نشأ الكيان السياسي الحديث المسمى «الجمهورية السورية» عام 1932، وجرى ذلك تحت الانتداب الفرنسي الذي دخل البلاد عام 1918 ففصل جغرافيتها بعنف عن محيطها المعروف سابقا ببلاد الشام.
كانت بلاد الشام، كما هو معلوم، وعاصمتها دمشق، مركز الإمبراطورية الأموية الواسعة لمدة تقارب 90 عاما، انتقلت السلطة بعدها نحو العراق، مع الخلافة العباسية، لقرابة 500 سنة، ثم نحو مصر، لقرابة 700 سنة، وخلالهما كان ما يسمى سوريا جزءا من جغرافيا عربية مفتوحة.
أظهر تاريخ سوريا الحديث آثار هذا التاريخ المديد بشكل دراميّ، اختصرته أدبيات السياسة بظاهرة ما يسمى «الصراع على سوريا» فمقابل الطموح الذي أظهرته نخبها السياسية لتكون مركز الحركة القومية العربية منذ بداية القرن العشرين، فإن ما حصل أنها كانت محور الصراع بين الغرب والاتحاد السوفييتي، كما في قلب الصراع للسيطرة عليها بين العراق ومصر.
كانت هزيمة «الجيوش» العربية في فلسطين عام 1948 عتلة كبرى للتغيير في سوريا، فقام الجيش بعدها بعام بالإطاحة بنظام الحكم القائم مما أعطى نموذجا يحتذى للانقلابات العسكرية اللاحقة في المنطقة، لكن تلك الانقلابات حملت أيضا طابع الصراع على سوريا من حيث تدخّلات العراق ومصر فيها، فانطبعت في السنوات اللاحقة اندفاعات العسكر والساسة المدنيين والأحزاب إما شرقا وجنوبا في اتجاه العراق الهاشمي (الذي كان ملكه الأول فيصل قد توّج قبلها ملكا في سوريا قبل طرده من قبل الفرنسيين) أو غربا في اتجاه مصر، مما تجسد لاحقا بوحدة «الإقليمين» تحت ظل جمال عبد الناصر عام 1958 ـ 1961.
نفّذ الانقلاب الذي قام به ضباط محسوبون على حزب «البعث» و«الناصريين» عام 1963 تحت مزعم محاربة «الانفصاليين» وإعادة الوحدة مع مصر، لكن الصراعات الداخلية بين ضباطه أفضت إلى انقلاب لاحق، عام 1966، ثم هزيمة جديدة مع إسرائيل عام 1967، تبعها انقلاب عام 1970 حيث أحكم وزير الدفاع حينها، حافظ الأسد، قبضته على السلطة، وبدأ مشروعا خاصا تابع رفع الشعارات القومية لكنه عادى العراق، الذي كان يحكمه حزب «البعث» نفسه، كما أبعد نفسه عن عبد الناصر، ثم تقارب مع أنور السادات خلال حرب 1973، ثم افترق طريقاهما فبقيت سوريا تحت الغطاء السوفييتي (ثم الروسي) لكنها تحوّلت إلى دكتاتورية عائلية، واتجهت مصر إلى أمريكا والغرب، لكن الجيش بقي يدير سياساتها.
أدى الحكم العسكري ـ العائلي في سوريا إلى ثورة اجتماعية وسياسية هائلة عام 2011، وأنتج استقدام النظام لقوى خارجية، روسية وإيرانية لقمع هذه الثورة إلى تدخّلات دولية وإقليمية معاكسة، فتفتت البلاد إلى أربعة أقسام، وها نحن نرى، خلال الأيام الأخيرة، فصلا جديدا من الصراع الدولي ـ الإقليمي الذي يملأ الفراغ الذي شكّله انعدام معنى الدولة السورية، التي تحوّلت إلى نظام، ثم انمسخت إلى بقعة جغرافية معدومة السيادة محكومة بميليشيات وعصابات اقتصادها قائم على المخدرات والتهريب والأتاوات والتعذيب والرشاوى.
غير أن وضع، سوريا، على أي حال، ليس إلا الأسوأ بين دول عربية متهالكة ضعيفة، فمصر التي كانت مركز أحلام العرب بالنهضة والقوة والتصنيع والحداثة، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، آلت إلى الحال الذي نشهد آثاره في غزة، وفي السماح بمرور السلاح لإسرائيل، والعراق، التي كانت تنافسها على القرار العربي، صارت أيضا بلدا منقوص السيادة، تتناهشه أحزاب طائفية تتقاتل على سرقة مصادر الثروة.
بعد أن فشل حلم القوميين بالوحدة السورية مع العراق ومصر، وانمسخ طموح الدولة السورية في ظل الدكتاتور إلى مشروع توريث عائلي بائس، نشأ فراغ هائل ملأته أمريكا، باحتلال العراق وأجزاء من سوريا، وروسيا بالمشاركة في احتلال سوريا، وبرز الدور الإيراني الذي استغل اضطهاد الدول العربية لشيعتها، كما برز النموذج التركيّ الذي يجمع الأصالة الإسلامية، مع الديمقراطية والحداثة الغربية.
ضمن السياق التاريخي العريض، وبعد أن كان العراق ومصر القطبين الجاذبين المتنافسين على الاتحاد مع سوريا، صار طبيعيا تنافس إيران وتركيا على ملء الفراغ، ومع حسبان ارتفاع جبروت إسرائيل في المنطقة، والتنافس العربيّ على إرضاء حكومتها الإبادية، صارت سوريا مرآة للتهافت العربي والتعبير الأمثل عن هبوط تاريخي آخرته غير معلومة.