كان (ر) رئيس نادي الأدب الذي يكبر بالفتى بخمسة أعوام كاملة، يعتني به. وكان الفتى يحب (ر) كذلك. والسبب أن (ر) كان يعتقد في نفسه بوضوح أنه عبقري ليس له مثيل، وهو قد اعترف بعبقرية الفتى بدون النظر إلى فارق السن بينهما، ولأنه من الضروري أن يصبح العباقرة أصدقاء لبعضهم البعض.
كان (ر) هو الابن الأكبر لعائلة من النبلاء. ولذلك تجده قد تقمص دور الشاعر الفرنسي أوغست دوليل آدم، ويفخر بنسب عائلته العريق، ويكتب أعمالا يبث بها مشاعر رثاء جمالية تجاه تقاليد وفنون وآداب النبلاء القدماء. كذلك قام (ر) بتجميع أشعاره وكتاباته القصيرة في كتاب ونشره على حسابه الخاص، وهو ما جعل الفتى يشعر بالغيرة تجاهه.
كان الاثنان يتبادلان يوميا رسائل طويلة. وكانت عادة كتابة الرسائل اليومية ممتعة بالنسبة للفتى. تقريبا كل صباح كان يصل لعنوان الفتى رسالة من (ر) في مظروف غربي الطراز مشمشي اللون. مهما كان سُمك الرسالة كان يمكن معرفة وزنها، ولكن خفة تلك الرسائل المنتفخة كانت تسعد الفتى وتعطيه شعورا بأنها مملؤة عن آخرها بالرشاقة، وفي نهاية رسالة كل منهما كانت تختم بما ألّفه كلاهما من شعر في ذلك اليوم أو آخر وأحدث أشعارهما، أو لو لم يلحق بها كانا يكتبان أشعارهما القديمة.
أما محتوى الرسائل فهو بلا هدف محدد. يبدأ مرسل الرسالة بالنقد والتعليق على شعر الطرف الثاني في آخر رسالة له، ثم ينتقل من ذلك إلى أحاديث لا نهاية لها، فيكتب عن آخر ما سمعه من موسيقى، والأحاديث العائلية اليومية، وانطباعه عن فتاة جميلة شاهدها، وتعريف بما قرأه من كتب، والتجارب الشعرية في تلقى الوحي لعالم شعري كامل من خلال كلمة واحدة، وحكي مفصل عن الحلم الذي حلم به الليلة السابقة … إلخ. مثل هذه الرسائل لم يمل كتابتها أبدا لا الشاب الذي بلغ العشرين عاما ولا الفتى ذو الخمسة عشر ربيعا.
ولكن الفتى قد لاحظ في رسائل (ر) ظلالا ضئيلة من الاكتئاب والقلق، يعرف تماما أنها لا توجد في رسائله هو مطلقا. الخوف تجاه الواقع، والقلق من ضرورة مواجهته في النهاية، أعطيا لرسائل (ر) نوعا من المعاناة والوحدة الموحشة. وكان الفتى السعيد يعتقد أن تلك الظلال ليس بينها وبينه أي علاقة وأنه لا يمكن أن يسقط فيها.
‘هل يمكن يا ترى أن أستقيظ على شيء ما قبيح؟’ لم يخطر هذا السؤال على بال الفتى قط ولم يتوقعه مطلقا. على سبيل المثال الشيخوخة التي اجتاحت جوته وتحمّلها لوقت طويل. من المستحيل أن يحدث ذلك له. كان الفتى لا زال على مسافة بعيدة من فترة ريعان الشباب التي يقال عنها إنها قبيحة وفي نفس الوقت جميلة. ونسي الفتى تماما ما كان قد اكتشفه داخل ذاته من قبح.
الأوهام التي تخلط الفن بالفنان، الأوهام التي تجعل فتيات المجتمع المتساهلات يتجهن بأعينهن إلى الفنان، تلك الأوهام قد أمسكت بالفتى ذاته. لم يكن لديه اهتمام بدراسة وتحليل وجوده الذاتي، ولكنه كان دائما ما يحلم بذاته تلك. كان هو ذاته ينتمي إلى عالم الخيال الوهمي، ذلك الذي تتحول فيه الفتاة العارية إلى زهور صناعية. الإنسان الذي يصنع الأشياء الجميلة من المستحيل أن يكون قبيحا، هكذا كان الفتى يفكر بعناد، ولكن للأسف لم يصل عقله حتى النهاية إلى القضية الأكثر أهمية وراء ذلك. ألا وهي قضية هل هناك ضرورة أن الإنسان الجميل يصنع أشياءً أكثر جمالا؟
‘ضرورة؟’ لو سمع الفتى هذه الكلمة لضحك بلا أدنى شك. والسبب أن شعره لا يُولد تلبية لضرورة. فكل أشعاره، تُولد بشكل طبيعي، حتى لو رفضها الفتى ذاته، يُحرك الشعرُ يد الفتى، ويجعله يكتب الحروف على الورق. إذا قلنا ضرورة فهذا يعني أنه لابد من وجود نقص ما. ولكن هذا النقص غير موجود. مهما أطال التفكير فالنقص غير موجود. فأولا منبع أشعاره كلها يمكن تعويلها على الكلمة السهلة المفيدة التي تُسمى عبقرية، ومن جهة أخرى فهو غير قادر على الإيمان بوجود نقص ما عميق داخله لا يستطيع هو الوعي به، وحتى لو آمن بذلك، فهو عوضا عن التعبير عنه بكلمة نقص، كان الفتى يحب أن يسميه عبقرية.
ورغم قول ذلك فليس معناه أن قدرة الفتى على النقد الذاتي لشعره كانت منعدمة تماما. مثلا القصيدة ذات الأربع أسطر التي أغرقها زملائه الأقدم منه مدحا، كان يرى هو أنها طائشة ويخجل منها. كانت القصيدة عبارة عن شعر يتكلم في مجمله عن قدرة عيناك الصافتين على اختزان الكثير من الحُب داخلها بسبب تلك الدرجة العالية من الشفافية والزرقة مثل قطعة من الزجاج.
يسعد الفتى بمديح الآخرين له بالطبع، ولكن كان غرور الفتى ينقذه من مصير الغرق في بحر المديح. وفي الحقيقة كان الفتى لا يحمل أي تأثر أو اهتمام حتى بمواهب صديقه (ر). كان (ر) بالتأكيد ذو موهبة بارزة متميزة بين أعضاء نادي الأدب الأقدم منه، ولكنها لم تكن تصنع ثقلا في قلب الفتى بكلمات أو عبارات متفردة. كان في قلب الفتى مناطق بالغة البرود. وإذا لم يقم (ر) بالإسهاب في مديح مواهب الفتى الشعرية باستخدام الكثير من الكلمات، لما كان الفتى على الأرجح ليعترف بموهبة (ر).
وبديلا عن تذوق السعادة الهادئة التي تأتيه من وقت لآخر، كان الفتى يعلم جيدا أنه تنقصه العاطفة الخام التي تلائم فتى في مثل سنه. في مبارايات كرة المضرب التي تقام بين المدارس التابعة لجامعة ‘غاكوشوين’ مرتين من كل عام في الربيع ثم الخريف، عندما ينهزم فريق مدرسة ‘غاكوشوين’ الإعدادية أمام المدرسة الإعدادية التابعة، بعد نهاية المباراة يلتف المشجعين من الزملاء الأحدث حول اللاعبين الذين ينهارون في البكاء بشدة، ويبكون معهم. ولكن الفتى لم يكن يبكي. ولم يكن يشعر بأي حزن ولو قليل.
رأي الفتى هو {ما هو الأمر المحزن في خسارة مباراة لكرة المضرب؟} الوجوه التي تبكي لسبب كهذا كانت بعيدة جدا عن قلبه. بالتأكيد كان الفتى يعلم أنه مخلوق سهل التأثر والتعاطف، ولكن سهولة التأثر تلك كانت تتجه في اتجاه يختلف عن الآخرين جميعا، ومن ناحية أخرى كان ما يبكي الآخرين لا يتردد صداه في قلب الفتى على الإطلاق.
زادت تدريجيا عناصر الحب فيما يكتبه الفتى من أشعار. هو لم يسبق له خوض تجربة الحب. ولكنه كان قد سئم من تأليف الشعر معتمدا فقط على تحوّل كائنات الطبيعة، فبدأت نفسه مع الوقت ترغب في كتابة الشعر عن تحوّلات القلب. ولم يكن الفتى يشعر بأي حرج في كتابة الشعر عن موضوع لم يسبق له خوض تجربته بنفسه. فلقد كان من البداية متأكدا أن الأدب والفن هو كذلك. ولم يتباكى على الإطلاق من عدم خبرته. فالحقيقة أنه لم يكن هناك أية بوادر للتصادم أو التوتر بين حقائق العالم الذي لم يخض تجربته بعد، وبين عالمه الداخلي الخاص به، ولم يكن في حاجة إلى ضرورة الإيمان بتفوق عالمه الخاص ولو بالقوة، ومن خلال تأكيد لا عقلاني ما، كان يستطيع حتى الاعتقاد أنه لا يوجد في هذا العالم أية عاطفة لم يسبق له تجربتها شخصيا. والسبب أنه كان يعتقد أنه بالنسبة لقلب حاد العاطفة مثل قلبه، يمكنه من خلال تجميع العناصر الأساسية لجوهر كافة المشاعر والعواطف في هذه الدنيا في الشكل المناسب، حتى لو كان ذلك من خلال توقعها في حالة معينة، فكل التجارب الأخرى من الممكن له التقاطها والتدرب عليها ثم إيجادها. ما هي العناصر الأساسية للمشاعر؟ كان الفتى قد وضع لها تعريفا خاص به. ‘إنها الكلمات’.
لم يكن الفتى قد تمكّن بعد من الإمساك بالكلمات وامتلاك طريقة استخدام لها خاصة به وحده حقا. ولكن الكثير من الكلمات التي يكتشفها في المعاجم، كلما كانت كلمات شاملة، وكانت لها معاني متعددة ومحتوى متنوع، كلما كان يعتقد هو أن بسبب ذلك فقط هو يملك طريقة استخدام خاصة به وتحمل بصماته. ولكنه لم يكن يعتقد بالضرورة أن طريقة الاستخدام الخاصة به تلك، تحمل صفاتها وألوانها وتتكون لأول مرة من خلال الخبرة والتجربة المعيشية.
إن اللقاء الأول لعالمنا الخاص مع الكلمات، هو تلامس الشيء الفردي مع الشيء الشامل، وكذلك الشيء الشامل يتم صقله ويصبح بالتالي يحصل على مكانه لأول مرة كشيء فردي. إن تلك التجارب الداخلية التي يصعب التعبير عنها تراكمت بشكل كافي حتى داخل الفتى ذي الخمسة عشر ربيعا. والسبب أن الفتى عندما يصطدم بكلمة ما جديدة ويشعر بغرابة تجاهها، في ذات الوقت كان ذلك يجعله يحس بتجربة عاطفة ما مجهولة داخله. وذلك أيضا كان مفيدا له في الاحتفاظ بملامح هادئة لا تتناسب أبدا مع عمره. ولأنه كان قد تعوّد على التعامل عندما تهجم عليه عاطفة ما، من الدهشة التي تحدثها تلك العاطفة داخل قلبه، يتذكر على الفور إحدى العواطف المناسبة التي تم ذكرها عاليه، ويتذكر الكلمة التي سببت تلك العاطفة، ومن خلال تلك الكلمة يعطي بسهولة تلك العاطفة التي أمامه اسما. ولهذا السبب كان الفتى يعرف أشياءً متنوعة مثل ‘اليأس’ و’اللعنة’ و’فرحة بلوغ الحب’ و’حزن فقد الحب’ و’الألم والمعاناة’ و’الذل وجرح الكرامة’.
كان من السهل أن يُسمي ذلك قوة الخيال. ولكن الفتى كان مترددا إزاء تلك التسمية. فلو قلنا قوة الخيال، فيجب أن يتضمن ذلك تخيل آلام الآخرين، وحدوث انتقال عاطفي يجعله هو نفسه يتألم مثلهم. ولكن برود الفتى الطاغي لم يجعله يشعر مطلقا بآلام الآخرين. كان فقط يهمس: ‘ذلك الآلم رهيب. أنا أعرف ذلك جيدا.’
كان ذلك في وقت ما بعد الظهيرة في يوم صحو من شهر مايو. انتهى الدرس وفكر الفتى أن يذهب إلى غرفة نادي الأدب ليتناقش مع من يجده هناك قبل أن يعود إلى منزله، وتوجه بقدمه فعلا في اتجاه الغرفة. عندها قابل (ر) في منتصف الطريق.
قال (ر):
– ‘كنت أبحث عنك. دعنا نتبادل الحديث ثم نذهب.’
دخل الاثنان مبنى المدرسة القديم الشبيه بالثكنات وفصوله مقسمة بحوائط من ألواح الأبلكاش. توجد غرفة نادي الأدب في أحد أركان الطابق الأرضي المظلم. يُسمع من غرفة نادي الرياضة أصوات ضوضاء وضحكات عالية ونشيد المدرسة ويُسمع من غرفة نادي الموسيقى صدى لصوت البيانو على فترات متباعدة.
أدخل (ر) المفتاح في ثقب الباب الخشبي المتسخ. ولكي يُفتح الباب كان يجب دفعه بقوة بالجسم بعد إدارة المفتاح.
كانت الغرفة خالية لا يوجد بها أحد. فاحت رائحة التراب المألوفة. دخل (ر) أولا وفتح النافذة ونفض الغبار الذي التصق بيده، ثم بعد ذلك جلس على مقعد قديم على وشك الانكسار.
بعد أن هدأ قليلا بدأ الفتى التحديث على الفور.
‘- لقد رأيت ليلة أمس حلما ملونا. لقد كنت أنوي أن أكتب لك رسالة بعد عودتي للمنزل اليوم. (كان الفتى يؤمن أن رؤية الأحلام الملونة هي ميزة خاصة ينفرد بها الشعراء فقط، وكانت تلك من مهاراته.) …… كان مكانا يشبه ربوة عالية أرضها حمراء. كانت شمس الغروب تشع بلون فاقع الإحمرار، ولكن رغم ذلك كان لون الأرض الأحمر بارزا. ثم بعد ذلك ظهر من ناحية اليمين، شخص يجر سلسلة طويلة. و مقيد في نهاية السلسلة طاووس أكبر خمسة مرات تقريبا من حجم الإنسان، ويسير الطاووس مسحوبا ببطء شديد طاويا جناحيه أمام عيني. كان لون الطاووس أخضر فاقعا. كان في غاية الجمال، جسمه كله أخضر، واللون الأخضر يتألق لامعا. ولقد ظللت أتأمل ذلك الطاووس إلى أن تم سحبه والابتعاد به. كان حلما مهولا. أحلامي ذات الألوان دائما ما تكون ألوانها زاهية وواضحة ربما بشكل زائد عن الحد. ماذا يعني يا ترى ظهور الطاووس في الحلم طبقا لتفسير فرويد للأحلام؟’
‘- آه.’
رد (ر) ردا مبهما بلا مبالاة واضحة.
كان (ر) مختلفا عما هو عليه دائما. شحوب وجهه كان كما هو عليه دائما، ولكنه لم يُظهر الحالة التي يرد بها دائما على كلمات الفتى بحماس لا يتغير ويتحدث إليه بصوت تملؤه حرارة هادئة. كان من الواضح أنه يستمع إلى حديث الفتى الفردي بلا وعي ولا انتباه. لا بل هو لم يكن يستمع له من الأصل.
كان قشر الشعر ينتشر قليلا حول الياقة الطويلة للزي المدرسي. أشعة الظلام جعلت شارة الياقة الذهبية التي على شكل زهرة الكرز تلمع، وبرزت الأنف عالية لتبدو أطول من أنوف الآخرين. تلك الأنف التي ولو أنها أكبر قليلا عن اللازم إلا أنها ذات شكل جميل وراقي، ولكنها تبرز بملامح قلقة محتارة إلى حد كبير. وقد جاء للفتى إحساس أن المعاناة تتبلور في ذلك المكان.
يوجد فوق المكتب العديد من الأشياء التي اعتلاها التراب، مثل مسودات قديمة، ومساطر، وأقلام رصاص قُصفت سنونها، ومجلد تجميع مجلة لجنة أصدقاء المدرسة، وورق كتابة مربعات به بعض الكلمات. كان الفتى يحب هذا الجو الأدبي الفوضوي. مد (ر) يده متثاقلا وتناول المسودات القديمة وكأنه يحاول ترتيب الفوضى. وعندها صُبغت أنامل يده الرقيقة البيضاء، بتراب ذو لون فيراني. ضحك الفتى بصوت خفيض. ولكن (ر) لم يضحك بل عبر عن استيائه بقرقعة من لسانه وقال وهو ينفض يده من التراب:
– ‘في الواقع يوجد ما أريد قوله لك اليوم.’
– ‘وما هو؟’
– ‘في الواقع … أنا …’
بعد أن تباطأ (ر) في القول واصل في عجلة:
– ‘أعاني بشدة. لقد قابلت موقفا شديد الصعوبة.’
– ‘هل وقعت في الحب؟’
سأله الفتى ذلك السؤال بهدوء تام.
‘- آه.’
بعد ذلك تحدث (ر) عن ما يلاقيه في مسيرة حياته حاليا. كان يتبادل الحب مع زوجة شابة، وقد فطن أبوه إلى ذلك الأمر، ففرّق بينهما.
فتح الفتى عينيه على وسعهما وظل يتأمل (ر) غير مصدق.
{يوجد أمامي هنا إنسان يعاني من الحب. إنني الآن ولأول مرة أرى ما يُسمى ‘الحب’}، ولكن على أي حال لم يكن ذلك المشهد جميلا بالمرة. بل ربما يكون هو أقرب إلى القبح. كان (ر) قد فقد حيوية روحه المعتادة فيه، وتميل ملامحه إلى البؤس، بمعنى أنه كان متعكر المزاج. لقد سبق للفتى أن رأى مثل ذلك الوجه لأناس فقدوا أشياءً لهم، أو تأخروا عن موعد القطار فرحل بدونهم.
ومع قول ذلك، فقد دغدغ غرور الفتى أن يبوح له زميله الأقدم سنا بقصة غرامه. وكان بالطبع سعيدا بذلك. وحاول الفتى بكل جهده أن يُظهر مشاعر التعاطف والحزن. ولكنه في الواقع كان يحس بالضيق والتذمر من الصورة المتواضعة للغاية للإنسان الواقع في الحب.
أخيرا لاحت للفتى كلمات يواسي بها (ر).
‘- إنه أمر مهول. ولكن من المؤكد أن ذلك سيجعلك تكتب شعرا رائعا.’
رد (ر) عليه وهو خائر القوى منهك العزيمة:
‘- الأمر أخطر بكثير ولا مجال للشعر فيه.’
‘- ولكن … أليس وظيفة الشعر إنقاذ الإنسان في وقت كهذا؟’
برزت إلى مخيلة الفتى قليلا حالة السعادة التي يكون هو عليها عند كتابة الشعر. إذا استعار تلك السعادة فهو يعتقد أنه يستطيع التغلب على أية حالة من التعاسة أو المعاناة مهما كانت.
‘- ليس الأمر بهذا الشكل. أنت لا زلت صغيرا على فهم ذلك.’
جرحت هذه الكلمة كبرياء الفتى. وتحول قلبه إلى البرود، وبدأ يخطط للانتقام.
– ‘ولكن إذا كنت شاعرا حقا، إذا كنت عبقريا حقا، ألا يكون الشعر هو المنقذ لك في هذه الحالة؟’
رد (ر(:
– ‘لقد كتب جوته رواية ‘آلام فرتر’، فأنقذته من الانتحار. أليس كذلك؟ ولكن جوته لأنه كان يشعر من أعماق قلبه أنه لا الشعر ولا أي شيء آخر يمكن أن ينقذه، وليس أمامه سبيل آخر إلا الانتحار، استطاع أن يكتب ذلك الشعر.’
– ‘إذا كان الأمر كذلك، لماذا إذن لم ينتحر جوته إذا كانت كتابة الشعر والانتحار سيان؟ لماذا لم يختار الانتحار؟ هل عدم انتحاره يعني أن غوته كان جبانا؟ أم يعني أنه كان عبقريا؟’
– ‘لأنه كان عبقريا.’
– ‘إذا كان الأمر كذلك …’
حاول الفتى أن يضغط على (ر) بسؤال آخر، ولكنه نفسه أصبح غير قادر على الفهم. لقد برزت فكرة ضبابية في ذهن الفتى وإن كانت ليست كاملة الوضوح، وهي أن نرجسية جوته هي التي أنقذته في النهاية. ولقد أحس الفتى برغبة قوية في الدفاع عن نفسه بهذه الفكرة. فلقد جرحت قلبه جرحا عميقا كلمة (ر) عندما قال له: ‘أنت لا زلت صغيرا على فهم ذلك’. في هذا العمر تكون عقدة النقص تجاه الندية العمرية حادة للغاية. لم يقولها بفمه ولكن تولدت لدى الفتى نظرية رائعة هي الأكثر مناسبة للسخرية من (ر). (هذا الشخص ليس عبقريا. أجل فهو يقع في براثن الحب!)
كان حب (ر) حبا حقيقيا بالتأكيد. حبا لا يجب على العبقري الوقوع فيه أبدا. أخذ (ر) يحاول الدلالة على معاناته بإعطاء أمثلة للتأكيد عليها من قصص حب عديدة ومتنوعة، مثل حب الأميرة فوجيتسوبو والأمير غنجي، وحب بيلياس وميليساند، وحب تريستان وإيزولت، وحب الأميرة كلي’ ودوق نيمورس وغيرهم.
الفتى وهو يسمع اعتراف (ر) تعجب أنه ليس به أي عنصر مجهول له. فقد كتب كل شيء، وتوقع كل شيء، وتدرب على كل شيء منه. لقد ذهب (ر) للواقع بقدميه من أجل أن يرى حلما أكبر. وهذا ما لم يفهمه الفتى. ولم يفهم لماذا تتولد الرغبة لدى العبقري لكي يفعل الشيء العادي؟
أثناء حديث (ر) بدا أن قلبه قد انفكت عقدته، فبدأ هذه المرة يتكلم بإسهاب ويحكي له عن جمال محبوبته. على ما يبدو أنها ذات جمال رائع، ولكن لم يستطع الفتى تخيل شكلها إطلاقا. قال له (ر) إنه سيحضر له في المرة القادمة صورتها ويطلعه عليها. ثم بعد ذلك أنهى (ر) كلامه نهاية مؤثرة وهو يبدي خجلا قليلا:
– ‘كانت تقول لي إن جبهتي جميلة.’
نظر الفتى إلى جبهة (ر) التي ظهرت بعد أن رفع عنها مقدمة شعره. لمع سطح بشرة الجبهة العظيمة قليلا بسبب الأشعة الضئيلة المتسربة من الخارج، ورسمت بشكل واضح قرنين كبيرين غير مرئيين. قال الفتى في نفسه: {يا لها من جبهة ضخمة}. ولكنه لم يشعر بأنها جميلة على الإطلاق. (أنا أيضا ذو جبهة كبيرة. ولكن هذا يختلف عن وصفها بالجمال).
وقتها استيقظت عيون الفتى على شيء هام. إلا وهي الشوائب المضحكة التي تدخل بالضرورة في الوعي أثناء الحياة أو عند الحب، لقد رأى تلك الشوائب المضحكة التي ما كان يستطيع العيش بدونها وسط الحياة والحب. أنها الظن الخاطئ بجمال الجبهة الضخمة.
ربما كان الفتى كذلك يحمل داخله اعتقادا ما خاطئا شبيها بذلك، وإن كان على شكل أكثر معنويا وفكريا، وربما يواصل حياته مع هذا الاعتقاد. {ربما أكون عائشا على قيد الحياة}. هذه الفكرة كان بها ما يجعله يرتعد رعبا.
– ‘في ماذا تفكر؟’
سأله (ر) بلطف كما هي عادته دائما.
عض الفتى شفته السفلى ثم ضحك.
كانت الشمس في خارج الغرفة على وشك الغروب تدريجيا. ولحظيا يُسمع أصوات فريق ‘كرة المضرب’ المتحمسين أثناء التدريب. ثم يتردد صدى صوت ممتع وجاف للمضرب الذي ضرب الكرة لتطير عالية في السماء.
(ربما سأتوقف في وقت ما عن كتابة الشعر). لأول مرة منذ ولادته يفكر الفتى على هذا النحو. ولكنه في نفس الوقت كان لا يزال على مسافة بعيدة من أن ينتبه إلى أنه لم يكن شاعرا من الأصل.
ترجمة: ميسرة عفيفي