على هامش تفجيرات بوسطن.. حين يصبح الإرهاب في حجم القوّة التي خلقته

حجم الخط
0

لا تعدنا بدايات القرن الواحد والعشرين بعالم أفضل وبإنسانية أرقى، ذلك أنّ الجنون، غدا المحرّك الأساسي لعالم دائم القفز إلى بداية جديدة، قبل وبعد، كأنّ شيئا لم يكن قبل – أحداث مانهاتن- وكأنّ ما بعدها فاتحة على الجحيم.
كلمة السرّ الوحيدة التي تتداولها صناعة التّاريخ الآن هي: الإرهاب والحرب على الإرهاب.
ولكن..
الكل يعرف الإرهاب، ولا أحد يريد أن يعرّفه. فما هو إرهاب هنا يسمّى دفاعا عن الحرية هناك.. ولا يبدو أنّ الانتقائية هي التي تشوّش المفهوم بقدر ما يبدو أنّ الأقوياء هم سادة المفاهيم القادرون على تقسيم العالم إلى حارتين: حارة البربرية، وحارة الحضارة.
من ليس معنا فهو مع الإرهاب ‘مما يعني الانحياز الكامل للتعريف الأمريكي للإرهاب، ويعني كذلك تأييد الحرب الأمريكية الشاملة على ما تحدّده من أهداف معلنة وغير معلنة، الآن وغدا، من دون أن يعرف أحد ما هي تخومها.
والسؤال:
هل نقنع أنفسنا والحال هذه بعقم البحث عن الإناء الذهبي المتمثّل في صياغة تعريف مناسب للإرهاب؟ وهل يمكن القول في غياب هذا التعريف الأساسي ما إذا كانت الظاهرة التي نطلق عليها اسم الإرهاب تشكّل أي تهديد، وما إذا كانت ظاهرة ذات طبيعة مختلفة عن سابقاتها، وما إذا كانت أية نظرية عن الإرهاب ممكنة في الأساس؟
إنّ مثل هذه الأسئلة ليست مجرّد لعب على الكلام، أو التعبير عن راهن كوني تراجيدي بكلام بارع، فالأحداث تؤكّد يوما بعد يوم أنّ الإنسانية قد ولجت مرحلة تاريخية موسومة بالذعر، ومحكومة بالخوف والعنف وأيديولوجيا القوّة والسديم، حيث يظلّ الضعفاء خلف شعاع الشمس محرومين تبعا لأكثر من قرار دولي، من العدالة والديمقراطية وحقوق المواطنة والسيادة، وحيث يظلّ كذلك الفلسطينيون’قابعين في إحدى زوايا التاريخ ينظرون بعين’الرضا’ إلى وجودهم البيولوجي البائس، بما يؤمّن استمرار الاحتلال الإسرائيلي ويدعم أسس الصهيونية ويزيدها امتدادا سرطانيا كثيفا في الجسد العربي’.
وإذن؟
لقد انخرطنا جميعا إذا، في حرب كونية غير معلنة قد يخرج منها الواحد منّا يحمل تشوهاتها المستديمة، إلا أنّها ليست الحرب الثالثة، بل الرابعة والوحيدة العالمية حقا، فالأولى أنهت الهيمنة الأوروبية والحقبة الاستعمارية، والثانية أنهت النازية، أما الثالثة التي لم تقع، فكانت الحرب الباردة الردعية وأطاحت بالمعسكر الإشتراكي، بعد أن أصابت الشيوعية في مقتل.
ومن حرب إلى أخرى، هرولنا بخطى حثيثة نحو نظام كوني واحد، واليوم فإنّ العالم، الذي صيغ وفق المقاس الأمريكي، يواجه قوى تناحرية مبثوثة في قلب الكون وفي كل اضطراباته الفعلية. حرب كحرب سورية حيث تثور كل الفرادات تماما كما تفعل الأجسام المضادة، ونزاع لا يسبر غوره، إلى درجة تحتّم على المرء أن يحفظ بين وقت وآخر إنتاجات استعراضية من نوع ما وقع في كابول أو ما شهدته بغداد.. لكنّ الحرب الكونية الرابعة تقع في مكان آخر، إنّها تلك التي تسكن كل نظام كوني، وكل اخضاع مهيمن: إذا هيمنت قوّة متغطرسة على العالم، فإنّ الإرهاب سوف يقاتل ضدّها، ذلك أنّ العالم ذاته هو الذي يقاوم الإخضاع. هكذا أصبحت عولمة الخوف نبوءة ذاتية التحقّق، ومجلس الأمن الدولي، على نحو آلي تماما تبنّى ‘الشيك على بياض’ الذي منحه الكونغرس للبيت الأبيض من أجل ‘تخليص العالم من الشرّ’، تاركا طيّاري القاذفات الأمريكية، وهم يلقون على خرائب كابول القنابل العنقودية ويمطرون سماء بغداد بالصواريخ الحارقة، الأمر الذي جعل من الترهيب القوت المفضّل للإمبراطورية التي لا يُلوى لها ذراع.
ذلك يجري على الرغم من أنّ هذه القوّة المتغطرسة، بوسيلة جبروتها الذي لا يُحتمل، هي التي استولدت بالتالي هذه المخيّلة الإرهابية التي تسكننا جميعا من دون وعي منّا.
ماذا يعني هذا؟
هذا يعني ألا مناص للترهيب من أن يستولد الترهيب، والحكمة المتعبة تذكّر أبدا بأنّ من يزرع سوف يحصد، إلا أنّ هذا الرعب الغريزي الذي يشعر به كل آدمي لمرأى أعداد كبيرة من النّاس الأبرياء – هنا وهناك – ينبغي ألا يجعلنا ننسى الدّور الذي لعبته في الأحداث المؤلمة سياسة الولايات المتحدة وسياسات حليفاتها في مجموعة – السبع الكبار G7-ناهيك من أنّ وسائل الإعلام لم تبذل الجهد ذاته ولا التغطية التي تليق بحجم المآسي، حين غطّت الضحايا العراقيين الأبرياء، أو قصف حلف الناتو لليوغوسلاف، أو ذبح الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، بأوامر من – سيئ الذكر- شارون وما يتعرّضون له اليوم أيضا من مذابح يومية على يد – قتلة تل أبيب- أو أسرى الحرب المصريين الذين أُعدِموا بالدّم البارد، واللائحة أطول من أن يتسع لها المقام.
والنتيجة:
في احتدام الصّراع بين الخير والشرّ يكون النّاس هم القتلى دائما.. ولا يقتصر الأمر على السخط والمظالم في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، فمنذ انتهاء الحرب الباردة والولايات المتحدة، أسوة – برفيقات دربها الحميمات- وبريطانيا أساسا، تمارس قوّتها وتسيء استخدامها، في حين أنّ الانقسامات على أبناء البشر تتفاقم على نحو غير مسبوق، والترهيب الغربي جزء من التاريخ الراهن للإمبريالية.
طرد سكان جزيرة دييغو غارسيا على يد حكومة ولسون في الستينات لم يحظ بأية تغطية صحافية عمليا، كما أنّ موطنهم غدا اليوم مستودع ذخيرة تقلع منه قاذفات الولايات المتحدة نحو الشرق الأوسط.
وفي فيتنام كان اقتلاع وتعطيل وتسميم أمّة بأسرها قياميا، لكنّه تقزّم في ذاكرتنا بفضل أفلام هوليوود وما يسميه الراحل إدوارد سعيد بحقّ ‘الإمبريالية الثقافية’، وفي سياق ‘عملية العنقاء’ في فيتنام، رتّبت المخابرات المركزية مقتل قرابة خمسين ألف شخص، وقد كانت تلك العملية هي النموذج الذي سينقَل إلى تشيلي ويبلغ أوجه مع اغتيال الزعيم المنتخَب ديمقراطيا سلفادور أليندي، ثم سحق نيكاراغوا بعد عشر سنوات. كل هذا كان خارج القانون واللائحة أطول من أن يتسع لها المقال.
هل بقي لديَّ ما أضيف..؟
قد لا أضيف جديدا إذا قلت إنّ من نطاق العنف يُخلق العنف والاضطراب أيضا:
الألم.. والخوف.. والتعصّب.. والكراهية والجنون. كما أنّ الإرهاب لا وطن له فهو مثل- الفيروس- ينتشر في كل مكان. وإذ ينغمس كونيا فإنّه مثل أيّ نظام هيمنة، جاهز لكي يولد هنا وهناك، وينأى في ذات الآن عن أيّ تعريف، ويصبح بالتالي في مواجهة القوّة المتغطرسة. وهنا أضيف: إنّ الكراهية المضاعفة لواشنطن سوف تستولد آلاف المرشحين الجدد الجاهزين للثأر من الأهداف الأمريكية، ولكن حين تسند إلى ما تملك من قوّة عسكرية إرهابية كل هذا الدور الحاسم والفاصل في تنفيذ أغراض هيمنتها، ألا تبدو المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة وكأنّها استقرّت على خيار انّها، وبمعزل عن الرعب والقتل الذي ينطوي عليه هذا الخيار، محكومة بالفشل الختامي لأنّها تغذّي بذور كره الولايات المتحدة على امتداد العالم بأسره.
وهنا أختم، قد يكـــــون من العســــير على الولايات المتـحــــدة تشكيل جبهة موحّدة ضد الإرهاب، ذلك أنّ توحيد جــــبهة ضد الظلم الاجتماعي العالمي هي وحدها التي يمكن أن تفيد، لا سيّما أنّ النّاس ليسوا من حجر، ولا هم أغبياء.. إنّهم يرون استقلالهم مصادرا، وثرواتهم وأرضهم وحياة أبنائهم مستلبة، وأصابع الاتهام التي يرفعونها تتوجّه إلى الشمال: إلى المواطن الكبرى للنهب والامتياز، ولا مناص للترهيب من أن يستولد الترهيب.. وقد صدق- أحدهم- حين قال :’إنّ هذا النظام الذي صنع الأبقار المجنونة، يصنع البشر المجانين أيضا، وهؤلاء البشر المجانين، المجانين بفعل الكراهية، يتصرّفون على غرار القوّة التي خلقتهم..

‘ كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية