عم حسن الساعاتي : مرثية سينمائية لأحوال الطبقات الشعبية!

حجم الخط
0

عم حسن الساعاتي : مرثية سينمائية لأحوال الطبقات الشعبية!

يقدم صورة عن الاختلال في الأسر المطحونة اجتماعيا عم حسن الساعاتي : مرثية سينمائية لأحوال الطبقات الشعبية!القاهرة ـ القدس العربي ـ من كمال القاضي: في ظل فوضوية سينما الكوميديا وانشغال المنتجين بجمع ما أنفقوه من أموال علي أفلام الهلس انتبهت الأجهزة الثقافية مؤخرا إلي ضرورة تنشيط وترويج السينما الروائية القصيرة فشرعت إدارة السينما بالهيئة العامة لقصور الثقافة في تنظيم أسابيع لهذه النوعية من الأفلام بشتي محافظات الجمهورية، وهي الخطوة الإيجابية والمهمة لإحداث التوازن النسبي بين تيارين سينمائيين أصبحا يتصارعان الآن للوصول للجمهور.. وفي هذا الإطار عرض فيلم عم حس الساعاتي للسيناريست والمخرج مختار حسين وهو رؤية تتلخص وقائعها في 25 دقيقة تدور حول محور وحيد يتعلق بوحدة رجل تخطي السبعين من عمره ويعمل ساعاتيا توقف به الزمن عند نقطة فاصلة اختار فيها الوحدة والانزواء اختيارا جبريا بعدما تزوجت ابنته الوحيدة وتراجعت قدرته علي الكسب من تصليح الساعات، فبات أسيرا داخل اربعة جدران يعيش علي أطلال الذكري يأتنس بأغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب ويقلب في ألبوم الصور القديمة فيستحضر ماضيه البعيد كأنه العزاء الوحيد في الوحشة والاغتراب وضيق ذات اليد.. وفي بداية صباح جديد من صباحات الإسكندرية موطن الرجل العجوز تأتيه رسالة من ابنته المسافرة تعتذر فيها عن إرسال الإعانة الشهرية فيطوي الرسالة ويبحث هو عن وسيلة لتدبير مبلغ يرسله إليها فلم يجد غير برواز أثري قديم ابتاعه بمبلغ زهيد وأرسله في حوالة بريدية كي يعينها مؤقتا في ضائقتها.يركز الفيلم الذي يقوم ببطولته الممثل القدير حسن عبد الحميد علي معاني النبل من قبل الاباء في مواجهة ضمنية مع جحود الأبناء ويطرح عبر سرود من التفاصيل الإنسانية الدقيقة مفهوما عاما لمعني الحياة وقسوتها حين يفقد الإنسان العزوة والأهل والأصدقاء ويصير مجردا من كل مقومات البقاء يلوذ بصمته وصبره ويقضي معظم أوقات يومه بين أحضان وحدته منتظرا المجهول إلي أن تطول المحنة وتفاقم الأزمات ويبدأ مؤشر المقاومة في العد التنازلي كنتيجة طبيعية لتقدم السن، فيصاب الرجل بمرض الزهايمر الذي تعود أسبابه الحقيقية إلي الإحساس العنيف بالاكتئاب، ويمثل المرض في حياة البطل منعطفا جديدا علي المستوي الدرامي، حيث يتصاعد الخط الميلودرامي ليصل إلي ذروته عندنا لمريض غير مسؤول عن تصرفاته فيتحول إلي فريسة في واقع شديد الصلف والقسوة فنجده هائما علي وجهه في شوارع الإسكندرية تائها في خضم الزحام أو نائما علي احد الشواطئ غائم العينين رث الثياب لا يستجيب لأي مؤثر خارجي كأنه يعيش في كوكب آخر.. وينتقل بنا المخرج والسيناريست مختار حسين إلي رد الفعل فنري الابنة حائرة مضطربة عاجزة عن إنقاذ أبيها ولكنها غير مدركة لدورها السلبي الذي كان سببا في وصول الأب المسكين إلي هذه الحالة، وفي محاولة لإبراز مسؤولية الابنة يشير المخرج أيضا إلي شخصية ثانوية تمثلها سيدة اجنبية من بقايا اليونانيين الذين استوطنوا الإسكندرية واستمروا فيها.. تلعب تلك السيدة العجوز دورا إيجابيا موازيا لدور الابنة، حيث تحرص علي متابعة جارها وتطلب نقله إلي البانسيون الذي تملكه لتكون قريبة منه، ويعمد المخرج هنا إلي تحييد عاملي الجنسية والدين ليؤكد أن رداء الإنسانية أوسع من التصنيفات العرقية، إذ يتم توحد المشاعر بين القلوب دون تأشيرات دخول او خروج من وإلي القلب، فربما يكون المريض أحوج أحيانا إلي جاره من أخيه أو ابنه وبرغم فوارق درجات القرابة وصلات الدم إلا أن جينات الوراثة يمكن أن تتعطل فيما تنشط أواصر المحبة بين الأصدقاء والمحيطين فيصبحون أقرب إلي صاحب الحاجة من هؤلاء الأبناء أو الأشقاء الجاحدين. ولا تعد هذه الفرضية السينمائية قاعدة يمكن القياس عليها ولكنها تظل استثناء يقوم مقام القاعدة إذ ما حدث اختلال في الموازين النفسية والاجتماعية المتصلة بالعلاقات الأسرية.يحتشد فيلم عم حسن الساعاتي بكل المؤثرات لتبقي الحالة موجعة فنلاحظ استخدام صوت أمواج البحر بتقلباته في ساعات الصباح الباكر كأنه يفض معني مكملا لمأساة الرجل حيث تصطدم الأمواج بالصخور فتحدث صدي يتشابه في دلالته مع اصطدام البشر بالواقع والعجز عن المقاومة، حيث تكرار التصادم بين الصخر والأمواج يعادل ثبات الحال وعدم القدرة علي التصدي للكوارث والظروف، طالما أن التكافؤ منعدم بين الفعل ورد الفعل، كما يستخدم المخرج مختار حسين أيضا الموسيقي والإضاءة كعنصرين أساسيين في إعطاء الميلودراما بعدا شموليا لإشعار المتلقي بأن المجتمع كله يمر بمثل هذه العزلة ويعاني من مرض الشيخوخة والزهايمر وهو ما تم التنويه عنه بالفعل في المشاهد التي توقف فيها مؤشر الراديو عند أحداث ضرب العراق ليبث لنا أنباء الخيبة والعار. من ناحية أخري نري أن لجوء المخرج إلي الإضاءة الكابية في تجسيد الوحدة داخل الشقة الضيقة التي يقطنها البطل كان موفقا إلي حد كبير في تصوير حالة الضنك المفروضة عليه بفعل الفقر والمرض والحاجة الشديدة إلي الدعم المادي والمعنوي.. وتقترب هذه الآفاق السينمائية السوداوية أو الإنسانية القاسية من ثقافة اجتماعية يعيشها مختار حسين في واقعه البيئي، فهو ينتمي إلي حي القلعة ذي الطبيعة الشعبية وقد تلامست مشاعره مع ظروف الطبقات المعدمة وتكونت لديه تراكمات حياتية وإنسانية تماثلت تفاصيلها مع قصة عم حسن الساعاتي الذي يشابه في ملامحه وملابسات حياته فئات النماذج ممن أصابتهم سهام القسوة وعصفت بهم رياح الاغتراب الوحشي داخل وطنهم الذي أعلن عصيانه عليهم ولفظهم دون غيرهم كي يحيوا حياتهم التعيسة ويكابدون أشواق وأشواك المرارة واللوعة كأسري يتوقون إلي تنسم عبير الحرية وينشدون استقرارا مجازيا ولو من قبيل الوهم! فيلم عم حسن الساعاتي مرثية شعرية تتناثر حروفها علي جدار القلب وتخطو بأقدام دامية علي شريط السينما لتتجلي المفارقة بين ما يقدم من كوميديا ومساخر ويحصد ملايين الجنيهات تحت مظلة الدعاية الكاذبة وبين ما تعانيه ألوان أخري لسينما مختلفة تقنع فقط بشرف المشاركة في المهرجانات وشهادات التقدير.2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية