غياب مفهوم الدولة الحديثة في العالم العربي

حجم الخط
0

لا أدري لماذا تسرع الغربيون بتسمية الانتفاضات التي حدثت في العالم العربي بثورات الربيع العربي، فالربيع هو موسم الورود والاخضرار والازدهار، فهل كان الغربيون يتوقعون ازدهارا حقيقيا في العالم العربي وهم الذين يدعمون معظم الأنظمة ويعرفون حقيقتها؟ المهم لدينا هو السؤال لماذا لم يحدث التغيير ؟ إنه سؤال يتردد في أذهان كثير من المثقفين الذين يرون تغير أنظمة الحكم في بعض البلاد العربية ولكنهم لا يرون تغيرا جوهريا في طبيعة الأنظمة القمعية والاستبدادية وهذا ما يجعلني أتوقف لتجلية صورة الواقع السياسي في العالم العربي، وهنا يجب ألا أتوقف عند ما حدث ويحدث بعد ثورات الربيع العربي، إذ يجب أن تكون البداية من مطلع الخمسينيات في القرن الماضي عندما استولى الجيش المصري على السلطة بعد إسقاط نظام الملك فاروق الذي لم يكن نظاما تعسفيا من وجهة نظري.
في ذلك الوقت كان العالم يخضع لنظامين سياسيين ،هما نظام الاتحاد السوفيتي الاشتراكي أو الشيوعي، والنظام الرأسمالي، وقبل أن أتحدث عن أنظمة الحكم التي قامت على أساس نظام الاتحاد السوفيتي أود أن أصحح وجهة نظر مرسلة أطلقت عن النظام الرأسمالي من خلال تجربة شخصية، فقد كنت في مرحلة من المراحل استأجر منزلا في مدينة مانشستر البريطانية لأسباب خاصة، وذات يوم جاءني صاحب المنزل وقال لي لماذا لا تشتري بيتي، وكدت أنفجر من الضحك،، وقلت له كيف اشتري بيتك وأنا لا أملك مالا أشتري به البيت؟ فقال لي لا تحتاج لأن تمتلك مالا، إذهب إلى البنك وسيقرضك المال، فقلت له وهل أنا بريطاني حتى يمنحني البنك قرضا أشتري به بيتا في بريطانيا، قال لي جرب، وبالفعل ذهبت إلى البنك وفوجئت بموافقته على منحي القرض وكان القسط الشهري أقل من المبلغ الذي كنت أدفعه في الإيجار، وعندها سألت نفسي من صاحب المال الذي مكنني من شراء المنزل ؟ فقلت لنفسي لا بد أنه رأسمالي بريطاني يضع أمواله في المصرف، وعندها قلت إذن أصبحت شريكا لهؤلاء الرأسماليين في أموالهم وليس صحيحا ما ظل يقوله الاشتراكيون من أن الرأسماليين يستغلون الشعوب ويستنزفون خيراتها ذلك أن الرأسماليين يضعون أموالهم في المصارف لتدخل في الدورات الاقتصادية بحيث يستفيد منها من يريد، لكن الوضع في بلادنا غير ذلك لأن الرأسماليين ينهبون الأموال ليضعوها في المصارف الخارجية لتخرج من الدورة الاقتصادية وتستفيد بها دول أخرى، هنا بدأت افكر في طبيعة النظام الرأسمالي ورأيت أن معظم البلاد في العالم الغربي تحكمها أنظمة سياسية متباينة سواء كانت ملكيات أو جمهوريات أو غيرها، لكن الذي يوحد بين هذه الأنظمة المتباينة هو نظام العدالة، وأساس هذا النظام هو الاقتصاد، ذلك أن الدول الغربية تعرف أن الاقتصاد هو الذي يمكن الحكومات من توفير العدالة لجميع المواطنين سواء كان ذلك من ناحية توفير الوظائف أو من ناحية إقامة نظام الضمان الاجتماعي، وتعيش هذه البلاد في درجة عالية من الاستقرار لأن المواطنين يعرفون أن حقوقهم محفوظة وإن كانوا لا يملكون المال الذي تأتي منه هذه الحقوق، ونلاحظ في ظل هذا النظام أن معظم المواطنين يحرصون على دفع ضرائبهم بكونهم يعرفون أن الضرائب هي التي تمكنهم من الحصول على المعاشات والاستفادة من نظم الضمان الاجتماعي.
ونلاحظ أن مثل هذا الفكر لم يزدهر في العالم العربي لأنه منذ ثورة يوليو والعالم العربي يعيش في دوامة من النظم العسكرية التي تبيع للناس شعارات غير قابلة للتطبيق في ظل الواقع الذي تعيشه الأمة العربية، وأول هذه الشعارات فكرة الوحدة العربية التي رفع شعارها تحت مفهوم القومية العربية وهي التي لم تتحقق من خلال جامعة الدول العربية كما لم تتحقق أيضا من خلال هذا الشعار، ذلك أن الذين تبنوا مفهومها هم قادة الأنظمة العسكرية الذين قسموا العالم العربي تحت شعاري التقدمية والرجعية، وبالتالي أوجدوا فرقة بين سائر الأنظمة السياسية في العالم العربي، كما أوجدوا حالة من الركود الاقتصادي ا أدى إلى كثير من الفقر في بلادهم.
واليوم عندما ننظر إلى حالة العالم العربي في الدول التي اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي نجد حالة من المأساة ذلك أن هذه الدول فشلت في إقامة النظام الجديد بسبب غياب فكرته ولأن الذين قفزوا إلى السلطة هم الذين كانوا مستضعفين خلال الأنظمة السابقة، وقد حدث ذلك في تونس وليبيا ومصر وما زالت هذه الدول تعاني مأساة سياسية حقيقية.
أما الوضع في سورية فيعجز القلم عن وصفه، ذلك أنه في الوقت الذي كان الكثيرون يتصورون حدوث تغيير في هذا البلد فإن الذي حدث هو المأساة بعينها، ذلك أن سورية التي ظلت تخبر العالم العربي منذ بداية عصر الانقلابات العسكرية أنها تعد جيشها لمحاربة إسرائيل فإن الذي حدث هو أن الترسانة العسكرية الضخمة التي كونتها استخدمت في قتل الشعب السوري، ولا نعرف في العصر الحديث حاكما قتل شعبه بمثل هذه القسوة مثل الرئيس بشار الأسد الذي دمر نصف العمران في بلاده كما قتل أكثر من مئتي ألف سوري ويريد أن ينقل الآن جرائمه إلى لبنان لتوسيع دائرة هذه الحرب المأسوية، وأما العالم فإنه يقف موقف المتفرج من هذه الجرائم، إذ نجد روسيا والصين تؤيدان الاسد في ما يفعله بشعبه، أما الدول الغربية ولأنها تعمل في السر والخفاء فلا يعرف أحد لها موقفا واضحا أو حقيقيا، وأكبر المآسي هو العجز التام لجامعة الدول العربية التي لا تعرف حتى الآن كيفية التعامل مع الواقع العربي، ولا تختلف الصورة في سورية عما يحدث في العراق حيث تصلنا أخبار التفجيرات من كل مكان ولا نعرف كيف يمكن أن تحقق مثل هذه التفجيرات أهدافا سياسية؟ وحتى الدول التي لم تصل فيها المأساة إلى هذا المستوى لا تعرف كيف تنتقل من مرحلة إلى مرحلة، كما هو الوضع في السودان حيث أقصى ما تقدمه الحكومة لمواطنيها هي فكرة الحوار، ولا يعرف أحد الحوار حول ماذا؟ لكن الكثيرين يرون أن فكرة الحوار في حد ذاتها فكرة جذابة، وهي من الأسس التي تقوم عليها الديمقراطيات الحديثة، وذلك ما جعل حزب المؤتمر الشعبي المعارض يقول أن فكرة الحوار مع الحكومة هي أفضل من فكرة إسقاط النظام بشرط أن تتوافر الحريات، ولا يقصد حزب المؤتمر بهذه الفكرة إيجاد نظام ديمقراطي شامل تكون فيه الحريات الدينية مكفولة كما هو الشأن في مختلف الدول الغربية بل بقصد توحيد الحركات الإسلامية من أجل الوصول إلى السلطة دون أن يحدد كيف يمكن في النهاية أن تتحقق الديمقراطية بشكل كامل بعد أن فشل النظام القائم في تحقيقها على مدى أكثر من عقدين.
ومؤدى قولنا أن ما يواجهه العالم العربي في الوقت الحاضر ليس مسألة تغيير الحكومات، ذلك أن تغييرها من الناحية النظرية هو أمر ممكن، ولكن تغيير الأنظمة السياسية من الصعب في ظل غياب تصور حقيقي لبناء الدولة الحديثة، والمطلوب إذن ليس هو تغيير الحكومات أو شكل الأنظمة بل المطلوب هو التفكير في كيفية تبني العالم العربي نظم الحداثة دون ثورات أو اقتلاعات سياسية.

‘ كاتب من السودان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية