل بالكرسي المتحرك طوال الوقت حتى تصدق ألكسندريا أنه مقعد فيحافظ بذلك على صدق مشاعرها وعفويتها، ومن الحيل الجميلة التي أبدعتها فرادة ‘تارسيم’ مشهد الطفلة مع روي داخل ملاءة السرير حيث تستر هذه الملاءة الإثنين معا في كثير من المشاهد، ولكي لا تحس الطفلة بوجود طاقم التصوير حولها عملت ثقوب في هذه الملاءة وتم التصوير من خلال تلك الثقوب لكي لا تتأثر ألكسندريا بأي مؤثر خارجي يكسر عفويتها.
هذا الجهد الإخراجي مطلوب للحالة التي ذكرناها من الجو الروائي الخيالي والفانتازيا الساحرة الجاذبة، ليس هناك خطاب غرائزي في الفيلم ولا توجد تلك الإثارة التي تقطع مخيلة المشاهد لحساب فهم ملابسات حبكة معينة كما هو دارج في الأفلام البوليسية وأفلام الغموض.
انتقاء الأماكن كان بارعا من حيث إدخال كمية ضخمة من الآثار العالمية في الهند واندونيسيا وإيطاليا وفرنسا، وتحقيق ظروف الزمان والمكان المتنوع، والصورة المشبعة بالألوان أقرب إلى الألوان الكرتونية، والشخصيات ذات الجنسيات المختلفة، وتتويجا لكل ذلك بالموسيقى التصويرية التي يبدأ بها الفيلم -مقطع من السيمفونية السابعة لبيتهوفين-، كل هذا يساهم في تعزيز الفانتازيا وسحب المشاهد إلى فضاء الأحلام دون أدنى إدخال للوعي والتفكير المنطقي في سياق الفيلم.
من خلال هذا الجو تتداعى الأفكار والمعاني: الخوف، الفشل، اليأس، الخيانة، اللحظة الإنسانية، القلق من المجهول، وأهم شيء ‘القصة’ وسحرها وأنه لا بد لكل شيء من نهاية.
ولكن يؤخذ على الفيلم أنه لم يوفق في انتقائه للقصة المروية من النوع الذي يكون بالفعل مشوقا وجاذبا لتفكير الطفل، بل يبقى سياق القصة على طول الفيلم فيه نوع من الملالة والتطويل ما لا نستطيع معه أن نفهم شغف ألكسندريا بالمتابعة، اللهم إلا قبيل نهاية القصة حيث تتداعى الأحداث بشكل سريع . وعلى أية حال فلا أستطيع أن أخفي إعجابي ببراعة ‘تارسيم’ وجهده الضخم في رسم هذه اللوحة الفنية الرائعة.
[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية