عندما تفقد الأسطورة ندرتها

حجم الخط
1

كثيراً ما كنت أفكر في فكرة حرق الذات كشرارة لما يسمى بالربيع العربي.. محمد بوعزيزي تحديداً، ثم مقلدوه المتعددون خاصة في مصر، كان السؤال الأساسي لماذا النار وليس القفز من سطح بناية أو إطلاق النار على الرأس مثلاً، هناك العديد من الطرق ليقتل بها المرء نفسه، لكن الموت حرقاً أشد وطأة، إنه عقاب للآخر.
موت يأخذ وقتاً كافياً من دون رتابة، مغرقاً في الألم، في الصيغة الأكثر حضوراً للجحيم، إنه يقدم تناقضاً غريباً عبر استثمار الموروث الديني الذي يعتبر النار أشد وسيلة للعقاب (عقاب الخصم في هذه الحالة) مع التضاد مع الدين الذي يمنع الانتحار، إنه موت يسلب الآخرين فرصة ذمه باعتباره فعلاً كافراً، موت يجسد وحشية النظم الديكتاتورية، موت عاطفي إلى حد امتزاج الذات بالعدو، ومعاقبة العدو بالذات المسحوقة أصلاً، بتحميله وزر ألمها ومصيرها، كما أنه يحمل المشاهدين وزر الصمت عن الظلم، وزر عدم التدخل لوقف هذه المأساة، إنها إدانة للجميع وبشكلٍ قصويٍّ، فعل الموت حرقاً قام على الفرادة ولهذا لم يكن لتكراره نفس الوقع، وبالتأكيد لم يكن الأول من نوعه فقد أُغْرقت أوروبا (ألمانيا) بشباب أكراد يحرقون أنفسهم احتجاجاً على اعتقال عبدالله أوجلان، لكن الفعل وقتها كان في ساحةٍ بعيدة عن الحدث، ولهذا جاء درامياً يستجدي التعاطف، ولم يأت إدانةً أو صفعةً للأجهزة القمعية، تجريداً لها من قدرتها على القتل، إنها حرب خاسرة مع ميت لن يزداد موتاً مهما عذبوه، ومن اللافت حرق امرأة إسبانية نفسها منذ فترة عندما حاولت الشرطة إخراجها من منزلها حين عجزت عن سداد الرهن، هنا الفعل جاء احتجاجاً في أرضه، مما فرض على الحكومة تقديم تنازل لجميع العاجزين عن سداد ديونهم، بعدم إخراجهم من بيوتهم لمدة عامين.
اكتمال أسطورة الحرق يحتاج لنهاية تراجيدية، لموت المحترق رغم أن بقاءه على قيد الحياة أصعب ويحمل معاناة أكبر لكنها طويلة الأمد والأهم أنها رتيبة.
أعود لفكرة الحرق وأفكر ماذا كان سيحدث لو قتل البوعزيزي نفسه برصاصة، على الأغلب لم نكن لنسمع به أساساً، وستوجد عشرات القصص حول سبب موته أغلبها من نسج النميمة الشعبية، حتى لو أعلن سبب انتحاره، لم يكن ليتحول إلى تلك الشعلة، اللهيب المعدي، الشجاعة المجنونة المرتدة على نفسها، ولسلب نفسه غواية الموت، غواية تحميل الآخرين ذنباً رصاصياً يصهر الرتب العسكرية، لا أعلم بالضبط بم كان يفكر، هل كان يتوقع أي رد فعلٍ جماعي على موته، موتُ خالد سعيد في الاسكندرية أثار الكثير من المظاهرات الواسعة وقتها، مع فارق أنه مات بوحشية على يد رجال الأمن، أي أنه شهيد ـ ضحية، لم يملك الخيار في موته، أما البوعزيزي، فقد ملك الخيار، ومضى نحو النهايات المطلقة وجعل من التناقض حالة غير قابلة للمساومة، هناك غواية مرعبة في موته، وأتساءل ماذا كان سيحصل لو تبدى أن النظام التونسي بقوة النظام السوري؟ لو استمر زين العابدين بن علي بقتل شعبه حد الإفناء؟ ما الذي سيحصل بأسطورة البوعزيزي الجميلة؟ على الأغلب كانت ستُنسى في خضم المذابح كما يحصل لدينا، من كثرة أسماء الشهداء ـ الرموز لم نعد نتذكرهم بدقة، أو نخطئ في أسمائهم، الأسطورة هنا لم تبق أسطورة، فقدت تكثيفها وندرتها التي تجعل منها حدثاً فريداً، لقد تحولت إلى واقعٍ معاشٍ يغمره الألم، الألم نفسه الذي يعمي الحواس ويمنع التفكير، الألم الذي يدفع صاحبه نحو البحث عن طوقٍ للنجاة وليس لأن ينظر إلى قعر المحيط حيث شهداؤنا بعيونهم الباسمة، ألمٌ لا يسمح لنا بتوديع الموتى كما يليق بهم، بأساطيرهم اليتيمة، ونحن نعلم أننا سنحزن على عدم امتلاك الفرصة لتوديعهم أو الاحتفاظ بصورهم، ولكننا لن نندم كثيراً لأننا نعلم أن الأمر بات فوق قدرتنا على التحمل أحياناً، أفكر في البوعزيزي في دمه المحروق على الإسفلت، في السيارات التي تعبر فوق مكان حرقه، في الحياة التي تغرق في التفاصيل المكرورة لأحداثها بعناد صلبٍ، أفكر في حشود الموتى، في أشكال موتهم، في الموت نفسه، بعيداً عما يحمله الأحياء للموت في ما بينهم، في الموت نفسه باعتباره فعل إفناء، باعتباره بتراً، مساحةً شاسعة من الفراغ الأسود، كنت أكتب عن الموت باعتباره حدثاً شعرياً، أسطورياً، حزناً ويأساً، وأملاً ملسوعاً، باعتباره مبتدأ لعالمٍ آخر، كنت أحلم بعالم الموتى، حواراتهم وأشكال التقائهم وتأثيثهم للموت بتفاصيل الحياة نفسها، لكني الآن أفكر فيه باعتباره نهاية وسكونا، الأمر مفزع، بالتأكيد السؤال التقليدي لمثقفي اليسار: ‘هل كانت الثورة في تونس ستأتي بالبوعزيزي أو بدونه لاكتمال عوامل نضجها’ مبررٌ، ولكن هذا لا يلغي موته، أسطورته تتركه في الموت لتمضي مع الأحياء، في شرطٍ ساعد على استمرارها، شرطٍ قاسٍ يضغط باتجاه تحولاتٍ جارفةٍ في المجتمع، شرطٍ أحيا الأسطورة، لكن إلى متى؟

من كتاب سينشر قريباً بعنوان ‘موزاييك الحصار’

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Donanyone:

    على هذه الأرض ما يستحق الحياة وعلى هذه الأرض ما يستحق الموتَ لأجله

إشترك في قائمتنا البريدية