صدام حضارات أم ضربة معلّم؟: قضية الرسوم المسيئة والحس الجمعي المدمر
اياس محسن حسنصدام حضارات أم ضربة معلّم؟: قضية الرسوم المسيئة والحس الجمعي المدمر يحكي السوريون نكتة مفادها ان احد الشيوخ كان متوجها ذات صباح من قريته الي قرية اخري لتلبية دعوة احد تلاميذه القدماء الي الغداء، واثناء عبوره بجانب حقل في قرية اهلها من طائفة اخري، شاهد فلاحين يجرون ثورا نفق اثناء الفلاحة. لمح الفلاحون الشيخ وعرفوا اختلاف طائفته من مظهره، فما كان منهم الا ان اسرعوا اليه وربطوه مكان الثور وفلحوا بواسطته الحقل حتي العصر. حين وصل الشيخ مساء الي بيت مضيفه، كان ممزق الثياب، مغبر الوجه، منهك القوي ومسلوخ الظهر، حكي الشيخ ما جري له، فما كان من مضيفه الا ان هب واقفا والغضب يملؤه وصرخ: هاتوا البارودة! سوي ان الشيخ شده من يده قائلا: لا تقلق يا ولدي، الجماعة لم يقللوا من ادبهم. كانوا اذا ارادوني ان اذهب يمينا يقولون: الي اليمين، يا شيخنا، واذا ارادوا ان اذهب الي اليسار يقولون: من فضلك الي اليسار، يا شيخنا، يعني المهم ان الكرامة ظلت محفوظة.نهاية الحكاية ان الرجل جلس الي جانب شيخه مطلقا زفرة ارتياح.لا تزال قضية الكاريكاتيرات التي تتناول النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) تتورم وتأخذ ابعادا لم يكن لأحد ان يتصورها، لاسباب عدة ابسطها ان اغلب الرسوم تبدو، بالفعل، اسخف من ان يعلق عليها، وان مسألة تناول الاسلام بصورة تجرح شعور المسلمين مسألة قديمة وشبه يوميه في الصحف والمجلات والكتب والافلام والدراسات، ومؤخرا في قوانين بعض الدول الاوروبية (الشيء الذي لسنا بصدد التعليق عليه هنا) سوي اننا لم نشاهد، ولا مرة، السفراء العرب يحزمون حقائبهم غاضبين عائدين الي بلادهم، او وزراء الخارجية العرب يتفقون بالاجماع علي خطة دفاعية ، ولم نر مرة اقطاب الافتاء في العالم الاسلامي تجتمع علي مقاطعة دول لم تتوقف عن جرح شعور المسلمين ، بقتلهم ـ مثلا ـ او سلب حرياتهم واذلالهم علي حواجز التفتيش او في السجون، او هدم بيوتهم او حرمان اطفالهم من التعليم والصحة او تجويعهم او تشريدهم.فورة مدهشة للانتقام عام 2006 من رسوم تتناول رجلا اصبح رمزا من قبل ان يرحل عن العالم عام 632، ولم تتمكن اي قوة طوال اكثر من اربعة عشر قرنا علي منع المسلمين من المناداة باسمه علي الملأ في المآذن خمس مرات في اليوم، دون عد الصلوات وعدد مرات ذكره في الكتب وعدد الاشخاص الذين سموا باسمه تباركا طوال هذه القرون. فجأة تحولت هذه الرسوم الهشة بالحاح اعلامي فريد (عربي اولا، وربما كان من المفيد هنا ان يطرح السؤال بجدية عن دور هذا الاعلام) الي قضية العرب والمسلمين الاولي، وتجاوب الشارعان العربي والاسلامي معها بصورة مؤلمة توحي بأن هذين الشارعين مفلسان الي حد لم يبق لديهما ما يدافعان عنه وما يعتزان به سوي هذا الشعور الذي يجرحه الهواء حين يتنفسه صحافي غربي غير معروف خارج مدينته.والجدل حول حرمة المعتقدات وحرية الصحافة وصدام الحضارات (الاسئلة التي حرصت وسائل الاعلام علي حصر السجال ضمنها) يستدعي وقفة ولو قصيرة امام المقولات التي استنهضها عن ازدواجية المعايير في الغرب وكيفية التصدي لها، وعن الانتصارات التي حققتها الهبة الشعبية المباركة وحملة المقاطعة الاقتصادية.الردود العربية علي مقولة حرية الصحافة في الغرب بدت بالمجمل مخزية. والمعادلة الشهيرة التي يلجأ اليها بصورة تلقائية، اجترارية احيانا، الحريصون علي حرمة المعتقد هي التالية: تسمح الدول الغربية لنفسها بانتقاد المسلمين وبالتجريح بهم، وتعامل ردات فعلهم الاحتجاجية كاعتداء علي حرية التعبير، بينما يغرم (وقد يسجن) من يسمح لنفسه بالتشكيك علنا بالمحرقة. واذا كان احد طرفي المعادلة صحيحا تماما (نعني ملاحقة من تساءل عن طبيعة المحرقة وحجمها)، فان الاخذ بمجملها يدعو، حرفيا، الي اليأس من مستقبل العالم.ذلك ان الدفاع اولا عن مبدأ الحرية وثانيا عن التاريخ يفرض علي اي مثقف رفض حالة الحصار الفكري التي تصادر حقوق التأمل والبحث والاستنتاج والشك والخطأ، ايا كان مسوغها وايا كان مصدرها، ولا استشهد الا بموقف نعوم تشومسكي ازاء قضية برونو غولنيش، الاستاذ اليميني المتطرف في جامعة ليون، حين ندد تشومسكي بسلطة قمعية جرت الرجل الي المحكمة لمعاقبته علي افكاره، مصادرة، فيما تصادر من حقوق، حق المثقفين في نقد مقولاته بشكل حر او في دعوته الي مناظرة. ولكن حين يصبح حل المعادلة الوحيد والبديهي للجميع هو التعاطف مع من يسميهم الاعلام بالمسلمين دون ان نعرف عن من يتحدث بالضبط من المسلمين، باعطائهم حقا يمسي في هذا المنطق مشروعا، بممارسة ما تمارسه المؤسسة الصهيونية والليبرالية الجديدة علي العالم من ترهيب وقتل للحريات، محولا النضال لازالة زنزانة فكرية الي قتال لاضافة زنزانة اخري اسوة بالاولي، فذلك هو ما يدعو لليأس ويبشر، في افضل حالاته، بان ما قد يحصل عليه من ينصبون انفسهم للكلام باسم المسلمين، لن يكون ابدا حرية هؤلاء واستقلالهم عن قوي الهيمنة في العالم، بل سيكون ببساطة حصة ذوي الامر من التسلط والترهيب ضمن منظومة الهيمنة القبيحة نفسها.وما يبعث علي الاحباط اكثر من غيره، هو ان الكثير من الجماعات الاسلاموية المنفية في الغرب، والتي تعد مواطنيها ليل نهار بتحقيق الديمقراطية فور عودتها الي الحياة الســـــياسية في بلادها، كانت اول من انضم الي دعوات سن قوانين في اوروبا تعاقب علي الاساءة للاسلام اسوة بتـــــلك التي تعاقب علي الاساءة لليهود ، واعدة ايانا ضمنيا بملاحقة الباحثين في التاريخ العربي والاسلامي وتاريخ الاديان وكلــيات الفلسفة في الجامــــعات الاوروبية تيمنا بالملاحقـــــات التعسفية ضد الباحثين في تاريخ الحرب العالمية الثانية والذين لا يتفـقون مع النسخة الرسمية من هذا التاريخ والنتائج التي افرزتها.اعتقد ان من يدافع عن حق اي باحث او مفكر في قراءة ما يشكك كليا او جزئيا بالتاريخ الرسمي للحرب العالمية الثانية ـ بغض النظر عن خطئه او صوابه ـ وفي اختيار ان يوافق عليه، ان يرفضه ويرد عليه، او ان يقلب الصفحة مبتسما، فالاحري به ان يدافع عن حق القارئ او المفكر ابن الثقافة الاسلامية في ان يقع علي رسم احد مقاتلي طالبان (يزعم صاحبه انه النبي محمد) معصوب العينين مع خنجر علي بابا في يده، وفي ان يقلب الصفحة باحثا عما قد يثير اهتمامه اكثر.واما عن نظرية عدم وجـــود رســــوم كاريكاتيرية ليسوع او لمريــــــم العذراء في اوروبا، فاني ادعو اصحاب هذه المقولة المتســـــرعة للاطـــــلاع، تمثيلا لا حصرا، علي بعض رسوم الفرنسي كلود سير C. Serre او الاسباني فرناندو بويغ ـ روزادو F. Puig – Rosado.السؤال الثاني عن نجاح المقاطعة وجدوي الثورة الشعبية، هو الاعقد، وربما الاخطر. وان قراءة لاحداث موازية لتسلسل تورم ازمة الرسوم المسيئة (كما تحب تسميتها احدي الفضائيات الموكلة حصريا بتصريحات بن لادن الاسعافية للادارة الامريكية) قد تكون ذات جـــدوي فيما يخص مسألة المقاطعة تحديدا.ربما كان من المفيد لمن يتأمل في هذه الأزمة ان يبدأ قراءته ليس من ايلول/سبتمبر 2005، حين ظهرت الرسوم في الصحيفة الدنماركية التي كفل لها السفراء العرب وائمة الجوامع شهرة عالمية لم تكن تحلم بها، من حيث ان هذه الرسوم عند صدورها الاول لم تثر من الضجة، علي الرغم من احتقان العالم الاسلامي، الا شجبا هنا واسفا هناك، قبل ان تتلاشي القضية كما تلاشي غيرها. اعتقد ان من المفيد تذكر ما جري في النرويج، في الاسابيع السابقة للأزمة، وتحديدا في كانون الاول/ديسمبر 2005، حين اعلنت محافظة سور ـ ترونديلاغ النرويجية عن تبني مقاطعة دولة اسرائيل رسميا علي اراضيها.وفي مطلع 2006، اطلقت وزيرة الاقتصاد النرويجية كريستين هالفرشن دعوة لمقاطعة اسرائيل علي مستوي البلاد، واعلنت عن حملة تضامن مع الشعب الفلسطيني كانت مقررة في نهاية كانون الثاني/يناير، ينظمها الحزب الاشتراكي (الذي تنتمي له الوزيرة المعنية والذي يتبني منذ ايار/مايو 2005 سياسة مقاطعة اسرائيل حتي توقف انتهاكاتها لحقوق الانسان)، بالتعاون مع مجموعة من الافراد والمؤسسات الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، تهدف، بحسب تصريحات الوزيرة، الي اظهار اسرائيل علي حقيقتها والتعريف علي مستوي واسع بمعاناة الشعب الفلسطيني في ظل الانتهاكات الاسرائيلية اليومية. ربما كانت هذه المبادرة من اهم المبادرات الحديثة في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، نظرا للطابع الرسمي الذي كانت تتجه نحوه ولطرحها مبدأ ان تتبني الحكومات مهمة اطلاع شعوبها علي الواقع اللاعقلاني الذي يعيشه هذا الشعب.في الايام التالية لدعوة هالفرشن وبعد استجابة واسعة من قبل اطياف اليسار النرويجي كما من المؤسسات المستقلة، اخذ الحدث في الاعلام الغربي صدي واسعا وحصل، علي ما بدا، جدل عنيف وراء الكواليس رافقه، بعد تهديدات امريكية عنيفة اللهجة علي لسان وزيرة الخارجية، اعتذار وزير خارجية النرويج من الحكومة الاسرائيلية بدعوي الحياد ازاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي. ونجحت الحملة الاعلامية علي الوزيرة ومؤيديها، بانتزاع اعتذار تلك الاخيرة عن التصريحات، في 6 كانون الثاني/يناير، مؤكدة انها تقدم اعتذارها كعضو في الحكومة الائتلافية حرصا علي وحدة وتماسك حكومة بلادها التي تعارض المقاطعة، ولا تقدمه باسمها الشخصي ولا باسم حزبها حين اكدت انها، كما الحزب، يواصلان المقاطعة وماضيان في التحضير لحملة التضامن المقررة.اعتذار الوزيرة بعد حملة اعلامية قاسية ضدها وبعد حملة توبيخ دولية لحكومة بلادها، لم توقف حملة المقاطعة خارج الحكومة، كما لم توقف حملة الردود عليها. ولم تكد تمضي اربعة ايام علي استدراك الحكومة لموقفها، حتي ظهرت، من حيث لا يدري احد، صحيفة مغازينت النرويجية المغمورة بالرسوم اياها، مع عبارات هجومية مستفزة تتناول من سمتهم بالمسلمين وموقفهم من الحريات.القبول بالصدفة المحضة التي جمعت هذين الحدثين، نعني تبني مقاطعة اسرائيل وظهور الرسوم في النرويج ومن ثم الحماس منقطع النظير للحكومات العربية لرد الاعتبار ومحاسبة الفاعلين، لا تمنع من متابعة تداعياتهما معا، منذ تلك اللحظة. فما كانت الحكومات العربية والجماهير الغفيرة قد طالبت به، وهو الاعتذار، حصل بالفعل: سارعت حكومة النرويج بالاعتذار محاولة استرداد زمام المبادرة التي فقدتها مرتين: مرة حين حملها انصار حقوق الانسان عبء الترويج لقضية جلبت لها تهديدات الخارجية الامريكية، ومرة حين ورطتها صحيفة تافهة بغضب اكثر من مليار شخص في العالم. الصحيفة الدنماركية، بعد الخسائر المالية الكبيرة لبلادها نتيجة المقاطعة الخليجية لبضائعها، اعتذرت علي لسان رئيس تحريرها وابدت اسفها لنشر اهانة لم تكن مقصودة . ربما كان علي الصـــدفة ان تنتهي هنا.لكن ما جري هو ان الشوب (الشعوب فقط) وجدت (جميعها معا) ان الاعتذار غامض ، واكدت علي ان حقها لن يسترد الا بمعاقبة المسؤولين عن الرسوم وعن نشرها لئلا تتكرر هذه التطاولات، ثم اضافت، بعد ايام، مطالبتها بالقوانين الجزائية سيئة الذكر. التظاهرات ازدادت، وامتدت دعوات مقاطعة الدنمارك والنرويج لتشمل الاتحاد الاوروبي برمته.وبعد اقل من اسبوع من اعتذار الصحيفة الدنماركية، اختفي مصطلح الاعتذار الغامض من جميع وسائل الاعلام العربي، وعادت الي الواجهة عناوين من نوع الدنمارك ترفض الاعتذار و المسلمون يقاطعون النرويج لاساءتها للرسول الكريم ، ناهيك عن الجرد اليومي لاسماء الصحف التي اعادت نشر الرسوم في اوروبا، واما صورة المسلح الفلسطيني، ذي الوجه الملثم امام مقر بعثة الاتحاد الاوروبي في غزة، فظلت، منذ بداية الترويج الاعلامي للازمة، الاثيرة لدي تلفزيونات الارض والفضائيات العربية اولها، دون ان تحتاج لتعليق، ناهيك عن البند اليومي الذي افرد لنشاطات الاحتجاج في قطاع غزة من حرق الاعلام الي الخطف الي دعوات الانتقام والقتل. وانتهي شهر كانون الثاني (يناير) بينما كان الرجل المسلح لا يزال مرابطا علي باب المفوضية الاوروبية، في جميع الصحف والتلفزيونات، يعد ويتوعد.شخصيا، لم اتمكن من العثور علي اي خبر عن حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني والترويج لمقاطعة اسرائيل التي كان من المفترض ان تنطلق في اواخر كانون الثاني، والتي كنت انتظرها. كل ما عثرت عليه بهذا الصدد، هو ان محافظة سور ـ ترونديلاغ تتجه مكرهة تحت الضغط السياسي والقانوني وتراجع الدعم الشعبي الي مراجعة قرارها بمقاطعة اسرائيل، دون ان يكون لهذا الخبر اية اهمية في موازاة اخبار اخري كحرق سفارة الدانمارك في دمشق، مثلا، واقتحام فلسطينيين مقر الاتحاد الاوروبي في 4 شباط (فبراير) 2006.وراء الانتشاء السريع بصحوة عربية اسلامية تقطع الطريق علي من تسول له نفسه بالتطاول علي هذا الرمز او ذاك، فان ردة الفعل المتضخمة التي رعتها الحكومات والاعلام العربيان و تفهمت اسبابها الخارجية الامريكية، تحولت الي رسالة بسيطة وواضحة لناخبي النرويج، وهي ان الرجل الذي تحاربه اسرائيل والذي تصوتون لصالح دعم قضيته، لا يزال مرابطا علي باب مفوضيتكم، يحرق علمكم ويعلن مقاطعته لكم وان سلاحه لا يهدد اسرائيل، بل يهددكم اولا.وجاءت الصدفة البارعة المدهشة لتلقن الدنمارك والنرويج، ومعهما الاتحاد الاوروبي، درسين مهمين: الاول مفاده ان الملايين المسلمة التي لا يحق لها البتة مقاطعة الولايات المتحدة بكفالة حكوماتها، مسموح لها تماما بمقاطعة الاتحاد الاوروبي وطرده من اسواقها بعد ان تم اقصاؤه عن مصادر النفط في المنطقة، والثاني، والاهم، مفاده ان في الدول المرفهة المزعجة التي لا تزال فيها شريحة واسعة تري ان حقوق الانسان لا تنقل الي الشعوب في حقائب الجنود وعلي متن طائرات الـB52، من ستسول له نفسه بالدعوة للمقاطعة الاقتصادية كوسيلة ضغط علي الدول التي تمارس الاحتلال والقتل، سيرد له الصاع مليارا وثلاثمئة مليون صاع، او اكثر قليلا.والكرامة محفوظة.ہ كاتب من سورية8