الناصرة- “القدس العربي”: تواصل مؤسسة الدراسات الفلسطينية توثيق أحداث حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة ومحاولات كسر إرادة الفلسطينيين وإخضاعهم بالحديد والنار، وضمن ذلك نشر تجارب الأسر كتبها بعض الأسرى، منها للأسير المحرر ياسر مناع، الذي كتب عدة حلقات عن خبرته الشخصية تحت عنوان “إذا لم تسجن بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، فلا تظن نفسك أنك سُجنت قط”.
وتنشر اليوم الحلقة الرابعة من سلسلة ياسر مناع، وفي مقدمتها يقول: “عندما طُلب مني كتابة تجربتي في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، شعرت كما لو أنهم يطلبون مني أن أفتح جرحاً لم يلتئم بعد، وأن أنتزع كل حرف بألم. لكن كتابة هذه التجربة كانت ضرورية؛ كشهادة على معاناة الضحايا داخل ظلمات السجون الإسرائيلية، وهي نافذة سريعة تطل على عالم العذابات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، وخصوصاً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وشاهد على تعذيبهم المرئي والمخفي داخل الزنازين”.
العزل عن العالم الخارجي
ويوضح مناع أنه في ظل هذه الأوضاع القاسية، تصبح الطريقة التي يقضي بها الأسرى وقتهم أمراً شخصياً يختلف من فرد إلى آخر، ولا يوجد جواب محدد عن كيفية قضائهم للوقت، حيث يتفاوت تصرف الأَسرى بناءً على مواقفهم الشخصية وحالتهم النفسية؛ فبعض الأَسرى يفضّلون قضاء أوقات طويلة في النوم، أو الجلوس على الفراش طوال اليوم، متجنّبين الحديث كثيراً، وذلك ربما لتجاوز الواقع المؤلم، والمحافظة على طاقتهم النفسية في أوضاع العزل عن العالم الخارجي.
ويقول إنه منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب، سعت إدارة السجون لعزل الأَسرى بالكامل عن العالم الخارجي، وتمثّلت هذه الجهود في عدة إجراءات صارمة، منها منع تنقّل الأسرى بين الأقسام المتعددة، وقطْع محطات التلفاز، ومصادرة الأجهزة الإلكترونية؛ كالتلفاز والراديو. كما قامت الإدارة بنصب أجهزة لحجب إشارات البث الخليوي كإجراء احترازي لمنع استخدام الهواتف النقالة المهربة.
ويقول إن البعض يختار التجول (الكزدرة) داخل الغرفة المكتظة لساعات طويلة، فيقومون بهذا النشاط ربما للتخفيف من الضغط النفسي والإجهاد الذي يعيشونه بسبب الأوضاع القاسية داخل السجن، وبعد يوم طويل من التجول والنشاط، يصل المساء وجسدهم يكون منهكاً للغاية، وهو ما يجعلهم ينامون بسرعة.
وعن ذلك الصراع مع السجن والسجان، ومع النفس، يضيف: “كانت الكزدرة صعبة جداً ومزعجة في بعض الأحيان، وذلك لكون الغرفة مكتظة بصورة لا تُطاق؛ فعلى سبيل المثال، كان عدد الأَسرى في كل غرفة في سجن عوفر، قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، يصل إلى 6 أَسرى فقط، لكن العدد ازداد في بداية الحرب إلى 10 – 12 أسيراً في الغرفة الواحدة. وفي مطلع شباط/فبراير 2024، تم احتجازي في سجن مجدو، إذ كانت الغرفة تضم أكثر من 16 أسيراً، بينما كانت تتسع عادةً لـ 8 أسرى فقط”.
زحمة السجن
وتقيد الغرف الضيقة والمزدحمة حركة الأَسرى، وتحرمهم الفضاء الشخصي اللازم، كما تزيد من صعوبة المحافظة على النظافة الجيدة والصحة العامة، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم انتشار الأمراض بسرعة داخل السجون. في الواقع، إن الأَسرى يجدون صعوبة في الجلوس في أسرّتهم طوال الوقت، وهو ما يضطرهم إلى مشاركة المساحة الضيقة، الأمر الذي يمكن أن يتسبب بمشاحنات بينهم أحياناً”.
وبالإضافة إلى الاكتظاظ الشديد داخل الغرف الضيقة في السجون الإسرائيلية، يوضح مناع أن إدارة السجون تطبق سياسات تزيد من صعوبات الاعتقال وأوضاعها بصورة إضافية، ومن هذه السياسات منع التنقل بين الغرف، والتباين في أعداد الأسرى بين الغرف المتعددة.
ويشير مناع لمساع خبيثة يمارسها السجن تقوم على محاولة زرع الفُرقة بين الأسرى: “تحاول إدارة السجون إظهار ذلك، فعلى سبيل المثال؛ عند الخروج إلى المحكمة، يتم سؤال الأَسرى عن انتماءاتهم من جانب السجان، فإذا قال الأسير إنه ينتمي إلى تنظيم غير “حماس” أو “الجهاد”، يتم تقييده إلى الأمام، أمّا إذا كان منتمياً إلى أحد هذين التنظيمين، فإنه يتم تقييده إلى الخلف”.
ويشير مناع لوسائل المواجهة مع السجان: “..هذا بينما يختار البعض الإكثار من ممارسة العبادات والشعائر الدينية، كالصلاة، والتسبيح، وحضور الدروس الدينية، كوسيلة لتعزيز القوة الروحية داخل السجن، إلاّ أن إدارة السجون يمكن أن تمنعهم من ذلك، ويبررون ذلك بما يدّعون أنه من المخاطر الأمنية، وخوفاً من التحريض. ومع ذلك، فإن هذه القيود تتجاوز الضرورة الأمنية المزعومة لتصبح وسيلة لإضعاف الروح المعنوية للأَسرى”.
وطبقاً لشهادة مناع، تتضمن القيود التي يمكن أن تفرضها إدارة السجون منع أداء الصلوات اليومية بصورة جماعية، وحظر صلاة الجمعة، ومنع المصاحف، والمسابح، وسجادات الصلاة، بالإضافة إلى منع الاحتفال بالأعياد الدينية. كذلك، ومنذ اللحظات الأولى للإقامة، تم إغلاق الأقسام، ومنع الأَسرى من الخروج إلى ساحات السجن، والتبليغ أن صلاة الجمعة ممنوعة، وعند نقلي إلى سجن النقب، تم إخطارنا بأن الصلاة الجماعية داخل الغرف ممنوعة أيضاً. كذلك، مُنع الأذان، فعندما قام أحد الشباب بالأذان ذات مرة عند موعد صلاة الظهر، دخلت في هذه الأثناء الوحدة القسم بصورة همجية، واعتدت بالضرب على الأسير والغرفة بأكملها، وعند خروج ضابط الوحدة، سخر منا قائلاً: “الزلمة فيكم يأذن مرة ثانية”، وهذا ما زاد من صعوبة معرفة مواعيد الصلاة التي كنا نقدرها تقديراً، وكذلك الأمر مواعيد الصيام والإفطار في شهر رمضان”.
تهريب مصحف
ويستذكر مناع أنه في وقت ما تمكّن الأسرى الفلسطينيون من تهريب مصحف ممزق، لكن تمت مصادرته خلال التفتيش، وفي أول أيام شهر رمضان، تم توزيع مصحف واحد صغير وممزق لكل غرفة، فحتى القرآن الكريم كان ممنوعاً، وكانت الغرف تتعرض للتفتيش بحثاً عنه.
ويتابع: “أحياناً ننجح في تهريبه وإخفائه، وأحياناً أُخرى تتم مصادرته، وهو ما أدى إلى عقوبات؛ كحرماننا الاستحمام، أو سحب الأغطية والفرش من الغرفة. ومع بداية شهر رمضان 2024، تم توزيع مصحف واحد على كل غرفة في السجن، وكان هذا تحسيناً كبيراً بالنسبة إلينا، لأنه أصبح في إمكان الأَسرى الآن قراءة القرآن وأداء الصلوات بصورة أكثر انتظاماً”. وعن وسائل الصمود والبقاء والحفاظ عل الصحة النفسية يرى مناع أنه لا شك في أن الكثير من الوقت يمضي في النقاشات والتحليلات بشأن الأخبار التي كانت تصل إلى الأَسرى. ويضيف عن المخاطر الأخرى: إلى جانب ذلك، تنتشر الأخبار الكاذبة، سواء أكان بصورة عفوية، أم بصورة مقصودة، إذ يتنقل الخبر من أسير إلى آخر بطريقة مشوهة تعتمد على فهم الناقل، وتساهم في انتشار الشائعات.
مصدر المعلومات
كيف تأتي الأخبار؟ هذا من أكثر الأسئلة التي يطرحها الناس على الأسير المحرر. عن ذلك يقول مناع: في الواقع، هناك أكثر من مصدر للأخبار داخل السجن. الأَسرى الجدد حيث يُعتبرون المصدر الأولي والأكثر صدقية تقريباً، لأنهم القادمون من الخارج. كذلك الأسير الذي يخرج إلى المحكمة: يلتقي الأَسرى من الأقسام الأُخرى ويسمع منهم أخباراً، وربما يكون لديهم راديو مهرب. وبعضهم كان يسأل المحامي عن الأخبار، لكن المحامي في أغلب الأحيان يكتفي بالتلميح لأنه ممنوع من التصريح من جانب المحكمة. الأَسرى الجنائيون: يمكنهم تقديم الأخبار في أثناء التنقلات والبوسطات، لكن معظم أخبارهم لا تكون دقيقة.
نقل الأخبار
أمّا بشأن كيفية تداول الأخبار بين الأَسرى؛ فيكشف مناع: في البداية، كان ينادي بعضهم البعض الآخر عبر النوافذ الخلفية للغرف لتبادل الأخبار، لكن بعد تعرضهم للضرب عدة مرات بسبب هذه الطريقة، اضطروا إلى تغيير أسلوبهم، وأصبحوا يكتبون الأخبار على أوراق صغيرة مهترئة، ويتبادلونها بين الغرف في أثناء توزيع الطعام. ومن ناحية أُخرى، تعمد إدارة السجون إلى بث الإشاعات بطريقة مقصودة، سواء أكان عبر المقابلات، أم عن طريق المتعاونين معها، وذلك لتعزيز الشعور بعدم الاستقرار والضغط النفسي. وكان الكثيرُ من الأخبار مزيفاً، ومصدره إدارة السجن، وهدفه إحباط الأسير.
وطبقاً لمناع أيضاً، يتعرّض الأَسرى أيضاً للضرب والإهانة خلال زيارات المحامين، الأمر الذي يجبر العديد منهم على رفض تلك الزيارات بسبب التهديدات والمضايقات التي يتعرضون لها ويمتنعون عن الذهاب لمحاكم إسرائيلية.
وعن تجربته الذاتية يضيف: “عندما دخلت قاعة الزيارة، وجدت المحامي جالساً ومبتسماً، فزف إليَّ الخبر السعيد في تلك اللحظة؛ لقد رُزقت بمولود أسميته قيس، فلم أستطع تمالك نفسي من السعادة، لكن المحامي لم يكتفِ بذلك، وأخبرني بسيل من الأخبار عن غزة، فتراوحت مشاعري بين الحزن والفرح. ورغم الفرحة العارمة بقدوم طفلي، فإنني لم أستطع تخيل ملامحه، وظل هذا الشعور يرافقني حتى يوم الإفراج عني، حين تمكنت أخيراً من رؤية وجهه لأول مرة”.
ياسر مناع، وهو طالب ماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت، يختتم بالقول: “رغم ذلك، فإن التوجه إلى المحاكم الإسرائيلية يعَدّ أمراً ضرورياً، إذ تستجيب لبعض الحالات القضائية، كقضية الشهيد ثائر أبو عصب. ومع ذلك، فإن الإجراءات القانونية والترتيبات المتعلقة بإدارة السجون تتطلب وقتاً طويلاً وتعقيداً للحصول على العدالة”.