غوستاف كليمت والنساء: سؤال الانثى الابدي…

حجم الخط
0

فيينا ـ من نائل بلعاوي: في وصف ذاته، هو الذي لم يقل عنها الشيء الكثير، قال مرة: من يريد ان يعرف عني شيئاَ لا بد وأن يمعن النظر جيداَ في اعمالي.. تلك هي أنا، ولكنني، يضيف في ذاك اللقاء الصحفي الموثق صيف العام 1917: أحس بالجنون، ما أنا الا مجنون ومسكين على الاغلب ..
لم يقل غوستاف كليمت 1862′ 1918، يومها الشيء اللافت أو الفضائحي الذي انتظره القراء، فقد كان يعرف تماماَ بأن اعماله الفنية وما يدور حولها من شائعات وقصص كفيلة بإثارة مخيلة المتلقي وفتح شهيته على عالم ايروتيكي غامض، وقتها، ومحاط بالثقيل من احكام التابو الاجتماعية والثقافية كما القانونية ايضا، اذ أن فيينا انذاك: اواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين ليست فيينا الصاخبة المتحررة اليوم، ولعل ردود الفعل، المحافظة، التي قوبلت بها اعمال كليمت، هي ذات ردود الفعل المحافظة والساخطة التي قوبلت بها، حينها، ابحاث الدكتور سيغموند فرويد 1856′ 1939، ففي وقت كان فيه فرويد، في فيينا، يواصل حفره العميق في الخبايا الدفينة للنفس البشرية كاشفا عن سطوة الجنس وتأثيراته العالية هناك، كان كليمت يحول ذلك الكشف الريادي الى بورتريهات وجداريات ولوحات تنهل، مجتمعة، من حضور الانثوي وتأثيراته الحسية والروحية فينا وفي ما ننتجه من ثقافة ووسائل ابداع، فقد اختار الفنان لنفسه، منذ بداياته تقريبا، دربا فنياَ ليس بالسهل او المخترق من قبل، بل هو الدرب الذي لا يتقاطع او يلتقي مع ما عرفه الرسم، الى ذلك الوقت، من دروب وفلسفات خاصة بصورة المرأة في اللوحة الفنية… صورتها العارية تحديداَ .
لهذا، وانسجاما مع طبيعة كليمت التي لا تميل، على الرغم من كثرة المعارك النظرية التي خاضها انثاء حياته، لا تميل للحديث عن الانا وتعريف محمولاتها باللغو والكلام، بل، وعبر لغة واحدة هي لغة الريشة والالوان واقلام الرصاص التي احبها وابدع من خلالها، لهذا لم يقل كليمت الكثير عن نفسه ولم يترك، على هذا الصعيد، سوى الرسائل الاربعمائة التي تبادلها مع عشيقته ‘ ايميلي فلوكه ‘ اّذ يمكن للقارىء هناك ان يتابع عن كثب ما دار في نقس الفنان من تصورات فنية ووجودية وما كان يؤرقه من هواجس ورؤى الى جانب ما يعمل على انجازه من اعمال، اتم بعضها فعلا ولم يتمكن، على اثر الجلطة الدماغية التي داهمته وحولته الى طريح فراش دائم قبل ان تقضي عليه تماما، لم يتمكن من اتمامها وتقديمها .
لوحات كليمت، بهذا المعنى، هي روحه الحقيقية فعلا، هي التعبير الادق عما تثيره الانثى من غوايات وفانتازيا شهوانية بقدر ما هي فلسفية لديه… فالانثى، عنده، هي العالم كثيف الاسئلة، اسئلة تستحق الطرح واجتراح الاجوبة، ولكنها للاسف، يقول هو في احدى رسائله :’ اسئلة بلا اجوبة…. لا في الرسم ولا في الادب، ولا خيار لنا سوى القبول بتلك الاسئلة الغامضة ومواصلة الرقص من حولها ‘. وقد دار كليمت الى النهاية حول تلك الاسئلة ‘ النساء ‘ فصورها عارية وجميلة مرة، وعارية وقبيحة الشكل مرات اخرى، مثل الاسئلة تماما وبمثل سطوتها، فكل:’ أمرأة سؤال، في اللوحة او الفراش، وما عليً سوى التعاطي معها والقبول بسطوتها ‘ ليصبح ذاك التعاطي، مع الوقت وكثرة العلاقات والاعمال، هو المعادل الاولي لشخصية الفنان أذ لا يمكن الحديث عن كليمت ودراسة حياته وتركته الفنية الكبيرة دون التوقف، طويلا، عند عالمه النسوي الشاسع وتجلياته في اللوحة كما في التفاصيل اليومية للحياة ايضاَ .
بروح العاشق المهووس وبشغفه الابدي بتلك الاسئلة عاش كليمت ايامه ورسم لوحاته الفاتنة، وبذات تلك الروح صنع حكاياته الغرامية التي انتشرت مثل النار في الهشيم بين مختلف الاوساط الاجتماعية النمساوية حينها ولا تزال، الى اليوم، تشكل مصدرا هاما للاقاويل والشائعات الى جانب الدراسات النقدية التي تتناول حياته أو تؤرخ لها، فهو الرسام الاول الذي تجرأ آنذاك على تجاوز حدود علاقاته الغرامية مع عديد موديلاته، الى اقامة علاقات من النوع ذاته مع نسوة الطبقة المتوسطة والبرجوازية اللواتي عهدن اليه بتحويلهن الى بورتريهات تقليدية أو لوحات كاملة، كما هو الحال مع السيدة ‘ أديليه بلوخ باور ‘ التي رسمها واقفة في لوحة شهيرة تحمل اسمها وتكشف، هنا تبرز خصوصية الرؤية الفنية لكليمت، عن الجانب الايروتيكي الكامن في تقاطيع وجهها وطبيعة وقفتها، فما نقله الفنان في لوحته، يقول النقاد، ليس هو بالضرورة ما كانت تعبر عنه السيدة او تبرزه من مفاتنها المثيرة، بل هو الجزء الذي كان يبحث عنه كليمت في الانثى ويسعى لتصويره، اما الشائعات التي احاطت باللوحة حين ظهورها فقد عثرت، بدورها، على علاقة غرامية بين الرسام والسيدة البرجوازية وما اللقطة تلك، بالتالي، سوى صورة عن اللحظات الحميمية التي جمعت بين الاثنين، وهو الامر الذي لم ينكره كليمت ابدا .
واصل كليمت بعد لوحته تلك ترسيخ ‘ المرحلة الذهبية ‘ التي كان قد اطلقها قبل ذلك بعدة سنوات: استخدام مكثف للخطوط المذهبة التي تغطي اجزاء كبيرة من اللوحة وتلتف، بصورة خاصة، حول الوجوه والاجساد التي يرسم. وهي المرحلة التي ستجد تالقها الفعلي مع لوحته الاكثر شهرة عالميا :’ القبلة ‘ في العام 1907 .
من لوحة هنا الى اخرى هناك، ومن مغامرة نسائية مع هذه او تلك :’ ترك كليمت خلفه العشرات من اللوحات الشهيرة والمئات من الرسومات الخطية والجداريات، الى جانب ما خلفه من ابناء: تم رصد وتثبيت اربع عشرة منها، من عديد العشيقات، علما بانه لم يتزوج ابدا ‘، غرس كليمت اسمه، بين هذا وذاك، عميقا في الذاكرة الجمعية لعشاق الرسم: الجريء منه على وجه الخصوص. فهو الفنان الريادي الاصيل وسيد فكرة القطع الضروري، كما رأى، مع مدارس الرسم التقليدية ووضع حجر الاساس لمدرسة ‘ الانفصال الفني ‘ التي لا تزال وستبقى تحمل اسمه الاستثنائي: جنوني المعنى عادة، كما يحمل التاريخ الفني عموما سؤاله الساخن .. جنوني التفسير بدوره: سؤال الانثى، الذي لم يتوقف غوستاف كليمت عن الرقص حول ناره والاكتواء الابدي بلهيبها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية