سورية: نخبة حاكمة تنهار ونخبة ثقافية تصعد!

حجم الخط
0

سورية: نخبة حاكمة تنهار ونخبة ثقافية تصعد!

ميشيل كيلوسورية: نخبة حاكمة تنهار ونخبة ثقافية تصعد! يمر الوطن العربي في حقبة تتسم بانهيار وتداعي النخب الحاكمة وتبلور وصعود نخب بديلة، أبرزها اليوم النخب الثقافية، التي تمهد الأرض أمام تغيير ينشده المواطن، وتتلمس شروطه وإمكاناته وسبله، ويرجح أن يظهر من صفوفها بعض ممثلي البديل السياسي القادم، بالنظر إلي حجم انخراطها في فعل التغيير من جهة، وإفلاس التيارات الأيديولوجية، التي عرفها التاريخ العربي الأحدث من جهة أخري، واتسمت بالشمولية القومية أو الاقتصادية/ الاجتماعية، وتبين مع الوقت عجزها عن إنجاب بديل من داخلها، لعجزها عن تجديد نفسها بما يتناسب مع الواقع العربي والدولي الجديد، كما تؤكد تجربة البعث، التيار الأيديولوجي الشمولي القومي والاجتماعي في آن معا، الذي يظهر اليوم عجزه الفاضح عن تجديد نفسه، رغم اعتراف قياداته بحاجته الملحة إلي ذلك. بالانتقال من العام إلي الخاص، من تجربة العرب التاريخية الحديثة إلي تجربة البعث في سورية، يلفت نظرنا تداعي النخبة الحاكمة، الذي يكتسب طابعا مميزا وخطيرا، لكونها لا تنهار كنخبة حاكمة وحسب، بل كنخبة مالكة وعارفة أيضا، حولتها سنوات حكمها الأربعون إلي مجتمع سياسي مثلت قياداتها نواته الصلبة، التي ضمت إليها قوي مجتمعية واقتصادية مختلفة، لكن مصالحها شرعت تبعدها عن طريقة هذه النخبة في إنتاج الثروة وتوزيعها، وتاليا في إدارتها وتملكها، بينما انفكت عن المجتمع العام، مجتمع المواطنين، وفقدت صلاتها به إلي الحد الذي يجعلها غريبة عنه في كل شيء: من أسلوب التفكير إلي أسلوب العيش إلي أسلوب الاستهلاك إلي أسلوب التخاطب والتواصل … الخ. مهما يكن من أمر، فإن تداعي النخبة الحاكمة السورية هو واقعة تؤكده الحقائق الثلاث التالية: 1 ـ عجزها عن تطوير بدائل بمعونة أيديولوجيتها ونظامها الأيديولوجي للواقع المأزوم، الذي أنجبته خلال انفرادها بالسلطة والحكم طيلة فترة تشكل القسم الأكبر من تاريخ سورية المستقلة الحديث، انتهت أولا إلي أزمة وطنية غير قابلة للحل عبر سياسات سلطة علي قدر من الضعف يحول دون استعادة الجولان المحتل بالتفاوض مع العدو الإسرائيلي أو بالحرب ضده، وثانيا إلي أزمة اجتماعية/ اقتصادية، معرفية وثقافية أثبتت النخبة الحاكمة أنها ترفض النظر إليها كأزمة، وتعتبرها وضعا طبيعيا تشوبه عيوب ونواقص وحسب، كما ترفض أن تري فيها نتاجا طبيعيا وحتميا لأبنية النظام، يستحيل التخلص منها بأساليبه ومناهجه، التي تسببت بها، مثلما يستحيل التخلص منها دون التخلص منه، ودون استبداله بنظام جديد، مغاير له ومختلف عنه، تقاتل النخبة الحاكمة ضد تكون مقدماته ومستلزماته، وتعتبر العمل لها ضربا من مؤامرة خارجية علي الوطن، الذي تفهمه بطريقة تضفي عليه طابعا يجعله متماهيا مع النظام .2 ـ عجزها عن فهم متغيرات العالم وتطوير مناعة معينة ضدها أو تكييف نفسها معها، وعجزها عن مواكبة ما يجري علي الأصعدة السياسية والاقتصادية والعلمية/ التقنية والاجتماعية والثقافية العالمية، وتصميمها علي إبقاء سورية بلدا خارج العام، لاعتقادها أن غربته عنه هي سبيلها إلي الحفاظ علي سلطتها وحكمها، بينما يعني انخراطها فيه وتأقلمها معه انهيارها الحتمي. ومع أن المتغيرات المقصودة ليست من طبيعة سياسية بالضرورة، فإن النخبة السورية الحاكمة تصر علي إضفاء طابع سياسي عليها، وإلا كان من الصعب تحويلها بدورها إلي مؤامرة إمبريالية، وتكريس مفهوم للوطنية مضاد لها، يعتبر النظام والوطن شيئا واحدا، ويري في المطالبة بالتغيير أو بمراعاة جديد العالم خيانة وطنية. 3 ـ عجزها عن قبول ما حدث في سورية من مستجدات، أهمها بروز معارضة تضم أطيافا سياسية واسعة ومتنوعة، وعن الاعتراف بوجود هذا الجديد في الواقع، ورفضها التعامل مع الواقع كما هو، وتمسكها بصورة واقع أيديولوجي فات زمانه، ولم يتحقق في أي وقت، ولم يعد له سند في المجتمع، نشأ ويستمر بقوة أجهزة القمع وسياسات السيطرة علي الثروة وإنتاج المعرفة واحتكار القوة، التي تمارس ضد المواطن بطريقة تنفي وجوده، وتنكر ما يترتب عليه من حقوق سياسية ودستورية. ترفض النخبة الحاكمة الاعتراف بالواقع السياسي، وترفض نهج الإصلاح، رغم أن المعارضة قدمت برنامج مصالحة وطنية يتخطي قضية السلطة ويعطي الأولوية للعمل علي حل مشكلات وأزمات البلد، التي أنتجها النظام وحده، علي أن تتم المصالحة ويبدأ حل الأزمات انطلاقا من أسس في العمل العام مختلفة عن الأسس التي أرسي البعث نظامه عليها، تتعين بمعونتها حلول المعضلات الراهنة: من مشكلة البطالة،إلي مشكلة التنمية، إلي مشكلة التعليم والقضاء والإدارة،إلي مشكلة التصدي الناجع للأخطار الداخلية، المهددة للوحدة الوطنية، والخارجية، المهددة للوطن، التي ستتعامل القوي السياسية والمجتمعية السورية معها باعتبارها قوي وطنية متحالفة متفاهمة، وليست أطراف سلطة ومعارضة متصارعة. رفض النظام حتي مناقشة هذا البرنامج، رغم أنه امتنع إلي اللحظة عن تقديم برنامج يجسد رؤيته هو للتغيير وامتنع عن نقد برنامج المعارضة ورفض إبداء أية ملاحظة عليه، واكتفي رئيسه بشار الأسد بحديث أورده في آخر خطبة ألقاها يزعم أن المصالحة تتم بعد حروب أهلية، وان سورية ليست قبائل متقاتلة حتي تتم فيها مصالحة وطنية !. واليوم، تدور البلاد في دائرة مفرغة، يحاول نظامها إبقاءها فيها بمساعدة سياسة ابتزازية تعتبر المعارضة خيانة محتملة، والاعتراض خيانة مؤكدة، والنضال السلمي،التدرجي والآمن والبطيء والمدروس، من أجله خيانة عظمي، بينما تعلن لنخبة الحاكمة عزمها علي إبقاء كل شيء كما هو، من أجل رد المؤامرة الأميركية علي الوطن، مع أن السوريين يعرفون أن نظامهم يحمّل بلدهم أزمة وطنية، وأزمة غربة عن العصر، وأزمة استبداد في الداخل وتخبط في الخارج، ويخشون أن يؤدي تمسك النظام بأوضاعه الراهنة إلي جعل هذه الأزمات من طبيعة مستعصية.تتمسك النخبة الحاكمة بوضع يعمق أزمات النظام القديمة وينتج أزمات جديدة تدفعه أكثر فأكثر إلي الهاوية، جسدها في الآونة الأخيرة انتحار اللواء غازي كنعان وانشقاق نائب الرئيس عبد الحليم خدام، وكانا كلاهما من أقدم ممثلي النظام وأكثرهم تمسكا به ودفاعا عنه.ولعله ليس من المبالغة القول: إن أخطر أزمة يتعرض لها النظام اليوم تتجلي في ضعف نواته القيادية وتقادم سياساته وتراجع قدرته علي التحكم بذاته وبمجتمعه، وانتقال الأزمات التي خلقها كي يضبط بها المجتمع إلي داخله، في ظرف يتسم بإفلاس أيديولوجيته وتقلص وانهيار شرعيته، وتحول عيوبه إلي أمراض متفاقمة، لا أمل له في الشفاء منها عن طريق الوصفات، التي لطالما أدار بها مشكلاته أو تعايش معها.إن من يدفع ثمن الأزمات من وعد الإصلاح الفاشل فصاعدا هو النظام، وهذا جديد أزمة النخبة، وجديد سورية، الذاهبة نحو وضع جديد تعمل النخبة الحاكمة المستحيل لتصعيب وصولها إليه ومنعها من بلوغه، لكن قدرتها علي ذلك تتناقص يوما بعد يوم، بينما تتزايد عوامل الاضطراب والتفسخ في صفوفها، وتعاني مما كانت قد نجحت في تعريض المعارضة له إلي الأمس القريب: الانقسام والعجز والضعف.مع أوائل السبعينيات كانت الصورة هي التالية: عالم حزبي/ شمولي يبرز وعالم ديمقراطي/ مجتمعي يموت. واليوم، تنعكس الآية تتقدم معادلة بديلة تتجلي في بروز وتوطد عالم مجتمعي/ ديمقراطي، وفي أفول وموت عالم حزبي ـ بعثي/ شمولي، تقتله وتموت معه النخبة الحاكمة، التي لعبت دورا حاسما في تغيبه عن الوعي، ثم في موته الوظيفي، الذي يتحول بسرعة إلي موت سريري.نخبة ثقافية تصعد: وهي بالأصح تتشكل وتصعد بطريقة مغايرة للطريقة التي تشكلت وصعدت بها النخبة الحاكمة الحالية، التي احتوت المجتمع، بعد أن وضعت يدها علي الدولة، وسلطنتها وأضفت طابعا خاصا وضيقا عليها، له سمات شخصية وحزبية، ودمرت المجتمع السياسي بحجة أنه قديم وأقامت عوضا عنه مجتمعا جديدا قام علي نفي الحرية وحقوق الإنسان والمواطن، وعلي وضع تطلعات الشعب بعضها في مواجهة بعض، بحيث ألغت الاشتراكية القومية، وأبطلت الحرية الاشتراكية، وتناقضت القومية معهما، وجعلت الشعب عدوا داخليا خطيرا كتمت أنفاسه، بحجة أنه لا يجوز أن يؤتمن علي وطنه قبل ترقيته ثوريا، عبر تقييده بقيود متنوعة وصارمة من الأحكام العرفية وحالة الطواريء والمحاكم الاستثنائية، ومراقبته عبر أجهزة سرية تمسك بالسلطة وتجسدها، وإن بدا أن خيوطها تتركز بين يدي فرد يجلس وحيدا علي قمة هرم الحكم.تري النخبة الثقافية الجديدة نفسها بدلالات تختلف جذريا عن دلالات ومرجعية النخبة الحاكمة، فهي لا تريد التحول إلي نخبة حاكمة ومالكة، وتعمل لإقامة حقل سياسي تعددي، أساس الدولة والمجتمع فيه واحد: الإنسان بوصفه ذاتا حرة وجديرة بالحرية بغض النظر عن تعييناتها الموضوعية، كما قال أرسطو. وهي تري نفسها بدلالة مجتمعها وحريته، والنظام الديمقراطي الضروري لإدارته، ولا تري نفسها بدلالة مصالح خاصة تضعها فوق مصالح العامة ومصالح الدولة العليا.إلي هذا، إنها لا تعمل انطلاقا من رغبتها في امتيازات، بل تعمل كي لا تكون هناك نخب مميزة أو امتيازية منفصلة عن المجتمع ومستقلة عنه، تعطي نفسها حق قيادته إلي حيث تريد، باسم مثل عليا وأهداف تدعي أن لها وحدها حق تفسيرها وتحقيقها في الواقع، كما فعلت نخبة العسكر الحاكمة في سورية. وتناضل النخبة الثقافية الجديدة من أجل إنهاء طابع العمل العام الأقلوي، ولوضع حد لمزاعم النخب، التي جعلت منها في الماضي طليعة مزعومة، ومكنتها من الوصول إلي الحكم باسم الشعب، الذي ما لبثت أن استخدمت سلطتها ضده.هذه النخبة الثقافية، التي تري في الثقافة نقطة ضعف المشروع السلطوي القائم، ونقطة قوة مشروع النهضة البديل، تريد للأخير الانطلاق من حقل ثقافي يختلف أشد الاختلاف عن الأيديولوجيا القومية/ الاشتراكية الشمولية، التي خرج منها مشروع البعث، لأنها مرت تاريخيا بجميع مراحل هذا المشروع، كما عرفت وعايشت المشروع الليبرالي الضعيف السابق له، ودرست المشروع الإسلامي، الذي كان أول من فشل في التصدي للغزوة الاستعمارية الأوروبية، فهي ليست منقطعة أذن عن التاريخ والواقع العربي/ الإسلامي، بل هي ابنته الشرعية، التي عرفت تفاصيله وروافعه، وعانت كثيرا بسبب إخفاقه، لا سيما وأنها شاركت في إطلاقه وعجزت عن حمايته من قوي الاستبداد والتفرد، التي انبثقت منه ، وتجد نفسها اليوم أمام واقع جديد له حاجات جديدة ويتطلب نمطا مختلفا من الثقافة، دون أن يعني هذا تخليها عن أهداف النهضة العربية التاريخية، وخاصة منها هدف الوحدة العربية، وقهر الصهيونية، وطرد الغزاة والمحتلين الأجانب من أرض العرب، وإقامة حكم الشعب بيد الشعب ولصالحه، وتحقيق العدالة الاجتماعية.هذه النخبة، التي تري في الديمقراطية منطلق ومآل الإحياء المجتمعي والسياسي، تعتقد أن المجتمع يجب أن يكون مستقلا نسبيا عن حقل السياسة، ليس فقط لأنه أساسه وحامله، بل لأن له مصالح تختلف عن مصالحه في جوانب معينة، وعليه أن يتمكن من التعبير عنها وتحقيقها، بالنظر إلي أولويتها بالمقارنة مع أية مصالح أخري تقع في مجال الدولة، وخاصة منها مصالح السلطة ومن يمسكون بها، وإلا استحالت بغير هذا ممارسة السياسة الحديثة، وجافت الديمقراطية معناها الحقيقي، الذي لا يجعل منها خيارا سياسيا وحسب، بل طريقة عيش وتفكير وتواصل، تترتب علي نشاط سائر الفاعلين في الحقول الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، أكانوا داخل السلطة أم خارجها، الذين يتساوون أمام القانون وفي الواقع، ولهم الحق في لعب أوسع الأدوار علي سائر الأصعدة.ومع أن تشكل هذه النخبة ما زال عملية قائمة علي قدم وساق، فإن ما تواجهه من مصاعب منذ أربعين عاما ونيف لم يفت في ساعدها أو يوهن عزيمتها، علما بأن مشكلاتها لا تقتصر علي السلطة، بل تمتد إلي المعارضة، التي تتبني مثلها الديمقراطية، لكنها تعاني من جمود يدفعها إلي شد النخبة الجديدة، المرنة والقوية الحراك، إلي الوراء، خشية أن تنتزع منها العدد القليل من أتباعها، والجمهور الذي يمكن أن يلتف ذات يوم حولها، بينما تري السلطة فيها خصما يقاتلها في أضعف جبهاتها، الجبهة الأيديولوجية والثقافية/ المعرفية، يعرف كيف يكشف عوراتها ونقاط ضعفها ومناحي عجزها وإفلاسها، ويستغل الهوة التي تفصلها عن الشعب، ويقدم البدائل اللازمة لخروج المجتمع والدولة والسلطة والمواطن من مآزقهم، دون أن يكون لدي النخبة الحاكمة رد مقنع عليه غير القمع والملاحقة والاضطهاد، ولكن ضمن ظروف متغيرة، تعزز أكثر فأكثر فاعلية خطاب النخبة الصاعدة وتثلم أكثر فأكثر ما بقي من شرعية قليلة جدا لخطاب الحكام. تدرك النخبة الثقافية الصاعدة أن مهمتها تكمن في تأسيس ثقافة تمهد أرض العقل وتحرثها، وتستطيع احتضان مشروع سياسي تاريخي من نمط جديد، تعلم أنه سيكون ضربا من المحال، إذا لم يكسب عقول وقلوب بنات وأبناء الشعب عموما والطبقة الوسطي خصوصا، ولم ينجح في دفعهم إلي قراءة الواقع بطريقة صحيحة، وفي إقناعهم بأن جديده لن ينطلق إلا من جديد فكرهم ومعرفتهم ووعيهم، وأن أمة العرب بحاجة إلي عقل وفكر كل مواطن كي تخرج من بؤسها، وأن إطلاق حراك تاريخي جديد في العالم العربي يتوقف علي ما تقدمه هذه النخبة الثقافية من أفكار ومعارف ورؤي تستطيع بث الحيوية فيه، وتحويله إلي حامل تحرره ، الذي يريد إنجازه بقدراته وجهده المباشر.تقف سورية، كوطنها العربي، أمام منعطف تاريخي خطير، يترتب علي موت عالم وتشكل وصعود عالم بديل، وموت نخبة حاكمة وصعود وارتقاء نخبة ثقافية لا تريد شيئا لنفسها، وتريد كل شيء لمجتمعها وأمتها، علمتها الخبرة أن التحرر محال بقوة النخب وحدها، وأن وعده ينقلب إلي أكاذيب واضطهاد وقمع وتدهور وانحطاط، إن بقي في إطار نخبوي أو اقتصر عليه، وأنه يصير ممكنا وحقيقيا وملموسا في إطار أمة تنشد حريتها وتحمل لواءها وتضحي من أجلها.ہ كاتب وسياسي من سورية9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية