عبد السلام العجيلي: أيقونة الرقة وحارس الفرات

حجم الخط
0

عبد السلام العجيلي: أيقونة الرقة وحارس الفرات

محمد عبيد اللهعبد السلام العجيلي: أيقونة الرقة وحارس الفرات ماذا يفعل هذا البدويّ الحداثي كل هذه السنوات ؟ ولماذا احتمي من عصره المتفجّر ببلدته (الرقة) التي تتوسّد الفرات.. وتتشكل من (رقائق) رمله وطميه ؟ تُري هل جُبِلت روح (العجيلي) من ذلك الرمل، فأخذت أسراره، ولم تبح بها إلا في لحظات الكتابة ومخاضات السؤال ؟ هل استهوته البادية إلي هذا الحدّ فقرر أن يكون الصوت الطالع منها في زمن المدينة والحداثة ؟! كل المبدعين العرب أو معظمهم ممن خرجوا من الهوامش والأرياف، ذهبوا رأسا إلي العواصم، ومن هناك كتبوا (رومانسياتهم) واستذكروا منازلهم الأولي، باستثناء بدوي واحد يدعي عبد السلام العجيلي، والعجيب أنه عرف إغواءات العاصمة في الخمسينات، عرفها وهو في قمة السلطة: وزيرا للخارجية وللثقافة والإعلام، وعرفها قبل ذلك إبّان دراسته للطب في جامعة دمشق، لكنه عاد منها إلي قريته وافتتح (عيادة في الريف) حسب عنوان أحد مؤلفاته، وقد شهدت مرحلة الدراسة انقطاعه المؤقت، وتطوّعه في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، حيث عرف صفد والجليل وتعرف إلي شخصيات من بدو الشمال، وكتب عنها وعن تلك المرحلة كتابات خالدة في قصصه ومذكراته مما يشكّل جزءا من حضور فلسطين الدائم في وعيه ووجدانه وممارسته وإبداعه.عاش حيوات في حياة، في طفولته كانت أسرته ما تزال علي عادات البداوة، في الصيف والشتاء تقطن المدينة ـ القرية، وفي الربيع تغادرها إلي مناطق الكلأ كما يقول محمد جدّوع في كتابه الهام عن (التاريخ والعجيلي). وفي الكتاب نفسه ينقل عن العجيلي قوله لقد عاصرت هذا اللون من الحياة وعشقته في طفولتي وأول صباي فظلت ذكرياته وصوره منقوشة إلي اليوم علي الرغم من زواله .. البادية تحولت إلي ريف مع التوجه إلي الزراعة، والعجيلي عاش النمطين، وعاش نمط المدينة في دمشق، طالبا في كلية الطب، فنائبا في البرلمان فوزيرا في ثلاثة مواقع هامة، ولكنه ينسج من هذه الحيوات والأنماط تكوينا متماسكا متوازنا، ويظل البدوي القديم جوهر شخصيته النبيلة المتواضعة.ألّف في حياته الحافلة خمسة وأربعين كتابا تنتمي لأنواع وأجناس كثيرة، روايات وأدب رحلات وأحاديث ومحاضرات ومذكّرات، وما من قطعة من تلك الكتب إلا وترتبط بوجدانه وحياته، فمنذ أن قابل (نجيب الريّس) في طفولته في مجلس العائلة، وهو يعي أن الكتابة نضال مستميت من أجل الحياة، وأنها دفاع عن وجود الإنسان، وليست لغة مترفة فارغة.. وقد تأكد عنده هذا بالتجربة والمعايشة وهو الذي انخرط في صميم أحداث عصره، واكتوي بناره ولكنه، مثل طائر الفينيق، يتجدد بعد كل احتراق.وما من مثقف عربي عاني ما عاناه العجيلي، فبالرغم من عصاميته وعطائه، مورس ضده كثير من الاضطهاد والنفي، نفي من الحياة السياسية والعامة زمن صعود الخطابات الأيديولوجية والثورية، واتّهم بالإقطاعية والرجعية من الاشتراكيين الجدد، ونفي من الحياة الثقافية التي تتحكم فيها الأيديولوجيا، فاتهمه النقد الإيديولوجي بالتهم الفارغة نفسها.. أما النقد العربي خارج سورية فلم تعجبه طريقة العجيلي المغايرة للكتابة السردية المؤتمة بالشكل المستعار من الغرب، وحار في هذا الكاتب الذي يجدد أشكال الحكاية والأحاديث والعشيّات.. ويكتب علي غير مثال سابق.. كيف يدرس مثل هذا المبدع وكيف يمكن تنميطه وهو الذي يستمد تقنياته وأحوال كتابته من الثقافة العربية ومن التجربة الفريدة التي عاشها.. التجربة التي لا تتشابه مع المألوف من تجارب الكتاب والبشر.ما لهذا الطبيب المتعلم الذي انضم إلي أطباء الأدب مثل: تشيخوف ويوسف إدريس، يكتب كما لو كان لا يؤمن بالعلم، بل يؤمن بالسحر والخرافة ؟ وما لهذا الطبيب يستعير لغة فخمة عالية من الشعر القديم ومن النثر الرفيع، ولا يكتب بالعامية القريبة من الحياة ؟؟ لماذا يعاند عصره وينأي عنه؟؟ولكن العجيلي ينظر بسخرية إلي هذه الأسئلة، ويقول للمنتقدين ليس كمثلي إنسان يؤمن بالعلم، لكنني أعرف أكثر من غيري، أن العلم ليس شيئا محدودا قد بلغنا في العصر حدوده، ولم تبق مجاهيل في العالم حولنا، الواقع أن الإنسان قد قطع شوطا كبيرا في معرفة نفسه ومعرفة سلوكه، لكن ما عرفه لا يزال قليلا جدا، وضئيلا أمام المغيبات عن معرفته .كتب العجيلي تجارب عاشها في الطب والسياسة والحياة، كتب قصص الرحلات والقصص العلمية، وكتب عن البادية، وكتب عن فلسطين من منظور المعايشة والتجربة، وأتيح له حياة متفردة لم يعشها أحد سواه، ومن جماع هذه التجربة التي تداخلت مع ثقافة أدبية عربية وثقافة علمية، كتب مؤلفاته العديدة، وربما لهذا السبب وبالرغم من الإقرار بريادته، ظلت طريقته أسلوبا فرديا فريدا لم يقلّده أحد، ولم يتحوّل إلي مدرسة أو تيار في الكتابة السورية أو العربية.ينتصر العجيلي للروح ضد المادة والجسد، ويقرأ ذلك في وعي الأمة وروحها أنا من أمة آمنت دوما بأن الروح فيها أولي من الجسد، وبأن معاني مجردة مثل الجود والشجاعة أو الذكر الحسن هي أسمي من المال أو طول البقاء أو من الحياة نفسها .بداية الشهر الحالي، انعقد أول تكريم واضح للعجيلي، بتسمية ملتقي باسمه، بمبادرة من بعض أهل بلدته وبالتعاون مع وزارة الثقافة السورية، في الوقت الذي قارب التسعين ولم يعد قادرا علي أن يشهد تكريمه أو ينفعل به.. واكتفي بإرسال خطاب قصير معبّر إلي المحتفين به.. لكن الحاضرين من الأدباء العرب ومن أدباء القطر السوري أقرّوا بموقعه في وجدانهم وبدوره في الثقافة العربية، صلاح فضل عبّر عن الجميع في كلمته وذهب إلي أن العجيلي (جعل من الرقة إحدي عواصم الرواية العربية، وأن إبداعه إبداع إنساني عرف كيف يكسر جدار العزلة أكثر من بعض من يقيمون في العواصم الكبري).وحين زرنا العجيلي، وجدنا منزلا بسيطا لا يفترق كثيرا عن منازل الرقة، الشيخ صاحب العينين الجريئتين ملتفا بعباءته، ما زال يتطلع بهما إلي البعيد البعيد، ربما إلي كل مكان بلغته رحلاته وكتاباته..يدان صغيرتان كيدي طفل، ولكنهما مع خطوط الزمن فيهما، مع عروقهما المستنفرة تشهدان بالطاقة الداخلية التي يخبئها الرجل، تلك الطاقة التي سمحت له أن يعيش كل تلك التجارب ولا يتحول إلي الجنون.شاعر وناقد من الاردن[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية