صاحب العطر يوظف فضاء المسرح

حجم الخط
0

صاحب العطر يوظف فضاء المسرح

الكونترباص مونودراما للالماني زوسكيند:صاحب العطر يوظف فضاء المسرحالقاهرة ـ القدس العربي :عن مشروع الترجمة بالمجلس الأعلي للثقافة في مصر صدرت حديثا ترجمة سمير جريس لمونودراما الكونتراباص للكاتب الألماني باتريك زوسكيند الذي يعتبر ظاهرة فريدة بين الكتاب الألمان، إذ لم ينشر هذا الكاتب إلا مسرحية واحدة مطلع الثمانينات بعنوان الكونتراباص ، أعقبها عام 1985 برواية العطر الشهيرة. عدا ذلك نشر ثلاث قصص قصيرة، ثم صمت منذ مطلع التسعينات وحتي اليوم. ومع ذلك فاسمه لا يزال يلمع بين أشهر الكتاب في ألمانيا. قبل أن يكتب زوسكيند الكونتراباص عام 1980 كان قد جرب قلمه في عدة أعمال نثرية لم يجد من ينشرها، ثم في سيناريوهات أفلام لم تجد من يخرجها أو يمثلها. مع الكونتراباص بدأ نجاحه. بُث العمل أولا كتمثيلية إذاعية، قبل أن يجد طريقه إلي خشبة أحد مسارح ميونيخ عام 1981. ومنذ ذلك التاريخ و الكونتراباص تحقق نجاحا ساحقا. بل يمكن القول إنه ليس هناك مسرح في ألمانيا لم يقدم هذه المونودراما في أحد مواسمه، مما جعلها من أكثر النصوص المسرحية تمثيلا في ألمانيا علي الإطلاق، حتي أنها خلال موسم 1984 عرضت أكثر من 500 مرة، في خمسة وعشرين إخراجا مختلفا.ولا يعود النجاح الباهر لمونودراما الكونتراباص إلي القيمة الأدبية الرفيعة للنص فحسب، بل أيضا إلي توظيف إمكانات المسرح بشكل ممتاز، فالمسرحية لا تتطلب إلا ممثلا واحدا يجلس طيلة الوقت في غرفة فقيرة الديكور، كما أنها تتيح للممثل أن يصول ويجول علي خشبة المسرح، ليظهر مواهبه في دور غني بالمشاعر الإنسانية الهادئة والصاخبة. ولا تزال هذه التركيبة المسرحية تحقق نجاحا كبيرا منذ أكثر من عشرين عاما علي كافة المسارح الألمانية. وقد ترجمت هذه المونودراما إلي عدد لا يُحصي من اللغات، ووجدت طريقها إلي خشبات المسارح في كافة أرجاء العالم. كما مثلت في أكثر من بلد عربي باللهجة العامية، وإن لم تلق مثل هذا النجاح الكبير. وهذه هي المرة الأولي التي تُنشر فيها الكونتراباص بالعربية. ومن المسرحية: …. لا، لا يولد المرء عازفا للكونتراباص، بالفعل لا. الطريق إلي ذلك يمر بتعاريج ومصادفات وإحباطات. أستطيع أن أؤكد لكم أن من بين ثمانية عازفين للكونتراباص في أوركسترا الدولة، ليس هناك واحد لم يشرب الذل، ليس هناك واحد إلا وآثار لكمات القدر ظاهرة علي وجهه. انظروا إليّ مثلا، حالي يتحدث باسم ألوف من عازفي الكونتراباص: أب مسيطر، موظف، غير موسيقي. أم ضعيفة الشخصية، تعزف الفلوت، ذوقها الموسيقي غريب. في طفولتي أحببت الأم حبا جنونيا. الأم تحب الأب. والأب يحب أختي الصغيرة. وأنا لم يحبني أحد – أنا أتحدث الآن عن مشاعري الذاتية. لكراهيتي للأب أقرر ألا أصبح موظفا، بل فنانا. وثأرا من أمي أختار أكبر الآلات الموسيقية، آلة لا أستطيع الإمساك بها، ولا تصلح للعزف المنفرد. وحتي أطعنها في كبريائها طعنة مميتة، وفي الوقت نفسه حتي أركل الأب في قبره: أصبحت أيضا موظفا – عازف كونتراباص في أوركسترا الدولة، الصف الثالث. وكعازف أغتصب أمي يوميا في شكل الكونتراباص، أضخم الآلات الموسيقية الأنثوية، أتكلم الآن من ناحية الشكل. وهذه العلاقة الجنسية الرمزية، المحرمة دائما وأبدا، هي بالطبع كارثة أخلاقية شنيعة. هذه الكارثة الأخلاقية محفورة علي جبين كل عازف كونتراباص. يكفي هذا القدر بخصوص تحليل الآلة من الناحية النفسية. ولكن هذه المعرفة لا تساعد كثيرا، لأن… التحليل النفسي وصل إلي طريق مسدود. اليوم نعرف ذلك، نعرف أن التحليل النفسي وصل إلي طريق مسدود، بل إن المحللين النفسيين أنفسهم يعرفون ذلك. أولا، لأن التحليل النفسي يطرح أسئلة أكثر بكثير مما يستطيع الإجابة، مثل الغول – أتكلم الآن مجازا – الذي يقطع رأسه بنفسه، هذا هو التناقض الداخلي للتحليل النفسي، وهو تناقض لا يمكن تجاوزه، وتحت وطأته سوف يختنق تماما. ثانيا: التحليل النفسي اليوم مشاع لكل الناس، كلنا نعرف ذلك. من بين عازفي الأوركسترا – 126 عازفا – هناك نصفهم علي الأقل في العلاج النفسي. تستطيعون أن تتخيلوا أن ما كنا نعتبره قبل 100 عام كشفا علميا مذهلا، أصبح اليوم عاديا ومبتذلا، ولا يثير دهشة أي شخص. أم يدهشكم أن عشرة في المائة من الناس يعانون من الاكتئاب اليوم؟ أنا لا يدهشني ذلك. أترون! ولهذا لا أحتاج إلي التحليل النفسي. الأهم لو كان عندنا – طالما نتحدث عن هذا الموضوع – قبل مئة عام أو مئة وخمسين عاما إمكانية للتحليل النفسي. لو كان ذلك قد حدث، لكان التحليل النفسي أنقذنا من بعض أعمال فاغنر. الرجل كان يعاني من الاضطرابات العصبية معاناة شديدة. عمل مثل تريستان وإيزولدة ، مثلا، أعظم ما تفتقت عنه قريحته الموسيقية، كيف رأي نور العالم؟ فقط لأنه كان علي علاقة بزوجة أحد أصدقائه الذي تحمل تقلبات مزاج فاغنر سنوات طويلة. سنوات طويلة. وهذه الخديعة، هذا – ماذا أقول؟ – هذا السلوك الوضيع كان يفترسه من الداخل افتراسا، لذلك كان لا بد أن يصنع منه أعظم مآسي الغرام في كل العصور – هكذا يقولون عن تريستان . الكبت التام والإزاحة الكلية عبر أقصي درجات التسامي. ذروة الرغبة ، إلي آخره… تعرفون هذا الكلام. كان الزنا في تلك الأيام أمرا غير مألوف. والآن تخيلوا معي: لو كان فاغنر ذهب إلي المحلل النفسي! نعم – الأكيد أن أوبرا تريستان لم تكن لتري النور. هذا أمر في وضوح الشمس، لأن العُصاب ما كان سيدفعه إلي كتابة ما كتب. علي فكرة، كان فاغنر يضرب زوجته أيضا. الأولي بالطبع. لم يكن يضرب الثانية. الثانية بالتأكيد لا. ولكن الأولي كان يضربها. وعموما، كان إنسانا غير مريح. كان بإمكانه أن يكون في غاية اللطف أمامك، جذابا وساحرا وظريفا إلي أقصي حد. ولكن، غير مريح. أعتقد أنه لم يكن يطيق نفسه. كان يعاني علي الدوام من الإكزيما في وجهه التي جاءته من.. شيء مقرف. ولكن النساء كن يقعن في غرامه، الواحدة بعد الأخري، طوابير من النساء. كان يجذب النساء جذبا قويا جدا، هذا الرجل. شيء لا يُصدق…… المرأة تلعب دورا ثانويا في الموسيقي. أعني في مجال الإبداع الموسيقي، في مجال التأليف. المرأة تلعب دورا ثانويا. أم هل تعرفون اسم موسيقارة مشهورة؟ واحدة فقط؟ أترون! هل فكرتم مرة في هذا الأمر؟ عليكم أن تفكروا في الأمر ذات مرة. عن الأنثوية في الموسيقي عموما، ربما. الكونتراباص آلة أنثوية. بالرغم أنه – لغويا – مذكر. نقول: هذا الكونتراباص. لكنه آلة أنثوية – ولكنها جادة تماما، كالموت، أتحدث الآن عن القيمة الشعورية التي تستثيرها الكلمة، الموت أنثوي فيما يخبئه من بشاعة، أو – إذا أردنا – في وظيفته الحتمية التي تشبه الرحم؛ من ناحية أخري فإن الموت هو الوجه المكمل لمبدأ الحياة والخصوبة، والأرض الولودة… إلي آخره. هل أنا محق؟ وفي هذه الوظيفة – من الناحية الموسيقية الآن – يكافح الكونتراباص، كرمز للموت، العدمَ المطلق الذي يوشك أن يبتلع الموسيقي والحياة علي حد سواء. إذا نظرنا للأمر من هذه الزاوية، نكون نحن، عازفي الكونتراباص، حراس مقابر العدم، أو علي النقيض، مثل سيزيف الذي يحمل عبء الموسيقي كلها علي أكتافه ويصعد بها الجبل، تصوروا هذا المنظر، والناس يحتقرونه ويبصقون عليه، والطائر يفترس كبده – لا، كان هذا الآخر… برومثيوس. كان هذا – بالمناسبة: في الصيف الماضي، كنا مع كافة أعضاء أوبرا الدولة في أورانج بجنوب فرنسا.. مهرجان موسيقي. عرض خاص لأوبرا زيجفريد لفاغنر. لو سمحتم، تخيلوا معي الآتي: في مسرح أورانج المدرج، مبني عتيق عمره الآن حوالي 2000 سنة، من الطراز الكلاسيكي، من أحد أكثر عصور البشرية تحضرا ورقيا. هناك، وتحت أنظار القيصر أوغسطس، بدأ الشعب الجرماني، شعب الآلهة، يعيث في الأرض فسادا: فحيح الأفاعي، زيجفريد يتهاوي علي خشبة المسرح، زري الهيئة، أشعث، بدينا، ألمانيا همجيا، كما يقول الفرنسيون… – حصل كل عازف علي 1200 مارك، ولكنني شعرت أن العرض كله فضيحة، لذلك لم أعزف إلا خُمس ما كان مكتوبا علي النوتة. وبعد ذلك – هل تعرفون ماذا فعلنا بعد الحفل؟ كل أفراد الأوركسترا؟ شربنا وسكرنا وتصرفنا مثل السوقة والرعاع، وظللنا نصيح حتي الثالثة صباحا، ألمان همج بكل معني الكلمة. كان لا بد أن تأتي الشرطة… كنا في حالة يرثي لها. للأسف، سكر المغنون والمغنيات في حانة أخري، لا يجلسون أبدا معنا، نحن العازفين. سارة – أنتم الآن تعرفونها – جلست معهم. غنت دور عصفور الغابة . كما أن المغنين نزلوا في فندق آخر… وإلا ربما كنا تقابلنا آنذاك… أحد أصحابي كانت عنده علاقة بمغنية، علاقة دامت سنة ونصفاً، لكنه كان عازف تشيللو. التشيللو لا يسد الطريق مثل الكونتراباص. لا يفرض نفسه، ولا يستعرض عضلاته بين اثنين يتبادلان الغرام، أو ينويان تبادل الغرام. كما أن هناك مقطوعات عديدة يعزف فيها التشيللو منفردا، صولو، أتحدث الآن عن مكانة الآلة داخل الأوركسترا، كونشرتو البيانو لتشايكوفسكي، السيمفونية الرابعة لشومان، دون كارلوس، إلي آخره. ومع ذلك، أقول لكم إن علاقة الحب مع المغنية أنهكت صاحبي. كان عليه أن يتعلم العزف علي البيانو حتي يستطيع أن يرافقها. هكذا طلبت منه، ببساطة، وبدافع من الحب – علي كلٍ، بعد وقت قصير أصبح الرجل عازف بيانو للمرأة التي يحبها. وبالمناسبة، عازف بائس. تفوقها الواضح كان يتجلي عندما يعزف لها كي تغني. كانت تهينه بكل معني الكلمة، هذا هو الوجه الآخر لقمر الحب. مع أنه – فيما يتعلق بالتشيللو – كان عازفا ماهرا، أفضل منها بكثير بطبقة صوتها المتسو سوبرانو، بكثير، لا وجه للمقارنة. ولكنه كان يريد أن يرافقها بأي ثمن؛ كان يريد أن يعزف معها بأي ثمن. وليست هناك معزوفات كثيرة للتشيللو والسوبرانو. قليلة جدا، تقريبا كندرة المقطوعات للسوبرانو والكونتراباص .0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية