شارون يغيب تاركا فوضي سياسية في الداخل.. وفوضي عارمة لدي الجيران
طرح حلولا جديدة لتغيير الواقع مقنعة خارجيا ولكنها ترمي الي أهداف اخري من الجوهر شارون يغيب تاركا فوضي سياسية في الداخل.. وفوضي عارمة لدي الجيران في الايام الجيدة ايضا، وقبل مدة طويلة من انتظار الجميع لما سيقوله الاطباء في هداسا، كان دماغ ارييل شارون أحد الاماكن الأكثر إثارة للفضول في العالم. خططه السياسية، اذا كانت لديه مثل هذه الخطط، كانت قادرة، لو طُرحت، علي بلورة هوية دولة اسرائيل وحدودها. رؤيته، لو توفرت، كانت قادرة علي تغيير وجه الشرق الاوسط. المقربون منه نشروا أنباء عن أن دماغ شارون الجديد حافل بالمشاريع والمزيد المزيد من فك الارتباط أحادي الجانب. شارون نفي ذلك. الشائعات التي بثها المستشارون حول رؤيته السلمية من طراز 2006 حوّلته الي حبيب لليسار. إلا أن شارون دحض ذلك ايضا.شارون يترك من ورائه، ليس فقط فراغا قياديا وانما ايضا فراغا ايديولوجيا واستراتيجيا. لا يعرف أحد الي أين كان سيتوجه الشخص الذي كان من المفترض أن يقود اسرائيل علي رأس حزب جديد. كيف رأي بينه وبين نفسه مكان اسرائيل في المنطقة، والعلاقات مع العالم العربي، ليس فقط بعد عشرين أو خمسين أو مئة سنة فقط، وانما بعد عام أو عامين؟ ما الذي قصد اليه فعلا عندما تحدث عن دولة فلسطينية ؟ هل افترق فعلا ونهائيا عن الخيار الاردني؟ وهل عبرت كلماته عن الاحتلال فعلا عن مِحن شعب آخر؟ وهل فك الارتباط عن غزة كان بداية لعملية ترسيم حدود الدولة أم مجرد خدعة للخلاص من مليون ونصف فلسطيني بثمن بخس؟.لو طُلب من وزارة التربية والتعليم اليوم، في السادس من كانون الثاني (يناير) 2006، اعداد تركة لشارون، لكانت الورقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها هي برنامج كديما، حزب شارون. هذا الحزب الشكلي حاليا. المؤلف لن يجد هناك، ولو بالتلميح، كلمة عن الانسحاب أحادي الجانب القادم. ولكنه في المقابل سيجد برنامجا من اعداد تسيبي لفني، ويجد خريطة الطريق ، الوثيقة التي زال مفعولها بصورة رسمية قبل اسبوع تقريبا، ولكن لم يكن لها أي مفعول أبدا بصورة فعلية. شارون تمتع بسرين سحريين، الاول، الانسحاب أحادي الجانب، والثاني ذلك الغمز الذي يرافق تصريحاته المؤيدة لخريطة الطريق. اذا كان حزب كديما سيحصل فقط علي من يصدقون بأن شارون قد قصد ما قاله عن تطبيق خريطة الطريق، لكان من المشكوك فيه أن يجتاز هذا الحزب نسبة الحسم.من اجل إطراء السامعين يجدر ان نذكر أن خريطة الطريق التي تبنتها الحكومة مع 14 تحفظا، تتحدث عن أن المفاوضات حول التسوية الدائمة ستولي أهمية خاصة لقرار قمة بيروت العربية في كل المسارات بما فيها المسار السوري ـ الاسرائيلي واللبناني ـ الاسرائيلي. قرار الجامعة العربية في آذار (مارس) 2002 اقترح السلام مع اسرائيل مقابل انسحاب كامل لخطوط حزيران (بما في ذلك في الجولان)، وتطبيق قرار الجمعية العمومية 194 الذي يتيح للاجئين الفلسطينيين الاختيار بين العودة وبين التعويض. من هو المؤرخ الذي سيتجرأ علي إدخال هذه العبارات في فصل حول تركة شارون؟.ارهابهذا لا يعني أن خريطة الطريق غير جديرة بمكانة محترمة في تركة شارون. هذه الخريطة ظهرت كوسيلة ناجعة بدرجة لا توصف لإزالة تركة اوسلو. أهم انجاز لتركة اوسلو كان فتح مسار سياسي مباشر بين اسرائيل والمنظمة التي تمثل الشعب الفلسطيني، والتمسك بالمفاوضات رغم العمليات الارهابية. شارون أخرج البند الذي يلزم السلطة الفلسطينية بتفكيك البني التحتية للارهاب من خريطة الطريق وأقنع بوش بتبني تفسيره القائل إن البني التحتية تشمل ايضا مكاتب حماس في المناطق.بمساعدة الهجمة الارهابية التي شُنت علي الولايات المتحدة في 2001 والحرب في العراق واليمين المسيحي والعمليات الانتحارية الفلسطينية وأكاذيب ياسر عرفات ـ نجح شارون في قطع الصلة بين مكافحة الارهاب وبين دفع عملية السلام الي الأمام. هو أقنع الأسرة الدولية بأن فك الارتباط السياسي ليس دافعا للطرف المحتل حتي يوقف عنفه وانما إثابة لحسن سلوك الطرف الخاضع للاحتلال. من الصعب التصديق أن شارون نفسه اعتقد أن عرفات وأبو مازن سينجحان في المكان الذي فشل فيه الجيش الاسرائيلي و الشاباك ، لذلك تغلب علي العنف بواسطة العنف.مع ذلك، ليس هناك مؤشر علي أنه أدار ظهره لموقف كي الوعي لدي الجيران أو التدمير البنّاء للبني التحتية والاقتصادية في المناطق. وزير الدفاع شاؤول موفاز ورئيس الشاباك السابق آفي ديختر فسرا غمزات شارون كتعليمات مبدئية لمواصلة القبضة الفولاذية تجاه السكان المدنيين وغض البصر عن العنف المتزايد لدي الجيل الشاب من المستوطنين. ضغط الاغلاقات والحواجز والاعتقالات وعمليات الاغتيال، أدت الي انهيار الحكم المركزي في المناطق. ولكن الجمهور الفلسطيني يرفع راية حماس الخضراء بدلا من أن يرفع الراية البيضاء.لشدة السخرية قبل يوم من اقتياد شارون الي المستشفي، وبعد أن تفاخر أعوانه بانخفاض عدد العمليات، أشرك رئيس الشاباك يوفال ديسكن اعضاء لجنة الخارجية والأمن في الكنيست بقلقه من ضعف مكانة السلطة وفقدان السيطرة علي الارض. حماس لُقبت من قبله كـ مصيبة كبري . هو قال إن حماس هي الطرف المسيطر علي الارض منذ انسحاب الجيش الاسرائيلي. وتوقع أن ينجح الاسلاميون في الانتخابات وأن يبذل ممثلوهم كافة الجهود للسيطرة علي وزارات التربية والتعليم والصحة والرفاه الاجتماعي للتأثير علي الناس وما يتعلمونه. حماس ستحاول، حسب رأيه، السيطرة علي مواقع القوة في البرلمان والتأثير علي التشريعات. ديسكن أكد أنه رغم أن حماس ليست نشيطة الآن في الاعمال الارهابية ضد اسرائيل، إلا أنها تُدرب وتُمول وتُرسل الخلايا لتنفيذ العمليات.من الممكن تفسير هذه الامور كعلامة راسب لسلفه في المنصب، آفي ديختر، والمسؤول المباشر عنه ارييل شارون. ماذا ستكون السياسة الجديدة التي سيتبعها الجيش و الشاباك في المناطق وفقا لتعليمات المستوي السياسي؟ هل سيحصل ديسكن علي تفويض بتخفيض عدد الاغلاقات والحواجز؟ وربما يفقد موفاز سيطرته ويُرسل الجيش الاسرائيلي للاغتيال والقصف بصورة أشد وأكبر في غياب شارون؟ المنسق الأمني ـ السياسي لموفاز، عاموس جلعاد، قال قبل ثلاثة اسابيع للدبلوماسيين الاجانب أن الحكومة تدرك جيدا مصلحتها الكامنة في إعمار المناطق، ولكن ممثل البنك الدولي في المناطق، نايغل روبرتس، يقول إن هذا الادراك ليس ملموسا علي الارض.حل الدولتينشارون تنازل عن حلم ارض اسرائيل الكاملة لصالح الواقع الديمغرافي. اتفاق السلام مع الاردن أجبره علي التنازل ايضا عن حلم الاردن هو فلسطين ، لصالح تسوية اخري. لا يعرف أحد تفاصيل هذه التسوية. علي الورق أعطي شارون موافقته المبدئية علي حل الدولتين، دولة اليهود في الجانب الغربي من الجدار الفاصل، والدولة الفلسطينية في الشطر الشرقي. فك الارتباط عن غزة يهدف الي عزل غزة عن الضفة والالقاء بها مرة اخري الي مصر. هذا أحد الاسباب وراء موافقة شارون علي فتح معبر رفح حتي بثمن إدخال مراقبين اوروبيين رغم أنه لم يثق بالاوروبيين أبدا.برنامج كديما يقرر أن انهاء الصراع سيتمثل باقامة دولتين قوميتين علي أساس الواقع الديمغرافي بحيث تعيشان بسلام وأمن الي جانب بعضهما البعض . موافقة اسرائيل علي اقامة دولة فلسطينية مشروط بأن تكون هذه الدولة ايضا الحل المطلق لكل الفلسطينيين كائنا من كانوا بمن فيهم اللاجئون . كديما علي الورق تري في دفع عملية السلام مع الفلسطينيين هدفا مركزيا ستسعي له بكل وسيلة ممكنة لوضع أسس بلورة حدود دولة اسرائيل الدائمة ضمن تسوية سلمية تضمن مصالح اسرائيل القومية والأمنية. هذا علي الورق. أما فعليا، فقد كان هدف شارون المركزي هو انتزاع مكانة الشريك من السلطة الفلسطينية. أما تحدي السلام والأمن اللذين لا يتحققان إلا من خلال المفاوضات الثنائية، فقد رمي شارون الي توريثه لجيل أو ربما لأجيال قادمة. هو نفسه أراد الاكتفاء بتسوية مؤقتة أحادية الجانب تُفرض بواسطة الجدار الفاصل واخلاء عدد محدود من المستوطنات. هل سيتبني ورثة شارون سياسة الإملاءات للجيران مع استغلال تفوق اسرائيل العسكري الهائل أم سيعترفون بالضرر المتراكم وبعيد المدي لنمو التعصب الاسلامي فوق أنقاض الحركة القومية الفلسطينية؟.الحدودمن دون شك يمكن القول ان عنوان تركة شارون هو أن حياة الانسان والحلم الصهيوني أهم من الارض ومن واجب توطين البلاد. ما كان حتي عهد شارون وفك الارتباط، كما كان اليسار والوسط الاسرائيلي يدعوان اليه، تحوّل الي اجماع وطني. شارون برهن علي أن وجود جمهور مساند وحكومة قوية وقوات أمنية مخلصة، قادر علي تقسيم البلاد من دون تقسيم الشعب. ولكن الطريقة التي اختارها لتنفيذ العملية الجراحية أسهمت بدرجة غير بسيطة في تفكك المجتمع الفلسطيني في الضفة وازدياد التهديد علي التجمعات الشمالية الاسرائيلية في النقب. من المبكر أن نقول ان فك الارتباط أحادي الجانب سيتكرس في الوعي الجماهيري كسابقة ايجابية تشجع عملية الانسحاب مرة اخري في الضفة. شارون تغلب علي عقبة التواصل الجغرافي للمناطق الفلسطينية بواسطة اختراع أخذه من الدول التابعة في جنوب افريقيا (البنتوستانات) ـ تواصل علي مستوي المواصلات. هو نفسه قال انه طرح خارطة الضفة علي أبو مازن في أحد لقاءاتهما واقترح عليه حفر أنفاق تربط شمالي الضفة بجنوبها علي شاكلة طريق الأنفاق الذي يربط غوش عتصيون في القدس.في الآونة الأخيرة تزايدت الشائعات عن أن شارون يفكر بصورة معمقة بتعويض الفلسطينيين عن التجمعات الاستيطانية في المناطق باعطائهم مناطق بديلة في منطقة أم الفحم (حسب ما يقترح أفيغدور ليبرمان). شارون نفي هذه الشائعات علي أسماع ممثلي عرب اسرائيل الذين كان يغازلهم قُبيل الانتخابات.شارون بدأ يبلور حدود دولة اسرائيل الدائمة بواسطة بناء جدار الفصل وضم المناطق في خط التماس بذرائع أمنية. الجدار تحول في وعي الجمهور الاسرائيلي والعالمي الي خط حدود مستقبلي لاسرائيل مع الدولة الفلسطينية، ولكن الجانب الفلسطيني صاحب هذه الارض قانونيا لم يكن شريكا للتسوية الاقليمية علي طريقة شارون. هل سيطرح خلفاء شارون علي المحك دعم الجمهور الفلسطيني الآخذ في التناقص لحلول وفق مشروع كلينتون واتفاق طابا؟.عندما خرج شمعون بيريس من حزب العمل قال ان شارون وحده القادر علي دفع اسرائيل نحو السلام. لا كديما ولا اولمرت ولا لفني ـ شارون فقط. فهل يحتمل أن مصير دولة اسرائيل قد كان بيد شخص واحد محدود العُمر والذي رحل من دون أن يترك خلفه أي شيء؟ فقط فوضي سياسية في الداخل، وفوضي عارمة لدي الجيران.عكيفا الداركاتب رئيسي في الصحيفة(هآرتس) 6/12/2006