سورية: علم مظلوم!

حجم الخط
0

سورية: علم مظلوم!

ميشيل كيلوسورية: علم مظلوم!ربما كان العلم السوري أحد أكثر رموز الوطنية تعرضا للظلم في سنوات السياسة السورية الأربعين المنصرمة، التي عومل خلالها باحتقار شنيع، تجلي في اختفائه وبروز علم آخر هو علم البعث، مثلما تبدي في استبدال النشيد الوطني بنشيد البعث، حتي أن المواطن نسي علمه ونشيد بلاده الوطني فيما نسي، ونشأت أجيال لا تعرف ألوان علم لبلادها وكلمات نشيدها. ذهبت ذات يوم إلي مصيف سوري يقع المنزل الذي حللت به قبالة قيادة الشرطة فيه. لاحظت وأنا علي شرفة المنزل أن العلم فوق المركز يشبه خرق تنظيف الأرض، المسماة مّساحة في اللسان الشعبي، وأنه ممزق وبلا لون، وأنه لا يخفق علي السارية بل يدور حولها، لأنه ببساطة قطعة قماش بالية وقذرة مضي علي ربطها بالسارية زمن طويل، نسيها خلاله رجال الشرطة، الذين يبدو أنهم فقدوا منذ وقت طويل عادة رفع العلم في الصباح وتحيته بكل ما يستحق من احترام وتوقير. قصدت المخفر طالبا مقابلة الضابط المسؤول. بعد أكثر من استنطاق عن حاجتي عنده، سمح لي بالدخول علي مقدم يجلس وراء طاولة هائلة عليها هواتف كثيرة، وقد وضع يديه أمامه كمن يستعد لاستجواب مواطن مسكين. حييته فرد همسا وباقتضاب ما افترضت أنه الرد، ثم سألني: نعم، شو بدك. قلت: العلم. قال: أي علم: قلت: الذي علي السارية، هل هو علم سوري؟ رد بصوت مستفز: وأنت ما دخلك في الأمر، سواء كان علما سورية أم أمريكيا؟. قلت: دخلني جدا، هذا علم بلادي ورمزها، وأريده أن يكون بكامل حجمه ونظيفا، ليستطيع أن يخفق مزهوا بنفسه. لقد أقلقني أمره عندما رأيته البارحة واليوم، وعرفت أنكم نسيتموه طيلة ربما عشرة أعوام، بينما العلم الأمريكي يخفق نظيفا وبكامل مساحته علي سيارات أبناء المسؤولين وشركائهم من تجار اللاذقية وحلب، الذين يفردونه علي مقدمات سياراتهم، ويربطون به رؤوسهم وهم يتسابقون ويزعجون الناس في شارع المصيف الوحيد. لا حاجة لسرد مزيد من تفاصيل اللقاء، فقد طردني بجفاء بعد أن اتهمني بالمزايدة علي وطنية رجال الأمن والقانون، الذين يضحون بحياتهم في سبيل أمثالي، وقال إن العلم يتغير في مواعيد دورية، وأنني يجب أن لا أدس أنفي في ما لا يعنيني، خاصة وأنه لن يسمح لي بالقول: إن جماعة العلم الأمريكي من بنات وأبناء المسؤولين والتجار. خرجت تتقدمني صورة خيالية للأطفال المائة في مدرستي الصفصافة وحصان بيت خضور الابتدائيتين أواخر الأربعينيات، ثم لتلامذة مدرسة جبلة الإعدادية الأربعمائة أوائل الخمسينيات، وتلامذة مدرسة التجهيز فجول جمال الثانوية السبعمائة في اللاذقية وهم يشكلون كل صباح طوابير منظمة أثناء رفع العلم السوري علي سارية أمام مدخل الصفوف في باحة المدرسة الداخلية الواسعة. كان علما نظيفا، يأتي به الموجه مطويا، وحين يربطه بحبل مشدود إلي سارية ويفرده بحركة رشيقة تدعوه للارتفاع والخفقان في الأعالي، نتابعه نحن التلامذة برفع رؤوسنا معه وإطلاق حناجرنا الفتية بنشيد الوطن: حماة الديار عليكم سلام. شعرت بالحزن وأنا أقارن الماضي بالحاضر. وتحول الحزن إلي مرارة، عندما تذكرت تعميما أصدرته جهة رسمية جدا يوم 18 نيسان من أحد الأعوام، يقول: فاتنا البارحة أن نذكركم أن السابع عشر من نيسان هو يوم الجلاء. لتدارك الأمر وتنظيم بعض الاحتفالات… الخ. برق عندئذ في ذهني سؤال: هل بهدلة العلم وعيد الجلاء والنشيد الوطني ورموز التاريخ السوري الحديث سياسة مقصودة؟ وهل كلام مدير الناحية صحيح حول وجود عقوبات لمن يذكر بها أو يطالب باحترامها؟ لقد غاب تاريخ هذا الوطن وراء تاريخ نظام مسحه مسحا منظما ومتعمدا، أراد أن لا يكون لسورية غير تاريخ واحد هو تاريخه، فحمّل الوطن أسماء بعض قادته، كأن الأوطان يمكن ـ أو تقبل ـ أن تنسب إلي أشخاص، وكأن القادة الحقيقيين يرفضون الانتساب إلي أوطان لا تحمل اسمهم!. … وأخيرا، وبعد طول إهمال، تذكر النظام أن الوطن ليس مجرد قطر، وأن اسمه سورية، وأن له علما ونشيدا وطنيين. هكذا، امتلأت فجأة واجهات بيوت تقع علي شوارع رئيسية بأعلام سورية، وترددت أصداء النشيد الوطني في بعض الساحات، واختفي علما البعث ونشيده، رغم الدلالة الرمزية المهمة لاختفائهما، وقول مواطنين كثر بوجود تضاد بين علم سورية وعلم البعث والنشيد السوري ونشيد البعث، يؤدي إلي غياب أحدهما بمجرد حضور الآخر، واستنتاجهم أن الرجوع إلي سورية والتذكير برموزها هو بداية نهاية البعث ورموزه، مع أن العلم أعيد إلي مكانه في سياق محدد يساوي بين النظام والوطن، وأعيد إلي الواجهة بوصفه علم النظام لا الوطن، وأن إعادته كانت بقصد استخدامه بطريقة تبعده عن وظيفته الأصلية كرمز وطني، فبينما كان تجاهله يؤكد في الماضي انتماءه إلي مرحلة انقضت، يعني تبنيه اليوم أن الوطن نفسه لم يعد موجودا، وأن النظام حل محله وتماهي معه بالكامل، وفي هذا ما فيه من إهانة له واستغلال لرموزه لغير الغرض الأصلي منها، فالقصد الأصلي من العلم أن يكون لوطن، والقصد من سلوك النظام الأخير تجاهه أن لا يكون له، بل للنظام الذي ابتلعه وأخذ مكانه، وصار وجوده رهنا به وحده.ثمة تشوه خطير يشوب علاقة النظام بالوطن ورموزه، بدأ مع أواسط الستينيات واستمر بأشكال مختلفة إلي اليوم، جعل النظام أكثر أهمية من الوطن في الحقبة الماضية، وألغي الوطن لمصلحته في الحقبة الراهنة، تأكيدا علي علاقة التنافي بينهما، المثبتة والتي لا تحتاج إلي تأكيد أو برهان، بدلالة مواقف النظام من داخله، ومن حرية وحقوق مواطنيه. يعود العلم إلي مكانه، بكامل جسده وبهائه، ليحجب هذه المرة حقيقة خطيرة هي ابتلاع النظام للوطن. لكن العلم لن يلعب هذا الدور، لمصلحة أي نظام، وستبقي له رمزيته وكرامته، إذا ما قرر السوريون جعله رفيقا دائما لهم، ورفعوه علي شرفات منازلهم، وعرفوا بناتهم وأبناءهم بتاريخه وبالتضحيات التي بذلها الشعب في سبيله، وبما كان له من مكانة في نفوسهم، في مختلف مراحل تاريخهم الحديث. إن علم سورية المظلوم أمانة في عنق شعبها الحي. فليحفظ الشعب أمانة ارتبطت بها كرامته واقترن استقلاله، وليبق علمه خفاقا كي لا يغيب وراء أعلام مزيفة، ويغيب معه الوطن وراء نظام يستهتر بعلمه لأنه يستهتر بوجوده!.9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية