غائب باصرار عن العصر: الفنان العربي لا ينتج إلا جمالاً مُباداً تتفاداه المتاحف!

حجم الخط
0

غائب باصرار عن العصر: الفنان العربي لا ينتج إلا جمالاً مُباداً تتفاداه المتاحف!

فاروق يوسفغائب باصرار عن العصر: الفنان العربي لا ينتج إلا جمالاً مُباداً تتفاداه المتاحف! لا من جهة النوع ولا من جهة الكم (الغزارة التي تعني الخصب ولا تذهب الي الاكثار مما هو متشابه) يستحق الصنيع التشكيلي العربي المعاصر اهتماما عالميا. لا التقنية تعينه ليكون فاتحا لافت الحضور ولا الرؤية تتقدم به لتشفع له، محتفي به في اللقاءات الفنية العالمية أو علي مستوي العروض الفردية في الصالات الفنية، والنشاطان غير منفصلين، أحدهما عن الآخر كما هو معروف. فذلك الصنيع هو في حقيقته لا ينتمي الي عصرنا الراهن ولا إلي أي عصر سبقه وهو أيضا لا يكافح من أجل ان يكون كذلك، بل ولايبدي صناعه اكتراثا بذلك الامر. ذلك لان الفنان العربي وقد أصيب بجرثومة المحلية، صار يصحو متأخرا مثل ديك مريض ليسحر بصياحه حشودا من المشفقين علي أنفسهم من التهلكة المتوقعة في أية لحظة. وحين يتسابق هؤلاء لاقتناء الأعمال الفنية فانهم يسعون عن طريقها إلي تهدئة شعورهم بالخطر الوشيك، خطر الانقراض الماثل أمامهم. وهو سلوك انما يكشف عن عمق المؤامرة التي تتعرض لها الثقافة العربية: فالفنان والمتلقي (المقتني في بعض معانيه) يصنعان أملا كاذبا بحياة تشف عن جمال ممكن أو محتمل. والحقيقة بعيدة كا البعد عن كل منال، ذلك لان النتاج الفني العربي الان هو تجسيد لفعل استهلاكي مريض، بضاعته الجمالية فسدت منذ زمن بعيد. ولا تقدم هذه العملية الفنان العربي إلا بصفته نوعا من المجترات المنقرضة. الفنان هنا هو أشبه بمن يستيقظ من نومه متأخرا ليتصفح صحفا صدرت قبل قرون، فيصنع من مادتها أحلامه المبادة، بعد أن يعود مسرعا إلي النوم. الغث من الأعمال الفنية التي تمتليء بها صالات العروض الفنية العربية هو خير مثال علي احتفاء أهل الكهف بالجمال المنسي والمتداعي، بل والمندثر . الفنان والمتلقي، كلاهما ينظران في مرآة اليأس عينها. ومن الطبيعي في الحالة هذه أن يهبط ميزان الذائقة الجمالية إلي مستوي التداول العادي. لا خلخلة ولا مفاجآت ولا اشراق مضي ولا وعد بغد مختلف. ففي عالم، حدوده مغلقة لا يبدو الهواء الفاسد مضرا. لقد تواطأ الفنان والمتلقي العربيان علي استهلاك الجمال، حتي المتاحف صارت تنظر اليه بحذر، بل وبابتذال .2 يوم هبت رياح الحداثة الفنية علي الوطن العربي متاخرة حوالي خمسين سنة جعل الفنان العربي سؤال الهوية الغامض واحدا من اهم شروطها المعلنة، وهنا بالضبط كان مقتل حداثته. فهذا السؤال الذي بدأ مع مختار والشرقاوي وجواد سليم ثقافيا، بل فنيا بحتا، صار لدي أهل السياسة ضالة مقصودة لغايات مريبة، ذلك لأنهم من خلاله نجحوا في الاستيلاء علي الفن من جهة تعرفته الوظيفية، حيث استعملوه تعبويا في صياغة شكل المجتمع المرجو. وإذا ما كان الفنان العربي في خمسينات القرن الماضي قد طرح ذلك السؤال من جهة التباسه وغموضه وتنوع وتعدد قراءاته فانه كان بالنسبة لسياسيي البلاغة اليسارية (قوميين وشيوعيين علي حد سواء) جملة واضحة، تبدا بالتراث لتنتهي بالجماهير، التي هي كناية عن حشود معبأة بأفكار جاهزة. وهكذا وقف سؤال الهوية البريء بين الفنان العربي ومبدأ الحداثة (كونه فعل تحرر). بل أن ذلك السؤال كان سببا رئيسا في نشوء حداثة معوقة، مكبلة، لا تستطيع السير بحرية ولا تنتصب ولا تزهر براحة ودعة ولا تستفهم باسترخاء ونفور ولا تتقدم بثقة ويقين. حداثة مستعبدة من قبل قوي لا ترغب في نشوء مجتمع معرفي حديث. وهي حداثة معنية بسواها. التجارب الفنية التي فلتت من هذه الوصفة الجاهزة (وهي في معظمها من لفتات العقد الستيني المتمرد) انكفأت علي نفسها بعد ذلك، في شعور خائر باليأس. فهي الأخري تعيش مذ زمن ليس بالقصير نوعا من الكسل الابداعي المترف بأدعية الماضي، وهي في معظمها عادت لتستفتي حيرة ذلك السؤال المبهم والهالك بهلاك الفكر اليساري بصيغته العربية، سؤال الهوية القومية أو المحلية.3 إلا فيما ندر يظهر الان اسم عربي في قائمة فناني اليوم العالميين، مثلما هو حال المعمارية زها حديد. أبحث وما من جدوي. دائما هناك أسماء من الهند وكوريا والارجنتين والصين والاكوادور والمكسيك وتايلند وبنغلادش واليابان والبرازيل وبيرو وجزر صغيرة لم أسمع بها من قبل، أسماء لفنانين صاروا جزءا من التحول الذي يشهده مفهوم الجمال في عصرنا، إنهم في الحقيقة يصنعون ذائقة الناس الجمالية ويتحملون مسؤولية الانقلاب الرؤيوي في حياة لم تعش بعد. مبشرون بولادة عصر جديد، هم رواد ايقاعاته الخفية، يأتون من كل مكان لينجزوا جزءا من فعل الازاحة هذا. إلا العرب، فانهم غائبون، بالشكل الذي يجعلنا نشعر كما لو أنهم لا يعيشون علي هذه الارض المشتركة. هل هي مؤامرة؟ نعم هي مؤامرة صنعناها لنكون نحن ضحيتها الوحيدة. لا أحد اقترح علينا المصير الذي انتهينا اليه: كائنات معزولة ومنبوذة ومهمشة ومطرودة من كل نعيم. فنانونا صنعوا بالامس نعيما بالحجم الذي ظنوا أنه يليق بالآمال المتاحة يومها، غير أن مشكلة الفنانين العرب اليوم أنهم صاروا سجناء ذلك الحيز الضيق، بل أن بعضهم صار يختال بابهة الطاووس فيه. في الحقيقة يراهن هؤلاء علي جهل المتلقي العربي بما يجري في العالم، اليوم. وهو رهان فقد الشيء الكثير من رصيده في ظل الانفتاح المعلوماتي الذي تشهده أجزاء من الوطن العربي علي العالم. لقد اتضح أن الكثير من المعجزات الجمالية الصغيرة التي اجترحها الفنان العربي، اما أنها كانت منتحلة أو أنها كانت وليدة خيال استثنائي يقف اليوم حائرا امام تدهور وفقر ادواته المعرفية، في حياة صارت تدور حول نفسها في حركة مضجرة. 4هل نحن اتباعيون بالفطرة؟ سأتخذ من حال الرسم العراقي الان مثالا، كونه واحدا من امراضي الثقافية المزمنة، (وهي علي العموم حال نراها اينما التفتنا في المدن العربية). أنظر اليوم فلا أري نتاجا أصيلا، بمعني المحاولة التي تشير الي الجهد الشخصي وثراء المتابعة. ما أراه في معظمه: عمليات لصق لنتائج جمالية انتهي اليها الفنانان شاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري. ولولا الضعف الرؤيوي والخيالي الذي تفصح عنه غالبية تلك الأعمال، لظن الكثيرون أنها من نتاج الفنانين المذكورين. لقد التقط فنانو اليوم عناصر الصنعة وحدها، ولم يتعمقوا في الأسرار البلاغية. ظل اللغز بعيدا عن متناول أيديهم ولو أنهم اهتدوا اليه لفارقوا التقنية وذهبوا في سلام إلي الحافات، حيث يقيم مغزي الرسم، بصفته فعل حرية. خيانة من هذا النوع جعلت جزءا عظيما من الرسم العراقي الان يقيم بين فضائي الناصري وآل سعيد، الامر الذي أربك تجربتي الرسامين وجعلهما عرضة للتداول السوقي المبتذل، من جهة المنافسة الرخيصة العارضة والمغرضة. صحيح أن الاغواء الجمالي الذي انطوت عليه التجربتان كان أكبر من أي التفاتة عابرة ولكن للأسف كان الخواء وحده هو محصلة الغوايات التي نتجت عن ذلك الاغواء، الذي اتضح أنه كان مجانيا ومخيبا لكل أمل. أشعر الان في خضم هذا العصف من النتاج الفني الذي هو من صنع عدد من الفنانين الكسالي والخائبين بالخوف الحقيقي علي ارث الناصري وآل سعيد الجمالي، بصفته لقية نفيسة لا تقبل الجرح.5المثال السابق يهبنا فكرة مسلحة بالعياء عما انتهينا إليه جماليا (في كل بلد عربي ينطبق هذا المثال بطريقة أو بأخري علي ما يجري هناك): النتاج الفني العربي اليوم هو سجين غرفة معدة سلفا لاستجوابه وهو يري في الذاكرة خير معين في مواجهة نهمه الاستهلاكي. إنه يغرف من بئر حفرها الآخرون ليروي ظمأ جمهور لا يشعر أن النسيان هو نوع من التقوي في مواجهة الحياة. الاتباعية في هذه الحالة لا تسعي الي الصنمية بل الي التفريط المتشفي، فهي فكرة استباحة لصوصية ليس إلا، غير أنها في الوقت نفسه تجسيد لقبر مغلق، صار الفن كله سجينه وضحية عتمته. لا طرق مفتوحة، لا فضاءات شاسعة، لا مغامرات عبثية، لا مجازفات طائشة، لا أكاذيب صغيرة تحترف الحقيقة، لا تيه عنيدا ولا خرائط ببوصلة مكسورة، لا انكار خلاقا ولا اعتراف بالضياع المقبل من جهة مجهولة، مستعينا بالذاكرة ينجز الرسام العربي صوره، وهو في ذلك إنما يشبه الرسام الذي لا يجد موديلا حيا فيستعين بالصور (الفوتو) من أجل رسم نساء عاريات، هن لسن نساءه، بالتأكيد. الفنان العربي لا يعرف (لا يريد أن يعرف) أنه يهدر موهبته ويريق متعته، بل ويبدد خياله في خيانة عصر، يأبي أن يضمه اليه، واحدا من ابنائه المبشرين بالجمال. يغيب الفن التشكيلي العربي طوعا عن المحافل الدولية بسبب جهل صناعه بالتحولات التي شهدها مفهوم الجمال في العالم.ہ شاعر وناقد من العراقي يقيم في السويد0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية