علي سبيل الشماتة في ديفيد إيرفينج!
عزت القمحاويعلي سبيل الشماتة في ديفيد إيرفينج!ليس بإمكان الكثيرين تفادي التفكير في مغزي توقيت الحكم علي المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينج بالسجن ثلاث سنوات في النمسا بتهمة التشكيك في المحرقة النازية؛ فالحكم يأتي في وقت يتصاعد فيه إحساس المسلمين بالإهانة من جراء الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها الجريدة الدانماركية يولاندس بوستين، بكل تعرجات هذه الدراما القبيحة.وقد حمل الحكم الكثيرين إلي فكرة المعايير المزدوجة التي تحكم تصرفات الغرب تجاه المسلمين واليهود. ويتضاعف الإحساس بانتفاء العدالة عندما ننظر إلي الفرق الشاسع بين الحالتين، فالإهانة التي وجهتها الصحيفة الدانماركية تمس عقيدة المسلمين، أي المطلقات اللاتاريخية، بينما صدر حكم السجن بحق المؤرخ البريطاني لمناقشته واقعة تاريخية من المفترض أن يجري عليها ما يجري علي كل حوادث التاريخ من إمكانية المراجعة وإعادة النظر كلما ظهرت وثيقة جدية جديدة أو شهادة لأحد الأحياء يمكن أن تفيد، ولكن اليهود نجحوا في تحويل ما هو تاريخي ودنيوي إلي مقدس لايمكن المساس به.وربما كانت العلاقة بين الحكم علي المؤرخ البريطاني وبين تسريب الدفعة الثانية من صور التعذيب في سجن ابو غريب العراقي أوثق، فكلاهما يتعلق بنظرة الغرب إلي نوعين من البشر، وليس إلي نوعين من الأديان.وقد نجح اليهود في فرض ادعائهم بالتميز (عرقاً وديناً) علي العالم لإقناعه بضرورة أن يكون هناك وطن خاص لليهود، لا يتعدي الدين فيه كونه ذريعة لتحقيق الهدف السياسي. ولذلك فإن عشرات المفكرين الغربيين تمكنوا من الكتابة في أصل العقيدة اليهودية، وردوا الكثير من أحكامها ومن قصصها إلي أصول سابقة في حضارات المنطقة، وتساءل كثيرون عن مغزي وجود نص إيروتيكي خالص مثل (نشيد الإنشاد) الذي يكاد يكون منقولاً حرفياً عن أشعار الحب الفرعونية. ولم نسمع عن مطاردة لمفكر بسبب هذه الآراء التي تمس صلب العقيدة اليهودية، التي لم تكن سوي وسيلة لفرض القداسة علي حياة اليهودي المعاصر ووقائع تاريخه وتحويل هذه الوقائع إلي محرم أوروبي لا يمكن المساس به.تذكرنا محاكمة إيرفينج بمحاكمات مماثلة أشهرها محاكمة روجيه جارودي في فرنسا عام 1998 م بسبب آرائه في كتاب (الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية) حيث ناقش فيه قضية حرق 6 ملايين يهودي في أفران هتلر متسائلا: كيف يحدث حرق 6 ملايين يهودي وعدد اليهود في أوربا كلها لم يكن يتجاوز انذاك 3.5 مليون يهودي؟ وقد انتهت محاكمة جارودي بالحكم عليه بالسجن لمدة 9 شهور مع ايقاف التنفيذ وغرامة مالية 100 فرنك فرنسي. ولم تكن آراء المحرقة سوي كعب أخيل التي تم اصطياد جارودي منها؛ بينما كان الثأر مع اليهود يمتد إلي عام 1982 عندما استأجر صفحة كاملة من جريدة اللوموند ندد فيها بالغزو الإسرائيلي لبيروت. واليوم، يتم الحكم علي إيرفينج بالسجن ثلاث سنوات بسبب رأي مماثل في أعداد المحرقة مضي عليه سبعة عشر عاماً، دون أن تفلح محاولات استعطاف القاضي، وإعلانه التوبة وحسب قوله (فإن المرء يتعلم الكثير في هذه المدة) ولعل أهم ما تعلمه إيرفينج هو عدم الاقتراب من هذه المنطقة الحرام مجدداً.المشكلة أن خبرات إيرفينج الذي سيستأنف الحكم قد لا تنفعه، ومن المؤكد أنها لن تصلح لغيره من المؤرخين، الذين ـ لسبب غير معلوم ـ يواصلون الوقوع في هذا المستنقع، غير مأسوف عليهم؛ فإحراق شخص واحد يكفي لإثبات حدوث المحرقة، وهو عمل علي درجة من بشاعة إحراق ثلاثة أو ستة ملايين. ولكن البعض لايريد لهذا الجدل حول عدد ضحايا المحرقة أن ينتهي. وما يفعله هؤلاء المؤرخون لايفيد سوي في تجديد الجرح اليهودي وجعله طازجاً دائماً للتغطية علي جراح شعوب أخري وحرمان البشرية من لحظة تأمل للمحارق التي يقيمها اليهود في فلسطين؛ فالجلادون الجدد بحاجة إلي من يوهم العالم في كل يوم بأنهم لم يغادروا موقع الضحايا. وفي كل يوم تقريباً تأتيهم الهدية علي يد مؤرخ أو كاتب يكون عليهم حمله مخفوراً إلي المحكمة، بعد أن نجحوا في استصدار قوانين في عديد من الدول الأوروبية تجرم التشكيك في أية معلومة تتعلق بالهولوكوست.ولا يمكن أن نفصل صدور هذه القوانين والمسارعة إلي محاكمة المؤرخين بموجبها عن الرغبة الدفينة في استمرار تأنيب ألمانيا التي احتلت جيرانها الأوروبيين وفرضت عليهم الحرب مرتين في ربع قرن، خصوصاً وأن أوروبا تعلم أن النازية لم تكن مغامرة معلقة في الفراغ لديكتاتور تافه قرر غزو إمارة مجاورة؛ بل إن نزعة التفوق عميقة الجذور في الفلسفة الألمانية، وهو ما يستدعي الإيقاظ الدائم للذنب. وقد التقت هذه الرغبة مع مصالح اليهود الذين تمكنوا من إبطال فعالية الوثيقة التاريخية وشهادات الشهود في حدث تاريخي لايزال بعض شهوده أحياء. وقد ارتضوا رقم الملايين الستة لضحاياهم، لم يقولوا إن الرقم حدده الوحي، أو إنه مكتوب في ألواح موسي. يكفي أنه تقديرهم الذي لم تعد مناقشته واردة، وهو الوحيد المعتمد. ولذلك لن يكون التقليل في أرقام ضحايا اليهود وحده المرفوض، وإذا ما حاول المؤرخون ـ من باب الكرم ـ أن يضيفوا من عندهم ستة ملايين أخري ليكون الرقم إثني عشر مليوناً فسوف يحظي هذا الكرم بالرفض المتشدد ذاته. القول نفسه ينسحب علي وسائل التعذيب، فإذا اقترح أحدهم وسيلة أكثر وحشية من أفران الغاز، فلن يقبلها اليهود منه، ذلك أنهم يسعون باختصار إلي إبطال تاريخية الحدث، ليصبح من الحقائق الثابتة التي لا تقبل الشك. وهذا أمر يدعو للعجب والإعجاب في الوقت نفسه، أن تتحول حياة اليهودي إلي مقدس لايمس، فليتنا نقلد أبناء العمومة وكما غضبنا علي الإهانة الموجهة للرسول الكريم، نغضب لإهانة الإنسان المسلم الذي يموت في محارق الاحتلال المقيم في فلسطين والعراق، ومحارق الفساد في الأوطان المحتلة عن بعد.0