في واحد من المشاهد الأخيرة لفيلم «إن شئت كما في السماء» لإيليا سليمان. يركض رجال الشرطة، متعثرين ببعضهم متهالكين متكالبين، خلف ملاك بجناحين أبيضين، شبه عارية (الملاك هنا مؤنث) إلا من علم فلسطين ملوّناً على صدرها.
تركض فالتةً منهم في حدائق نيويورك. يهرولون لتغطية الصدر لعريه في مكان عام، هذا على المستوى الأول، الاجتماعي والظاهري. على المستوى الثاني، الأبعد، السياسي والضمني، يلحقونها لتغطية علم فلسطين الملوّن على صدر ملاك هي، الملاك، النقيض، في كل ترميزاتها، للشرطة، بوصفها الجهاز الضارب لقمع الدولة. هم بذلك يلاحقونها لتغطية عريهم هم.
هذا كله سيكون أكثر كشفاً في السنة الأخيرة، حين صارت ملاحقة الشرطة لحاملي العلم الفلسطيني ممارسةً منهجية ويومية في عموم أوروبا وأمريكا. العَلم الفلسطيني الممنوع أصلاً في ألمانيا مثلاً، في مكان عام كأنه عري، عري الشرطة والسلطة ومنظومة الأخلاق السياسية (البورجوازية اليمينية، وأحياناً الفاشية) الغربية، البشع، تجاه عدالة القضية الفلسطينية، العَلم الممنوع أصلاً صار أكثر حظراً، منذ أكتوبر/تشرين الأول الفائت، صار، بذلك، أكثر تعريةً لكذب الغرب وفسقه في كل ما يتعلّق بالعدالة لدى غيرهم.
في الولايات المتحدة كما في ألمانيا وفرنسا، الدول الكبرى الأكثر قمعاً للعلم الفلسطيني، ولأي ترميز آخر لفلسطين كالكوفية، فيها صارت الملاحقات المازجة بين الكوميديا في المشهد الموصوف أعلاه، والتراجيديا كما في مشاهد لا تُحصى مرّت على شبكات التواصل، مظهرةً قمعاً استثنائياً لشرطة هذه الدول الثلاث، تجاه حاملي أي ترميز دال على الحق الفلسطيني، صارت الملاحقات متطرّفةً في عنفها، فتحوّل العلَم، لسوء حظه، إلى بطيخة، بوصف الفاكهة بألوانها الأربعة دالاً مستجداً على العلم، الذي لوحق لإنزاله كما لوحقت الملاك لتغطيتها. فاستعان بغير العلم بعضٌ من أهل القضية وأصدقائها بدل إعادة رفعه، أو المراوغة لإعادة رفعه. غيّروه هو للمراوغة.
المشهد السريالي الهزلي لرجال شرطة يلاحقون امرأة ملاكاً بجناحين أبيضين، تختفي متى التقطوها ملقين غطاءً عليها لستر العورة/العلم، تختفي كأنها لم تكن، صار المشهد دموياً في ألمانيا، مثلاً وأوّلاً، بعنفٍ جسدي ضحاياه أولاً نساء متضامنات، وصاحبات للقضية، لم يكنّ بخفّة الملاك وسرعتها وقدرتها على التلاشي من تحت الغطاء. حملن العلم أو ألوانه في رمز بطيخة، أو كوفية. الألوان صارت دلالات، تخطّت، بذلك، الشكل وكذلك السياقَ التاريخي للشيء، المعنى والاستعمالَ الثقافيّين للشيء. الألوان المجرَّدة، لطبيعتها، أينما حلّت، صارت دالاً على كفاح الفلسطينيين، غير مضطر، الدالّ، لاستعادة أشكال وأشياء، مكتفياً بألوان دون شكلها، بها مبعثرة، لتتخطى الألوانُ المجرَّدة الشكلَ المرسوم للعلم، فيتغيّر الشكل بمرونة ليكون بطيخة بدل راية، ليتلاشى العلم، كأنه هارب من الشرطة، متحولاً إلى بطيخة.
يختفي المعنى ويبقى اللون المجرّد، سينسى لاحقاً العالمُ الرمز ويلتهي بالتهام الفاكهة. في حالة مماثلة، وأقل تراجيدية بكل الأحوال، كانت بيتزا مارغريتا رمزاً للعلم الإيطالي.
تكثر الملائكة الواقعيّة في فيديوهات لا تتوقف، من مدن أوروبية بالدرجة الأولى، نساء أنزلن البطيخة ورفعن العلم، فللأولى موسمها وتاريخ لفسادها، وللثاني تاريخيّته ودوامه، لتكون ألوان العلم الصحيحة حيث هي أصلاً، على قماش وموزّع بترتيب لا تخطئه العين، ثلاثة خطوط أعلاها الأسود وأدناها الأخضر يتوسطهما الأبيض، منطلقة، ثلاثتها، من مثلث أحمر. وإن رفعه أحدهم سهواً هنا أو هناك، مقلوباً، يبقى، السهو، أكثر دلالة وإخلاصاً من الشكل الغريب عن الهوية الفلسطينية ورموزها، البطيخة، وألوان العلم المتخربطة فيها، تماماً كالبيتزا التي تخبّصت فيها الموتزاريلا والريحان بصلصة الطماطم في صندوق الديليفيري.
بهذه التنحية للعَلم، وبهذا العبث بألوانه، وبهذا الانبهار بالشكل الجديد، الأيقوني، التجاري، «الكول» والفارغ من معناه، البورجوازي المنفصل تماماً عن الكفاح الشعبي للفلسطينيين، صارت البطيخة رمزاً ما بعد حداثي للقضية الفلسطينية، رمزاً تفكيكياً لمعاني القضية ومسطّحاً لصورها الدّالة.
في كل الأحوال، ليس البطيخ، بوصفه رمزاً، وبالاً على الفعل التضامني مع الفلسطينيين، لكنه كذلك على الفعل الكفاحي للفلسطينيين. فليحضر إذن البطيخ في المناسبات الثقافية والفنية وغيرها، لسبب بسيط هو سلاسة الصورة واستساغتها في سياقات لا يكون فيها العلمُ المرفرف، أفضلَ إشارة وإحالة إلى قضية عادلة. وقد يكون البطيخ في مكانه متى أوصل الرسالة من دون أن يجد قامُعه مبرراً سياسياً لتغطيته، فيصعب تخيّل شرطي أوروبي يزيل صورة لبطيخة، فلا دلالة سياسية لها، تطغى على دلالتها الحَرفية، اليوم. هي بطيخة يمكن إزالة الترميز الفلسطيني لها بسهولة لصقه عليها، كالعلامة التجارية، هي لذلك رمز ما بعد حداثي، هلامي، سيزول، أو لا بد أن تزول موضتُه و»تريندُه»، يوماً ما. لكن دلالة للعلم الحَرفية هي السياسية، هي الكفاح التاريخي لهذا الشعب. وحين يترك فلسطينيون وفلسطينيات العلمَ جانباً ليرفعوا البطيخة، يكون هنا البطّيخ مرّاً.
نعرف أن البطيخة «كول»، هي فاكهة أولاً، وصيفيّة منعشة ثانياً، وهي من الفواكه القليلة التي يمكن أن تلقى إجماعاً نسبياً في لذّتها، مع أجبان كالعكّاوي والفيتّا، وهي، بحلولها محل العلم، تصبح صورة وقصة مسلّية لا تقل إنعاشاً عن مذاقها. يرفعها الناس باسمين في وسط الإبادة. كأنّها، البطيخة، نكتة. وهذا مفهوم، في كل الأحوال، لدى متضامنين، مشاهير خصيصاً، حذرين من المعنى السياسي ومانحين لفعلهم معنى إنسانياً وأخلاقياً يسمح لهم بإظهار الفعل.
لكن البطيخة ليست رمزاً سياسياً، وتحديداً لما هو شديد الثقل في معناه كقضية الفلسطينيين، ومعياراً تاريخياً وقارّاتيّاً للحق والعدالة وكذلك الكفاح والمقاومة. هنا، وبذلك، يعبّر أصحاب القضية عن أنفسهم. فلا أحد يتضامن مع نفسه أو شعبه، ومثير للهزل ذلك الفلسطيني الذي يستعير أساليب التضامن وأشكالها مع شعبه، من الأوروبيين.
في المشهد من الفيلم أعلاه، اتّخذ الجسدُ صورةَ العَلم، لم يُرفَعه فلُوّن على الجسد. هربت الملاك وحلّقت بخفيةٍ كأنها علم يرفرف وإن لم يشاهَد، بقي علماً وبقي مرفرفاً. أما استبداله سريعاً برمز «ترينديّ»، ومن فلسطينيين قد يتساءل أحدنا كم مرّة رفعوا ورفعن العلمَ فيها قبل البطيخة، فهذا حالٌ حرجٌ لرمزيات فلسطين وألوانها. كأن يكتفي أحدهم يوماً بقميص فريق نادي يوفنتوس الإيطالي، بدل الكوفيةَ البيضاء والسوداء، لتماثل الألوان، وإن اختلف الشكل والمضمون. لكن، متى اكترث المسحورون بما بعد الحداثة، من دون وعي لها، بالمضمون؟ أو بعلاقة الشكل بالمضمون؟
كاتب فلسطيني سوري