عبد اللطيف اللعبي متصوفا أنيقا

حجم الخط
0

عبد اللطيف اللعبي متصوفا أنيقا

سعيد السوقايليعبد اللطيف اللعبي متصوفا أنيقاحينما بدأت الشمس تحتضر قرر عبد اللطيف اللعبي أن يصبح متصوفا أنيقا. ان الخوض في مغامرة عبد اللطيف اللعبي الشعرية لهو المغامرة الكبري، اذ يلزمك التسلح بترسانة من المعارف من شتي المشارب، خاصة أن شاعرنا العملاق لا ينطق كلماته من فراغ، بل من محك انساني وسياسي بدءا من تجاربه السابقة، من شطط سدنة وطن أفردوه افراد البعير المعبد، من قمقم السجن الي آفاق المنفي، ولكن الرجل كان سمحا ومتمردا علي كل قائمة، فهو يرنو الي ما يواكب حياة التجدد وتنضية الأسمال عن جسد بات باليا من ترسبات الماضي، السياسية والاجتماعية، بات مقتنعا أن الحداثة هي خير ازميل لتقويم الاعوجاجات والتشوهات دون أي مركب نقص أو أي قلق حاقد، أليس هو القائل: (ليكن قلقا صافيا. ص 83). ان هذا القلق هو قلق وجودي يترفع عن السطحي المبتذل الذي عجز عن المسك بجوهر الحقيقة المطلقة، وقلق اللعبي صوفي أيضا، لكنه بطبيعته المتمردة نجده في ديوانه الشمس تحتضر، يليه احتضان العالم يشن معارضة مشاكسة لتجربة تراثية ربما باتت في نظره لا تتماشي مع روح العصر المادية والمعنوية، انها التجربة الصوفية التي اتخذت من الشعر خاصة ضرورة لتطويع اللغة الشاعرة حتي تغدو التجربة في نظر الناس ابداعا صرفا، واستعارت الجسد كمادة معشوقة لسببين، الأول لتوليف العشق الالهي المجرد بآخر دنيوي يكاد يلمس، والثاني لاستقطاب القراء لما لحب الجسد وأبعاضه وقع في ذائقة القراء المعتادين علي شعر الغزل المألوف: (يعرف المتصوف/ أنه يتكلم عن حب الجسد/ لكن مهارته / هي جعل الآخرين يقولونها نيابة عنه. ص87)، فالمتصوف هنا شاعر بالضرورة، بيد ان الشاعر المتصوف بجوهره، واللعبي يقر بوجود مواجهة قوية بينه كشاعر وبين المتصوف اللاهوتي، فكلاهما يبحث عن الحقيقة المطلقة، يقول: (يدور من حولي / أدور من حوله / ما من مرآة تفصل بيننا. ص 90).ومن المعلوم أن المتصوف يهرب من الواقع ويلجأ الي فضاء الغيبوبة وأسرار النيرفانا وشطح الحلول أو الاتحاد مع الذات الالهية حيث يعطل الحواس بعيدا عن الملموس أو الزمان والمكان: (يقنعني بالجوهر / أقنعه بالمظهر ص 90)، هنا يلتقي الروحي بالجسدي، الدنيوي بالأخروي، هنا تغدو الواقعية الأكثر التصاقا بهموم الانسان اليومية بغية اللعبي من أجل اقتفاء الحقيقة وسط أنقاض هذه الحضارة المادية التي ينعتها بجحيم دنيوي، لكنه مطهر، والتطهر هنا ليس تطهرا روحيا، بل هو نوع من الانغماس في هم الدنيا الكبير، فللشاعر حسابات مادية صرفة لا تصفيها الا نار دنيوية، يعالج الداء بالداء نفسه، حسابات سفلية تلزمها حرب أنفاق: (ياالهي / الق بي في جحيم هذا العالم / لكي أتطهر / من طهري ص 88) أيمكن أن تكون هذه النفحة نفحة احساس بذنب دفين حتي تجعل الشاعر يسخط الي درجة ما علي يقينيته ووثوقيته التي ينعم بها المتصوف أمام الله؟: (اعترافات المتصوف / تقلق الشاعر الدنيوي / يقول في نفسه / من الذي يتكلم هكذا / في داخله / في داخلي؟ ص 89) سؤال حير الشاعر الذي لا يؤمن بتعطيل الحواس حتي يبقي يقظا أمام جلاديه أو بتجربة تقوم في مقام المجرد، فلا مكان ولا زمان في عالم يضج بالمآسي، عالم تلزمه عين مفتوحة علي بؤر الخلل، عالم ربما أنهك طموحات الشاعر الانسان حتي بات يشك في تجلياته وشطحاته الأكثر واقعية: ( أخيرا / لم أدرك / أن جدواي تكمن في لا جدواي / وأنني بحثت عن الخلاص / حيث لا أثر للخلاص. ص 89)، والخلاص أهو خلاص من القلق الوجودي نفسه أم خلاص من الوضع القائم الذي يعاني منه سياسيا واجتماعيا؟ لا يهم فكلاهما يصب في مصب واحد هو الكرامة والحرية الانسانية أولا وبلوغ الحقيقة الكبري دنيوية أو أخروية كانت، فهو يؤمن أن كلا من الشاعر والمتصوف يعيشان تجربة الاضطهاد التي تفضي الي تجربة المنفي، فمنفي الشاعر نوع من السعي لتغيير الجبهة المفتوحة علي الفساد، منفي بمحض ما تبت يداه، منفي اضطراري، هدنة ما، يسعي من خلالها الي لفت الانتباه، ولفت الانتباه هو أكبر زعزعة لصخرة تحجب الحقيقة، في حين أن منفي المتصوف وعد وجزاء من لدن الذات الالهية، منفي اختياري بشكل عمودي نحو الأعالي المقدسة، فهو لا يلجأ الي فرد دنيوي أو دولة مجيرة، ولكن اللعبي لا ينفي وجود قواسم مشتركة بين التجربتين مهما تباينت وجهاتها للبحث عن الحقيقة والذود عنها، بل اضطراريته لا تسمح له بالخضوع لوضع دنيوي متعسف والا أصبح ضربا من الحماقة المتعجرفة أو أن يتسلح بالولاء والعشق حتي يستمد قوة البقاء، وهذا ما يؤاخذه علي المتصوف الدوغمائي الذي لا يقبل النقد الذاتي: (حين يستسلم المتصوف / للنقد الذاتي / أقر / بأن خضوعي كان تعجرفا / وعشقي كان طلبا للقوة. ص87)، فكل شاعر ثوري هدام كبير للمعروف، لأنه خلاق كبير للمجهول، وثورة اللعبي هنا بلغت به أن يطرح سؤالا مزلزلا حول مصداقية اليقين والايمان وزيف الالحاد وزندقته في مشروعية البحث والتقصي عن الحقيقة بين المتصوف ذي النظرة العمودية من الأسفل الي الأعلي، والشاعر ذي السعي الأفقي في مناكب الأرض: (من منا الملحد/ من منا المؤمن؟ ص 90).لذا فالشاعر يعلن عن ابتكار طريقة صوفية جديدة قوامها التصوف الأنيق تماشيا مع روح العصر المزدهرة اجتماعيا، اذ يدعو المتصوف الي أن يكون أكثر حداثة وانفتاحا وتعايشا مع الواقع الجديد وأن ينزل من ديره المتواضع الخشن الي حياة الناس، الرغيدة دون أن يطرأ علي طريقته أي تغيير، ففي نظره أن الصوفي ليس بمرقعته وسجادته ولا بطقوسه وعاداته الرثة بل هو من يمارس طقوسه في صلب الحدث وفي بحبوحة العيش حتي يبقي أكثر تقربا الي الناس منه الي الله، عليه أن يقبض العصا من وسطها والقصيدة التي يعبر فيها عن طريقته المبتدعة هي تتأرجح بين الفكاهة والجدية زعما منه الي اعادة النظر في فلسفة التصوف وجعلها أكثر انفتاحا وقربا من هموم الناس وأوضاعهم، وسأضطر الي ادراجها بحذافيرها فهي شارحة نفسها وهي أكثر جمالا وسلاسة وغرابة وفكاهة: (حين اكتشف المتصوف القماش الانكليزي والكشمير ووشاح الحرير، مزق جلباب الصوف الخشن وقال: سأكون في وضع أفضل اذا اكتسيت بهذا القماش، فهو يمنح سجودي مزيدا من الجلال. سأحلق ذقني وشعر رأسي سأفرك أسناني ثلاث مرات في اليوم، سأطيب جسمي بماء كولونيا من النوع الجيد، سأرمي حصيري البالي وأستبدله بسجادة فاخرة، سأمثل ناصعا ونظيفا أمام الله.صلاتي ستزداد نقاء. لن أعيش بالاحسان بعد اليوم. سأجد لي عملا شريفا ذا دخل محترم. سأختلط بأقراني، أطلع علي همومهم، أتعرف علي تجديفهم، أتلقن حبهم الأرضي، أتذوق خمرهم الدنيوي وشيئا فشيئا أعيدهم الي صراط السر. الحق أن حياتي لن تتبدل الا في الظاهر، لكني أكون هكذا قد ابتدعت طريقة صوفية جديدة، طريقة التصوف الأنيق) ص 149. هل هذه الطريقة الجديدة صدام بين ايديولوجية الشاعر الواقعية وتهويمات المتصوف المجردة. هل هي نوع من البعث الحداثي في احدي أشد الطرق التأملية والفلسفية محافظة وانعزالا عن العالم والناس؟ اذن فهو يخلخل المفاهيم التقليدية ليبعث فيها المنهج الديكارتي حتي تكون وسيلة الادراك الأكبر للحقائق بشكل موضوعي يبدأ من الصفر درجة درجة وبشكل واقعي يقوم علي المنطق بدل الارتجال المسفسط المعتمد علي التجريد: (يشوشني بيقينه / اشوشه بشكي. ص90). فكما لو أن اللعبي هنا بتجربته المشاكســــة يجرنا الي ما يقوله ريتشارد بروتيغـــــان: يا للغرابة! كيف تستمر أشياء الحياة البسيــــطة علي بساطتها، بينما نحن نتعقد أكثر فأكثر . فالوعي الواقعي لدي شاعرنا بالمعطي السياسي الحالي وان تشابه مع نظيره في عصري بني أمية وبني العباس اللذين عرفا أيضا القلاقل الاجتماعية والفتن وموجات الشك والتضارب الفلسفي مما دفع المتصوف الي الهروب من واقع ملموس الي آخر مجرد. كأنما اللعبي يدفع بقوة الي أنه علي الشاعر والانسان عموما أن يتأثر بواقعه ويؤثر فيه بكل ما أوتي من حس موضوعي وواقعي تماشيا مع ما تفرزه الايديولوجيات الجديدة من ميكانيزمات مضادة تؤثر أن تواجه الاشكاليات علي أرض المعركة وجها لوجه بعيدا عن أي هروب تجريدي.شاعر من المغرب0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية