ضمادة تتلاعب بمفهومي الضحية والجلاد!

حجم الخط
0

ضمادة تتلاعب بمفهومي الضحية والجلاد!

عسل الاسود لدافيد غروسمان: ضمادة تتلاعب بمفهومي الضحية والجلاد!القاهرة ـ القدس العربي ـ من نائل الطوخي: في كتابه الموت كطريق للحياة يكتب الأديب الاسرائيلي الأشهر دافيد غروسمان، بمناسبة زيارة البابا لمشروع الذكري الأبدية لضحايا الهولوكست باسرائيل، عن عمته التي جهدت وهي في اسرائيل لاخفاء ذراعها الموشومة حتي لا تثير ذكري الأرقام الزرقاء التي وشمها النازيون علي ذراع اليهود انزعاج الاسرائيليين. من هذا المشهد الذي يثير عواطف اليهود ممن تشبعوا بقصص الهولوكست، يقفز فورا الي استنتاج: عندئذ أدركت كم أننا جميعا هنا في اسرائيل نسير علي أرض تشابه تلك الضمادة . ليس هذا فقط. يحكي غروسمان أنه لدي استماعه لخطاب علي لسان أم يهودية ألقي في الاحتفال بزيارة البابا أحس فجأة أن الضمادة الرقيقة، التي تفصل بين الـ هنا ، في اسرائيل وبين الـ هناك في الهولوكست قد تمزقت فجأة . أحقا لا يفصل شيء بين الاسرائيليين المحدثين وبين اليهود من ضحايا الهولوكست، هل تمزقت الحدود بينهما وأضحي كل الاسرائيليين أناساً يغطون ألمهم الرهيب القديم بضمادة كتلك؟ وكم يلزم اذن من الوقت لرواح هذا الألم، الذي لم يعانه الا قطاع ضيق من الاسرائيليين دأبت الحكومات المتعاقبة علي استغلال معاناتهم السابقة لتبرير كل شيء؟ كم يلزم من الوقت لأجل الالتفات الي الآلام الآنية لشعب آخر؟ في كتابه الأحدث عسل الأسود يتحدث غروسمان عن قصة شمشون، بطل سفر القضاة الأشهر، وهذا في اطار سلسلة دولية من الكتب بعنوان أساطير يتحدث فيها كل كاتب عن أسطورة محلية في بلده ورؤيته لها. من بين المشاركين في هذه السلسة بجانب غروسمان مارغريت اتوود التي تحكي عن أسطورة بينالوب، امرأة عوليس، وجينيت ونترسون التي تحكي عن أسطورة أطلس وكارين أرمسترونغ عن تاريخ الأساطير. غروسمان كاتب ماهر لا شك، يستطيع ببساطة هدم الحدود تمزيق الضمادات بين الهنا والهناك، لذا تجيء قراءته لشمشون براقة بما يكفي لينعتها البعض بالثورية، غير أنه غالبا ما تتوقف المسألة عند البريق. يقول هو في كتابه الأحدث عسل الأسود : يتم النظر الي شمشون كمخلوق عدواني.. ولكن ان تأملنا العهد القديم فلسوف نري كم انه مثير للاهتمام، غير متوقع، وحيد. شخصية شمشون هي شخصية مختلفة تماما عن نظرة اليهود لأنفسهم، ولكن في قصته هناك الكثير من الأشياء التي تميز وجود الاسرائيليين بين الشعوب. علي سبيل المثال، كم هو اشكالي توجهنا نحو القوة، وكم يصعب علينا أن نشعر أننا منغمسون في الحياة نفسها بدلا من الأسطورة . التوجه نحو القوة هو أساس حواره مع شيري ليف آري في هآرتس ، وهو أساس للعلاقة التي يقيمها بين شمشون وبين اسرائيل والشعب الاسرائيلي، ففي رأيه ان الاسرائيليين قد ورثوا من شمشون شفرات سلوكية وفكرية. أو بتعبيره في حوار هآرتس : يمكننا العثور علي خطوط شمشونية واضحة في الشكل الذي تتعامل به اسرائيل، وكذلك فينا كشعب .وكذلك: (منذ أن امتلكنا القوة أصبحنا، كمجتمع، نختار طريق القوة بشكل مطلق، وفي الغالب القوة المبالغ فيها. هذا كذلك واضح جدا في شمشون، فالقوة الهائلة وفوق البشرية التي به لم تنم داخله بالتدريج وانما كانت شيئا ما تم استزراعه بداخله، ولم يستطع أن يتصرف معه بشكل منطقي، ولأنه يشعر أن هذه القوة لا تخصه هو في الحقيقة، فعندما تحدث فيها أزمة بسيطة، ولنفترض أن ظمآنا هاجمه بجانب صخرة عيطام، ينكسر هو علي الفور ويبدأ في التضرع الي الله. هناك شعور بأن هذه القوة تقف علي هوة هائلة من الضعف. هذا هو التأرجح المهووس بين كوننا البلطجي الأعظم في الحي وبين يا ماما انهم يقتلوننا، الفلسطينيون ذوو العصي والأحجار مثلما حدث في بداية الانتفاضة). تحليل شائق. أليس كذلك؟ لنتذكر فقط أن غروسمان نفسه هو من كان يصيح يا يا ماما، انهم يقتلوننا أثناء الانتفاضة، ولنعد الي كتابه الصادر من عامين الموت كطريقة للحياة ، يقول فيه: (جلبة. انها الكلمة الأولي التي أعيها عندما أفكر في السنوات العشر الأخيرة. كثير جدا من الجلبة، طلقات وصراخ، كلمات مؤججة، نحيب حدادي، انفجارات ومظاهرات. وأكوام من الاكليشيهات والبث المباشرة من موقع العمليات ودعوات للانتقام وخفقان الهليكوبترات بالأعلي وصليل سيارات الاسعاف ورنين التليفون بعد كل عملية).هل حدث في السنوات العشر الأخيرة كل هذا في اسرائيل؟ يبدو غروسمان وكأنه يصف غزة لا تل أبيب. في الحقيقة فان السنوات العشر التي يتحدث عنها غروسمان هي من ارتفع فيها بنسبة مئات في المئة عدد أصحاب السيارات الجيب والفيلات والشاليهات، من الاسرائيليين، وها هو يصرخ: يا ماما، انهم يقومون بعملية . هذا هو الخط المتعرج الذي يسير عليه غروسمان دوما، ما بين استثارة عطف العالم (كتابه، الموت كطريق للحياة، كتب بالانكليزية قبل ترجمته الي العبرية) علي المجتمع الذي يعاني دائما وأبدا من هولوكست يترصده، سواء قام به النازيون أم سلالتهم من الارهابيين ، وبين عرض مشوق لقصة شمشون يمكنه من اظهاره كمعارض صلب للسياسات الاسرائيلية. يبدو أن الأساس في الاثنين لا يبعد عن الصهيونية كثيرا، فمعني أن تقول إن شمشون أورثنا كذا، هو أننا ذات الشعب من ألفي عام، شعب التوراة، أبناء يوشع وشمشون وداود، وأن لا شيء قد صار خلال ألفي عام، سوي بعض الانقطاع البسيط عن أن نكون حاضرين في التاريخ الا بوصفنا ضحايا، وبوصفنا فقط شهادة حية علي عنصرية العالم ومعاداته للسامية، فكلنا موشوم ذراعه، هذا من دون أن يسأل السؤال الأكثر جذرية عن الاستعمار والقوي العظمي. يعظم هو القصة الدينية بذاتها الي حدود هائلة (من دون أن يتساءل عن استخدامها، وانما عن كنه القصة فقط)، وهذا بشكل يبدو علمانيا. تسأله المحاورة عن رؤيته لنهضة الشعب اليهودي باعتبارها معجزة فيقول لها: (حيث أنني لا ادخل الله في قصة نهضة شعب اسرائيل، فلن أسمي هذا معجزة دينية، وانما ثم احساس بأننا شعب قام من رماد ما بعد الهولوكست، وخلال سنوات معدودة أضحت لنا قوة عسكرية هائلة، كأنما بدافع ما نمت عضلات قوية في جسد ضئيل، واهن وضعيف. قوة كتلك تحتاج لمئات السنوات لأجل استيعابها).لا يفهم شيء من هذا، ما الذي جعل العضلات تنمو؟ وما الذي جعل اسرائيل تمتلك قوة عسكرية هائلة خلال سنوات، وما الذي يميز قصته عن قصة المعجزة الشمشونية الدينية التي يتبرأ منها؟ ينتقل غروسمان علي الفور الي القصة نفسها ولا ينطق ولو لمرة واحدة بكلمة الاستعمار. هذا كله يساعد علي نقد سلوك دولة اسرائيل، ولكن ليس الصهيونية، أي ليس تقويض الأساس الذي قامت عليه الدولة، وانما انتقاد سلوك تافه قابل للتغيير بسهولة، هذا ما يدفعه في رد علي سؤال من المحاورة، عن مصير دولة اسرائيل مقارنة بمصير شمشون، أن يكون متفائلا فوق العادة. يقول: (جاءت لحظة أدرك فيها شارون، والذي كان ينظر الي نفسه بالتأكيد كشمشون حديث، بقوته الهائلة وبميله لتخطي الحدود، فجأة، أن ثمة حدودا لقوة اسرائيل ولتوجهها الي القوة. فجأة يتسم سلوكه بالاعتدال. الميل للقوة، التعالي، الاحساس بأننا شعب لوحده يسكن وبين الأغيار لا يحسب حسابه، هو كارثتنا علي مدار السنوات. ثم الآن عدل تاريخي يكمن في أن الرجل الذي تسبب في الضرر هو الذي عليه أن يصلحه). حقا. لقد انصلح كل شيء، ولم يبق لنا الا التمتمة حامدين الله علي العدل التاريخي الذي تحقق وعلي عودة شارون، شمشون المعاصر، الي صوابه، وليذهب الي الجحيم النقاش حول الضفة الغربية والسلاح النووي الاسرائيلي والمستوطنات والمياه والحواجز والأسري الفلسطينيين. وثم تأرجح كهذا بين انتقاد بلطجي الحي وبين تقديم القرابين لأن العدل التاريخي قد تحقق غروسمان منه سابقا. في نيسان (ابريل) 1995 كتب عن أوسلو: (يتعاظم الانطباع بأن السيد رابين ينوي القيام باتفاقيات أمنية موسعة تسيج الفلسطينيين داخل مناطق مستقلة مغلقة، مسورة، وينفصل الواحد منها عن الآخر، بواسطة شبكة متشعبة من الطرق الاسرائيلية والعوائق المستوطنات). هذا انتقاد عظيم لبلطجي الحي، ولكن، يعقبه علي الفور حمد علي عودته الي صوابه، فبعد سبعة أشهر فقط، وفي أعقاب مقتل رابين، وعندما انشغل المجتمع الاسرائيلي كله بتقديس أسطورته العسكرية، أسطورة اسحق رابين، وبسبغ صورة صانع السلام عليه، كتب غروسمان: (كان يمكن للعملية التي قام بها رابين ـ يعني أوسلو ـ أن تضع في مستواها الأكثر جذرية نهاية ليس للعنف بيننا وبين أعدائنا فحسب، وانما لجراحنا كذلك). هذا حدث فجأة، عاد رابين فجأة الي صوابه مثلما يعود اليه شارون الآن، الأول بعد موته وفي اطار تقديسه الجمعي، والثاني قبل فوزه الوشيك والمتكرر في الانتخابات وفي اطار تقديسه الذي لم ينقطع يوما في المجتمع الاسرائيلي، منذ حرب الخامس من حزيران (يونيو) وحتي اليوم. في رد آخر علي المحاورة في هآرتس يقول غروسمان عن حدود دولة اسرائيل: (كون ليس لدينا حدود فهذا أمر مَرَضي استوردناه من المنفي، من لا يملك حدودا يعرض نفسه دوما لخطر مزدوج يهدده، أن يغزو الآخرين أو أن يغزونه هم). ها هو نقد آخر يبدو جذريا. غروسمان المعارض الصلب ينتقد الميل التوسعي لاسرائيل. ولكن هل يتوقف هنا حقا؟ لا، فثم رغبة قوية في ان يمتزج سويا الاعتراف بأنك بلطجي الحي والصراخ يا ماما انهم يقتلوننا . هل يفكر أحد حقا في غزو اسرائيل؟ ومن المرشح لهذا الدور؟ ومن قام بهذا فعلا علي مدار تاريخ اسرائيل القصير، سوي الميل المدعي لدي المجتمع الاسرائيلي لتصوير العلميات الفلسطينية داخل الخط الأخضر علي أنها حرب حقيقية تهدد اسرائيل، ومن ثم تعميق صورة الضحية، ها هنا يخطو غروسمان خطوة أبعد فيتحدث عن الغزو، ويحطم بسهولة وافرة الضمادة الرقيقة التي تفصل بين الـ هنا في اسرائيل والـ هناك في الهولوكست، حيث الاسرائيليون لا يزالون معرضين لهولوكست دائم، يأتي من قبل الفلسطينيين هذه المرة، وهم لا يزالون يخفون ألمهم العظيم بضمادة رقيقة تظهرهم للأعين الشريرة وكأنهم بلطجي الحي، بينما هم الضحايا الأبديون للتاريخ. 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية