فرنسا: أزمة مجتمعية بشأن غزة

هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ونجاح المقاومة في التوغل وفي خلق حالة غير مسبوقة من الرعب والصدمة، كان فعلا استثنائيا. في المقابل فإن المجازر وتعمد تجاهل المواثيق الدولية من قبل الجانب الإسرائيلي، كان أيضا استثنائيا، حيث لم يأبه جيش الاحتلال، وهو يتجه للرد، حتى لسلامة أبنائه المحتجزين داخل قطاع غزة. أدت أحداث غزة والانحياز الغربي لطرف الاحتلال لانتفاضات شعبية غربية غير مسبوقة. في بريطانيا قاد الأمر لتنحية وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان، أما في فرنسا، فكانت ثمة تفاعلات من نوع مختلف دفعت الإعلام للتساؤل عما إذا كانت البلاد ستشهد موجة جديدة من العداء لليهود.
لم يتعلق الأمر بالحساسيات المتوقعة بين أبناء الديانتين الإسلامية واليهودية، الذين يميل كل منهما بالضرورة لأحد طرفي الصراع، بقدر ما تعلق بغضب أعداد كبيرة من الفرنسيين، الذين يظنون أنهم خدعوا حين تم تصوير الأمر وكأنه مجرد دفاع عن النفس. الذي حدث هو عين ما قاله المثل الشهير «بإمكانك أن تخدع بعض الناس بعض الوقت ولكن من المستحيل أن تخدع الجميع كل الوقت»، فحتى إن فعلت «الديمقراطيات الغربية» ما بوسعها من أجل خنق الأصوات، التي تنقل رواية غير الرواية المراد لها الانتشار، إلا أن الأخبار، لسوء حظ أعداء الحقيقة، ما تلبث أن تتسرب.

جرائم الاحتلال باتت أكبر مهدد لعيش اليهود أنفسهم في سلام، ليس فقط داخل الأراضي المحتلة، وإنما في كثير من دول العالم، التي يضطرون فيها لتبديل أسمائهم وإخفاء هوياتهم

لا يقتصر الأمر على الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين، ولكن أي شخص لديه ذرة إنسانية لا يمكنه أن يقف محايدا، أو أن يبرر عمليات الانتقام الجماعي، التي كان أغلب ضحاياها من غير المقاتلين. في فرنسا تفيد استطلاعات الرأي بأن حالة التعاطف التام مع الكيان أول أيام الحرب تحولت لحالة معاكسة من التعاطف مع الفلسطينيين. من أمثلة تزوير الواقع ما قامت به مجلة «تايم» الأمريكية في عددها الذي تصادف صدوره مع مرور شهر على عملية «طوفان الأقصى»، حيث احتفى صامويل جاكوبز، رئيس تحريرها الجديد والشاب، في افتتاحية حملت عنوان: «ما بعد مجزرة السابع من أكتوبر» بمستوطن يدعى إيال نوري. المقال الافتتاحي كان يصب في إطار التأثر من القصة، التي سمعها جاكوبز من هذا المستوطن عن توحش مقاتلي «حماس» وترويعهم للآمنين، وعن أعمال القتل والاختطاف، التي قاموا بها. اتفق المقال مع تشبيه كارل فيك، الكاتب الآخر في المجلة، للأحداث بأنها 11 سبتمبر/أيلول الإسرائيلية، قبل أن ينوه لاحتواء المجلة على ملف خاص يحوي إفادات وشهادات لبعض عائلات المختطفين. لم يكن هناك مفر من التعرض للمأساة الأخرى، على الجانب الفلسطيني، ولكن المجلة اختارت أن لا يتعدى الأمر بضع فقرات في المقال الافتتاحي وصفحة أخرى داخلية تطرقت إلى أن هناك الآلاف ممن لقوا حتفهم داخل قطاع غزة بسبب الهجمات الإسرائيلية. وفق جاكوبز، فإن الصحافيين الذين قاموا بعقد لقاءات مع أسر المختطفين استمعوا إلى شهادات قد تكون الأكثر إيلاما خلال مسيرتهم المهنية، وهي التي تعلقت بمشاعر قلق ذوي المختطفين، الذين يجهلون مصير أحبائهم. كان ذلك مجرد مثال على طرق «التغطية» الغربية للأحداث، التي تريد من العالم أن يتوقف عند ما حدث في السابع من أكتوبر، وأن لا يلتفت لما وراءه، بما في ذلك الحقيقة التي لا يمكن التهرب منها، وهي أن مأساة المدنيين الفلسطينيين، سواء من ناحية أعداد القتلى والمختطفين، أو من ناحية التدمير والقصف هي أكبر بكثير. من المفارقات المحزنة هنا أن ملف «تايم»، الذي جمع شهادات إسرائيلية، والذي جاء بعضه تحت عنوان أن الأطفال يجب أن لا يكونوا جزءا من الحرب في أي حال من الأحوال، ركز على تعرض بعض الأطفال الاسرائيليين للاختطاف على يد «حماس»، لكنه لم يتطرق للحديث عن الآلاف من الأطفال الفلسطينيين، الذين ماتوا تحت القصف، أو في المستشفيات، أو على طرق النزوح، ناهيك عن الأعداد الكبيرة من الأطفال المحتجزين منذ سنوات في سجون الاحتلال. استراتيجية «التغطية» هذه لم تنجح في تجريم جميع الفلسطينيين وسحب التعاطف الدولي مع قضيتهم، خاصة أن الصور والفيديوهات والأخبار (صورة الأطفال الخدج خارج الحاضنات المتعطلة مثالا)، وعلى الرغم من محاولات المنع والتقييد، التي اجتهد فيها الممسكون بالرأي العام العالمي، ما لبثت أن انتشرت لتثير غضبا عالميا.
في فرنسا، ومثلما حدث في دول أخرى، لم يأبه كثيرون للقرارات الخاصة بمنع التظاهر دعما للفلسطينيين، بل توسع الغضب ليشمل انتقاد الحكومة العاجزة، في حين بدأ آخرون استعادة الأدبيات النازية والاعتداء بغضب على مناطق ومحال يهودية، ما جعل أبناء هذه الديانة يستشعرون الخوف من أن يفاجأوا بعودة «اللاسامية».
المعضلة الفرنسية لا تكمن في وجود أعداد لا يستهان بها من العرب والمسلمين في البلاد، فالقليل جدا منهم تم إثبات تورطه في جرائم كراهية، تخبر التجربة كذلك أن احتواء هؤلاء ممكن، حيث يسهل التلويح بعقوبات قد تصل حد إسقاط الجنسية. الصعوبة الحقيقية تتعلق بتراث فرنسي عريق ومتجذر في كراهية اليهود، لم تنجح حتى الثورة الفرنسية ودعواتها للمساواة في القضاء عليه. يُخشى الآن أن تساعد الأحداث الجارية على استعادة هذا التراث، ما سيعني تقويض التعايش المجتمعي المشترك. بعكس الجيل السابق، الذي كان سهل الابتزاز بسبب جرائم النازيين، وما كان يذكر من تواطؤ المواطنين مع الغزاة ضد اليهود، فإن الأجيال الجديدة تحاول أن تضع فروقات ما بين إدانة «الهولوكوست» ورفض جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، كما أن كثيرين يرفضون الربط بين انتقاد السياسة الإسرائيلية ومعاداة السامية. هذه الأفكار في طريقها للتوسع ويمكن التدليل عليها بالقول إن التظاهرة الكبرى، التي جرت لإبراز التعاطف مع اليهود، والتي شارك فيها الرئيسان السابقان فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي رفقة رئيس المجلس الوطني وشخصيات سياسية أخرى بارزة، لم تكن تحوي سوى أعدادٍ قليلة من الشبان. الصحافة الفرنسية احتفت بمشاركة اليمينية مارين لوبان، زعيمة «الجبهة الوطنية»، التي تنتمي لتيار كان متهما بمعاداة اليهود، في حين تساءل البعض عن سبب غياب الرئيس إيمانويل ماكرون، على الرغم من وجود رئيسة الوزراء إليزابيت بورن.
كل تلك التفاعلات تؤثر في الموقف الفرنسي الرسمي بلا شك، فيبدو مرتبكا بين التعاطف التام مع الكيان، والإقرار بحقه في الدفاع عن نفسه، واستنكار التوسع في التضحية بالمدنيين الفلسطينيين في سبيل ملاحقة «الإرهابيين»، وصولا إلى المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، وهي الدعوة التي أثارت حنق بنيامين نتنياهو. ربما سيتطلب الأمر بعض الوقت حتى يقتنع الجميع بأن الأمر كله يتعلق بخطيئة الاحتلال، وأن التستر على هذه الخطيئة لن يتسبب فقط بفوضى في المنطقة العربية، بل ستكون له انعكاسات سلبية على كثير من الدول الغربية، التي كانت تظن أن «المسألة اليهودية» حسمت منذ وقت طويل. أكثر من ذلك فإن جرائم الاحتلال باتت أكبر مهدد لعيش اليهود أنفسهم في سلام، ليس فقط داخل الأراضي المحتلة وإنما في كثير من دول العالم، التي يضطرون فيها لتبديل أسمائهم وإخفاء هوياتهم. دفع هذا كثيرا من أبناء هذه الديانة لانتقاد الاحتلال وسياساته، بل لانتقاد فكرة الدولة المصطنعة، التي تسببت لهم، كما للفلسطينيين، بكل هذا التعقيد والمعاناة.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية