فصل من كتاب سيصدر قريبا عن بغداد بين الجد والهزل انطباعات عائد من بغداد : غودو وغلة الأرض أصلح من اللاعبين الجدد!
فيصل عبد اللهفصل من كتاب سيصدر قريبا عن بغداد بين الجد والهزل انطباعات عائد من بغداد : غودو وغلة الأرض أصلح من اللاعبين الجدد!لا توجد شحة شهادات في صفحات اليوم العراقي. إنما أصبحت أخبار ذلك البلد تنافس تقلبات البورصة وأسواق المال وأحوال الطقس. كثرة تكرار اسم العراق، علي مدي العقد ونيف الماضية، تسربلت إلي كل وسائل الإعلام المرئية منها والمقروءة في أرجاء المعمورة. ومعها صورته المقرونة بحدث محدد. حرب الخليج الأولي والثانية، محور الشر، أسلحة الدمار الشامل، قَنبلة لندن خلال 45 دقيقة، جلسات مجلس الأمن، عملية الصدمة والترويع ، غزو أمريكي ـ بريطاني، سقوط الصنم في ساحة الفردوس، سرقة وسطو بدءاً بالمتحف العراقي والمواقع الأثرية وما زال مستمراً، احتلال مشرعن بقوة قرارات الأمم المتحدة. بول بريمر، تسلم السيادة، الانتخابات التشريعية وإقرار الدستور. انتخابات الجمعية الوطنية، نسبة المشاركة، زعماء ورجال عشائر، تفجيرات تحصد العشرات، أبو مصعب الزرقاوي. شيعة، سنة، أكراد، تركمان مسيحيون وشبك ويزيدون….كل له قصته. ومع كل قصة أجندة معلنة وأخري مخفية. اختلط الحابل بالنابل وضاع العراق في برزخ عصبيات تذكرنا بحروب الهوتو والتوتسي والجنجويد وجيش الرب. بغداد العاصمة ومركز القرار، وأطراف واتتها الفرصة للانقضاض عليها.ـ وفرة. لكن البداية عصية. كيف تقرأ المشهد. القلب يعتصر. وهذا بالضبط ما أحالني إلي استرجاع مقاطع من شريط إنس بغداد لمخرجه سمير، عراقي الأصل سويسري الجنسية، وأنا أودع تلك المدينة عبر مطارها الرئيسي. لحظتها استوقفني سؤال محوري طرحه الشريط عن الأوطان والذاكرة، وأنا أتأمل صالات ذلك المطار الخالية من كل شيء بما فيها صورة رئيس الجمهورية، كما هي العادة في مطارات العالم الثالث. السؤال العصي يقول: كيف يمكن للبلد الجديد أن يحيل الفرد، بوعي أو بسواه، إلي عدو لتاريخه وذاكرته الشخصيتين؟ بالمقابل، فتحت لي مشاهدات تلك الزيارة بوابات من الأسئلة لم أستطع ان أوصدها، بل أشرك القارئ في عالمها. ـ هي بغداد إذن. أو ما تبقي منها. وها أنا أعود إليها مرة ثانية بعد حين. ففي زيارتي الأولي لها قبل أكثر من عام ونصف، بدت لي المدينة أشبه بذكري بعيدة. نثاراً من بقايا ذاكرة عشت فيها وعليها سنوات طويلة. وربما أضفيت عليها هالة أقرب إلي القدسية في يوم من الأيام. إن من الصعب تخيل لهفة وحنين المنفيين في دروب العودة إلي أوطانهم دون أن تكون الخيبة رفيقاً لهم. إذ سكن فينا المنفي مثلما سكنا فيه. ومع هذا، كان الأمل والتفاؤل قطاف وغلة تلك الزيارة القصيرة. كانت بغداد، وقتها، تستعيد عافية إيقاع يومي حذر وهش، بعد طرد سلطة الخوف والسطو والهمجية. حينها كنت مهجوساً بقطع خيوط الوهم والبعاد عن الأهل والأماكن التي عشت فيها أول أحلامي وجاست خطاي دروبها المحرمة. لقد كان ملاك الغفلة حارسي وشفيعي هناك، مثلما كان في بلدان ودعت فيها بعضاً من وريقات العمر. فان تتاح لك زيارة وطنك الأول بعد ردح من الزمن فتلك دعوة لا ترد. لكنك بالمقابل، سواء بقصد أو سواه، تتحول إلي منقب أركيولوجي من طراز خاص. فمن السهل ترك مدن الصبا والذاكرة وراءنا، ولكن من الصعب العثور عليها.ـ ما كان بادياً، آنذاك، إرث دكتاتورية ثقيل خلفته علي الأرض والعباد بفعل حروبها العبثية والطائشة، الداخلية منها والخارجية. وكان آخرها غزو دولة الكويت في عام 1990. وما استتبعها وترتب عليها من فرض نظام عقوبات اقتصادية وسياسية وتقطيع أوصال العراق إلي ثلاث مناطق، بشكل لم يسبق للأمم المتحدة في تاريخها العتيد أن طبقته علي دولة ذات سيادة بهذه الهمة. وبين كماشة دكتاتور صفيق، وسياسة تدليس مارستها المنظمة الدولية وحملة الفيتو، يصعب تصور حجم الحيف الذي حاق بالعراقيين في سنوات الحصار القاسية. كان الثمن مكلفاً، وسرقة علنية، فضحتها كوبونات النفط التي دفعها النظام لمرتزقة عرب وأجانب من أموال الشعب العراقي ومستقبل أجياله القادمة. وبالمقابل، وبالتوازي، لاحت تلك الفضيحة والسرقة الأمم المتحدة نفسها، خصوصاً القائمين علي برنامج النفط مقابل الغذاء .مأزق الاحتلال ـ اليوم، اختلف اللاعبون السياسيون ومعهم، ربما للأبد، صورة العراق. فالمأزق الذي جاء به الاحتلال، لنفسه ومن معه، قاد إلي مآزق خطيرة سترتد علي مستقبل العراق بعواقب وخيمة. مفاعيل تلك المآزق لا تحتاج إلي كثير من الحصافة لرصدها، إنما هي مبذولة للجميع مثلها مثل يوميات العذاب اليومي. زائر بغداد في وضعها الراهن سيصاب، من دون شك، بمظاهر غريبة يقف علي رأسها الخوف والرهبة المطبقان علي رقاب الجميع. فالانفلات الأمني الضارب إطنابه علي أديمها، ليس كشفاً صحفياً لزائر هذه المدينة، إذ تكفلت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المختلفة بنقله وهو بضاعتها إلي العالم. ما هو واضح وجلي في هذا السياق، ضمور دور الدولة في حفظ أمن الناس وأمانهم، مما مهد لانتشار مليشيات وعصابات ومن مختلف الألوان في حارات بغداد الشعبية. قلب شجاعـ يكفي السير ذهاباً وإياباً، في شوارع الكرادة أو مدينة الشعب أو الثورة أو في قلب العاصمة وشريانها شارع الرشيد والحارات المتاخمة له مثل المربعة وسيد سلطان علي والسبع أبكار وعقد الجام، إن كان لك قلب شجاع وزاهد في حياتك. وأترك عند هذا الحد لخيال القارئ النهاية التي يقترحها. أما زرع الخوف، فتتولاه سلسلة أخطبوطية طويلة وغير منظورة. تبدأ بوشاية تباع في سوق رائجة عبر شخص يدعي العلاس ، الذي يلعب دور المخبر الأول ويكون صبياً أو شاباً في مقتبل العمر، لمن هو أكبر منه تجربة في هذه المهنة الجرمية مقابل مبلغ لا يتجاوز الدولار الأمريكي الواحد. بعدها تنتقل أخبار الزائر أو الغريب مهما كانت جنسيته سريعاً إلي حلقات كل حسب وظيفتها وتسميتها، وبالطبع تسعيرتها، إلي ان ينتهي اسم عاثر الحظ ومواصفاته عند عصابة تتنافس مع مثيلاتها في مهنة الاختطاف الرابحة.ـ أكاد أجزم في هذا السياق، أن بعضاً من أهل العقد والحل في العراق الجديد يعرفون أكثر من غيرهم عن حركية هذه العصابات. في نظر هؤلاء، أي الدولة، هم أشباح مثلهم مثل الزرقاوي الذي دوخ بـ عبقريته ، وحركته الزئبقية رغم عرجه، عدة وعتاد ووكالات متخصصة ذات احتراف الكتروني لأقوي قوة عسكرية علي وجه البسيطة، أقصد الأميركان. وعند هذه النقطة، يمكن ملاحظة أن اللاعب الأمريكي ومعه الحكومة العراقية المؤقتة فقدا روح المبادرة، واكتفيا بالرد العسكري هنا وهناك وكأنهم فرق إطفاء حرائق.تكنوقراط جددـ يلحظ زائر بغداد، أيضاً، غياب الكفاءة والمهنية وتفشي اللاقرار في أجهزة الدولة واختراقه جسد مؤسساتها. كل حسب ولائه ومحسوبيته، وبشكل تفوح منه سياسة تبعيث جديدة ولكن بصبغة محاصصة ثالوثها: طائفي، إثني، عشائري. فباسم تعبئة الغلبة وهي رمز البقاء في معركة اليوم، مضافاً إليها الإهانة، الحرمان، الاستبعاد، القتل الجماعي والابتعاد عن مراكز القرار، جرت حروب المواقع الوظيفية. وما دام الجميع ضحايا جري تجاوز مبدأ الكفاءة والأهلية والخبرة مقابل الولاء الضيق والمحسوبية والمنسوبية. لقد تحولت دوائر الدولة العراقية بضربة هؤلاء السحرة إلي مرتع ومقاه، جاي خانات حسب اللهجة العراقية، و ديوانيات لفض نزاعات عشائرية وتسهيل صفقات عقود بما فيها الأعراس وتزجية الوقت والتلصص علي غير المحجبات من الموظفات والهرب من حر بغداد اللهاب أو تقلبات الطقس.ـ الخاسر الأكبر من هذا التحول، هم الفئات العليا والوسطية من المدراء العامين ومن مختلف الاختصاصات، الذين تمرسوا وخبروا الحياة الوظيفية ولو بحدود ومستوي بلد عالم ثالثي، أي تلك النخب الصامتة، الواعية، والمثقفة ثقافة مدنية والكفيلة باتخاذ القرار الصائب وتقرير السياسة العامة والعقلانية للبلد. وحل بدلاً منهم تكنوقراط من الشباب تقرأ كفاءاتهم وأهليتهم من سيمائهم. منتفخون، خليط من البدلات الغريبة الألوان علي أجسامهم مع لحي خفيفة، من دون نسيان خاتم فضي مرصع بحجر ملون علي خنصر الإصبع الأيسر. كل ما في الأمر ان هؤلاء سينتجون نماذج من المريدين علي شاكلة صورهم.ـ إن مستقبل العراق، كما تبدي لي، مرهون لأجل غير محدد بين طائفية مقيتة عمادها المحاصصة، ومدنية عقلانية رحبة تنقذ البلد من إرث خرابه وتقلل خساراته التي يدفع ثمنها غالياً الأبرياء يومياً. فالتعبئة الاجتماعية الفعلية لبناء العراق، لا تتم علي أساس أولوية الطائفة أو المذهب أو الإثنية، ولا علي حساب المواطنة والكفاءة والأهلية. بل أكثر من هذا، فان وقائع العراق تكشف لزائر البلد والمتابع لشؤونه، غربة وحيرة السياسي العراقي الحديث العهد في تسيير مقدرات البلاد والعباد ناقلاً عدواه إلي المواطن المحاصر بالأزمات. والحيرة والغربة في يوم العراقي، حيرات وغربات، دفعت بمن يمتلك الحس المرهف إلي كآبة مزمنة. كفي التباكي علي ماض درس، وجرائم المقابر الجماعية، وحملات الأنفال وضرب حلبجة بالأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً، ليل نهار. صحيح إنها جرائم قذرة اقترفها نظام بهيمي، لكنها لا تضع لوحدها العراق علي سكة آفاق القرن الواحد والعشرين واستحقاقاته، بل تحيل الجميع إلي ندابين وضاربي صدور.الحواسمـ انعدام المقاييس وفرز المقبول عن غير المقبول من قيم مدنية وأخري عشائرية مهد إلي تفشي ظاهرة الفساد الإداري. أستطيع القول ومن دون وجل، إن جميع وزارات الدولة العراقية تنخرها آفة الفساد الإداري والمالي، وهي متهمة من أهل العراق ابتداء من رؤوسها الكبار إلي موظفي الاستعلامات، و إلي مدي قد يطول حتي يثبت العكس، إذ لا يتم تعيين حارس أو موظف أو توقيع معاملة بسيطة من دون وساطة وتزكية سياسية أو دينية أو عشائرية أو رشوة مالية، ناهيك عن الصفقات والعقود الوهمية منها، والفعلية الخالية من وثائق الجودة المفترضة، و التي تقدر قيمها بملايين الدولارات الأمريكية. لقد نشأت منذ سقوط الصنم، وبالتحديد في التاسع من نيسان/ أبريل 2003، فئة القطط السمان و محدثي النعمة ، ويتحرك في ظلالهم والي جانبهم وسطاء وهميون لا جنسية لهم بشكل مخيف. الأريحية العراقية رصدت هذه الظاهرة، وخلعت عليها مسحة تهكم تستحضر مفردات الصنم، إنهم الحواسم الجدد . لقد تفنن الحواسم الجدد في سرقة القطع الكبيرة من كعكة العراق. فالمبالغ المرصودة، وما منح واستلم منها لإعادة بناء العراق، تبخر بفعل عصا السحرة الجدد، وذهب إلي جيوب وبنوك خارجية لا يعرف سرها سوي القافز ، كما يقال في الجزائر. والأنكي أن السياسي الجديد راح يستدين ويعقد صفقات مع بنوك ودول باسم شعب العراق ومؤسساته. تسليع مآسي الناس وحرمانهم صار مهنة من أجل الاستجداء، فيما غدا المواطن المغلوب علي أمره كاليتيم علي مائدة اللئام. صحيح، إن مجتمعاً مشطوراً علي نفسه، واختلط عليه سلم اولوياته، وعاش في كنف ظلام البعث حيث ألغي التنوع في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وينهل من قيم وتقاليد زراعية وشبه بدوية…. يصبح السلب والنهب من السمات والمواصفات الملازمة لأي انعطاف سياسي حاد في حياته. إلا أن الأصح، أن لا يبرر ولا يغتفر ذلك، لمن حمل لواء المعارضة في فترة من الزمن وشعارات الفضيلة والقضاء علي الفساد وتبديد أموال الشعب العراقي…لوثة اللاشعورـ ما يعيشه البغداديون من مفردات الانتحار اليومي، من قطع لساعات الكهرباء في حدود العشرين ساعة وفي حرارة صيف لهاب تصل في الظل إلي 56 مئوية، وإطلالة فصل الشتاء، كفيلة بوضع خمسة ملايين إنسان من أصل سبعة في مصحات عقلية، وتحت علاج نفسي يصعب حتي علي لاكان الفرنسي و علي الوردي العراقي إيجاد وصفة طبية تقرأ لوثة اللاشعور . بالمقابل، غدت شوارع بغداد الشعبية، فضاء وأسواراً، مضللة بشبكات الكهرباء العنكبوتية بشكل عشوائي يبعث علي القرف. يكفي العابر العادي، أو شاحنة صغيرة، قطع حفنة خطوط ومن دون الكثير من العناء. أما ما يدفعه العراقي مقابل هذه الخدمة، 2 ساعتان من الكهرباء الوطنية و 4 ساعات من المولدات سحباوية كما يطلق عليها، فتصل إلي حوالي 90 دولاراً أمريكياً شهرياً. قبل سكان بغداد بمثل هذه القسمة غير العادلة، ظناً منهم أنهم في طوكيو او عاصمة أوروبية، ولكن عبر إنارة عدد من المصابيح ومشاهدة التلفزيون وتشغيل ثلاجة واحدة فقط. تطالعك شوارع بغداد، أيضاً، بكم هائل من المزابل، أطلق عليها أهل المدينة اسم الحدائق الغناء نكاية بأمانة العاصمة وبوزارة البلديات، هذا فيما لو تجاوزنا مدي صلاحية وخراب شبكة المجاري بشكل تام، ما يهدد بكارثة بيئية تضاف إلي إشعاعات اليورانيوم المنضب المتبقية في التربة بعد حرب الخليج. أما الوقود ومشتقاته، فيكفي الانتظار سبع ساعات علي الأقل، والإ فشراؤه مخلوطاً مع مواد بما فيها الماء من السوق السوداء. أما شبكة هذه السوق، فقد احترفها رهط من النافذين وزوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم ومعارفهم لتهريب النفط إلي دول الجوار باتجاه الجنوب أو الشمال. عبقرية اللاشعور لوزير النفط تفتقت وغاضها ما يعيشه المواطن من حرمان، فوقع عقداً نفطياً متهاوياً يجعل العراق وصناعاته النفطية رهينة بيد الجارة إيران ، وبالمقابل قنن استعماله علي أساس الأرقام الفردية والزوجية للمركبات والسيارات.انهيار الخدماتـ الانهيار التام في الخدمات شمل بعدواه الطب. كان يعد في يوم من الأيام الأكثر جدية وحداثة في عالم نام. يكفي زيارة واحدة مع فرد من أفراد العائلة أو قريب أو صديق لتتأكد بنفسك. صحيح أن العيادات الطبية منتشرة بشكل ينافس باعة المشاوي علي قارعة الطريق، لكنك ما ان تدخل عيادة أحدهم حتي تصاب بالغثيان. قناني مياه بلاستكية مرمية في ممرات العيادة، كراسٍ مهترئة، روائح منبعثة من دورات المياه، صراخ وعرق يتصبب من الجميع، الدفع مسبق. أما ملامح الطبيب، فأترك للقارئ تصوره، كل ما في الأمر انه أستأجر العيادة من طبيب قديم وممارس هرب خارج البلد حفاظاً علي حياته وحياة أسرته. كيف لا، وقد تمترس الوزراء ووكلاؤهم في مكاتب مبردة ووثيرة، واقتصرت زياراتهم التفقدية إلي خارج البلاد دون أن يجرؤ أي منهم النزول إلي الشارع.ـ سقوط النظام أفضي إلي تأسيس عشرات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تعني بالشأن المدني، أطلق عليها منظمات المجتمع المدني ، وهي ظاهرة ايجابية من دون شك. لكنها تواجه مشكلة هوية، بين كونها منظمات مستقلة عن السياسة والأحزاب، وبين تبعيتها الواضحة للصراعات السياسية والأحزاب المتنافسة. يصح هذا الكلام علي بعض المنظمات التابعة لـ الأحزاب الإسلامية . صحيح أن هذه المنظمات والجمعيات تعاني من مشكلة التمويل من جهات حكومية وغير حكومية، وتحتاج إلي دورات لتدريب كوادرها داخل وخارج العراق، إلا أنها أصبحت مصدر رزق واختصرت بشخص رئيسها. ارث الصنمـ تركة نظام الصنم ثقيلة. ألم تأبَ، كما نقلتها عدسات التلفزة إلي ملايين المشاهدين، ساقا ذلك الصنم الترنح وسط هتاف ومطارق وحبال من كان في ساحة الفردوس حينها. فالفساد واللامسؤولية والرشوة و الحواسم ، هي مفردات عاش تفاصيلها العراقيون. ومن تركته، أيضاً، الحملة الإيمانية التي أطلقها عقب هزيمته في حرب الخليج الثانية. اليوم، انبري وتنادي رهط من الخطباء ورجال دين بتطبيقها، وبطريقة تثير الريبة. بدأت بالصورة، فقد استبدلت صور القائد الضرورة وهو يراقب حركات الناس وسكناتهم أينما حلوا، في البيت كما في الشارع والدائرة والباص والملهي الليلي والمطعم. أما اليوم فصور رجال الدين تطالعك في كل مكان، وتنغص عليك حتي لقمة الغداء في مطعم مهما كانت درجته. في حين جمهورية الصدر الإسلامية ليست ببعيدة، فقد فازت بها بامتياز مدينة الثورة. وهذه المدينة المدقعة بفعل البطالة والحرمان وعقود طويلة من الإهمال، وذات الكثافة السكانية الغزيرة، والمرتبطة بشبكة علاقات عشائرية وقبلية معقدة ومؤثرة، وجدت في صورة وخطاب رجل الدين الشاب مقتدي الصدر صوتها وحلها. الإحصائيات الأولية لنسبة الولادات الجديدة تشير إلي ما يصل من 70 بالمئة منهم حمل اسم مقتدي. فيما تولي وكيله في تلك المدينة تطبيق قوانينه الخاصة، وعبر محاكم تصدر أحكاماً بالجلد والإعدام وفض نزاعات عشائرية وغلق محلات، خصوصاً صالونات الحلاقة لمخالفتها قواعد الآداب. ويتولي تنفيذ تلك القرارات جيش المهدي مرة، و منظمة بدر مرة أخري عندما تدخل علي الخط. المفارقة أن بعضاً من أعضاء تلك المنظمتين هم من بقايا زمر بعثية، يطلق عليهم التوابون لانهم عرفوا طريق الهداية، ولصوص ورعاع يتمنطقون بقيم الفضيلة ويسلكون سلوك القردة.وجه بغداد الآخرـ ومع هذا، فان لبغداد وجهاً آخر، وجهاً يكتفي بوظيفة المشاهدة إزاء الخراب والفوضي العارمتين. يجد الزائر، أو البغدادي السابق ، لقي تفاصيله مبثوثة هنا وهناك. وعلي شكل أبنية ودور سكن ونواد خاصة تحاكي في تصميمها العالمية وهدأة المدينة في لحظات صفو نادرة عبر تاريخها. بناية المسبح الأولمبي المغلق المجاورة لملعب الشعب والتي صممها المعماري الفرنسي الفذ لوكاربوزيه ، وبيوت تفنن المعماري العراقي في تجريبية تصميمها. عمارة الدفتردار، خان مرجان، جامع الخلفاء، الحضرة الكيلانية، جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان. نادي العلوية المطل علي ساحة الفردوس، والذي كتبت فيه فصولاً مهمة من تاريخ العراق إبان الاحتلال البريطاني. وكان من رواده أم ناجي أو الخاتون ، كما يسميها العراقيون، غرترود بيل التي لعبت الدور المهم في صياغته، عاشت وتوفيت ودفنت في المقبرة البريطانية في منطقة الوزيرية، ناهيك عن رؤساء الوزارات والوزراء وكبار رجال الدولة ممن كان يتردد عليه… عري المدينة وخرابها كشف وجه شارع الجمهورية، إذ تكتشف ابتداء من ساحة الخلاني وحتي ساحة باب المعظم كماً هائلاً من دور العبادة الخاصة بالمسيحيين وبمختلف مذاهبهم، فنجد علي جانبيه ما يقارب العشر كنائس لم تكن منظورة من قبل، في حين، تلعب نواديهم وحدائقهم دور المتنفس الوحيد المبذول للمثقفين والموظفين وعوائلهم…ـ فواكه وخضروات العراق ما زالت بخير. وتقف علي رأسها التمور، والتي تبز وتباهي بمذاقها وأنواعها الهائلة كل مثيلاتها في العالم، إذ يتجاور البرحي والخستاوي والخضراوي والعوادي وأصابع العروس والزهدي.. في سلال يفاخر فيها أصحاب البسطات دون غضاضة أو خوف من منافسة. والي جنبهم باعة الكروم والرمان والبرتقال… إذ لم يبق للعراقي اليوم سوي غلة الأرض، وصمت قدري بانتظار غودو محلي، وما عداهما كل شيء متوقف حتي إشعار آخر.كاتب من العراق يقيم في لندن وهذا فصل من كتاب سيصدر قريباً عن بغداد بين الجد والهزل 0