زيارة السيد الفيلسوف

حجم الخط
0

زيارة السيد الفيلسوف

خيري منصورزيارة السيد الفيلسوفخطرت ببالي ثلاثة عناوين ممثلة لزيارة السيد الفيلسوف، علي اختلاف المحمول الثقافي في كل منها، زيارة السيدة العجوز لفردريش دورنمات، التي تحولت إلي فيلم عربي بعد تمصيرها ضمن موجة ازدهرت في ستينيات القرن الماضي لتعريب وتمصير وتعريف المسرح العالمي، و زيارة السيد الرئيس ، وهو عنوان لفيلم كوميدي تدور أحداثه حول انتظار الفلاحين لزيارة الرئيس الأمريكي المحمل بالهدايا والمعونات، وأخيرا زيارة السيدة السومرية للشاعر حسب الشيخ جعفر، وهو عنوان مجموعة شعرية تنسب إليها ريادة ما يسمي التدوير في القصيدة العربية الحديثة، وتستلهم الأسطورة بحيث تتجلي السيدة السومرية في عدة صور. تلك الزيارات الثلاث يباعد بينها التاريخ وأحيانا الفكرة، وما من قاسم مشترك بينها غير ترقب القادم، سواء كان من المجهول الشعري أو من التاريخ والأسطورة، لكن زيارة السيد الفيلسوف هي باختصار زيارة جان بول سارتر لمصر عام 1967 وقبيل حرب حزيران (يونيو)، ورغم أنني كنت طالبا بجامعة القاهرة في تلك الأيام وأتيح لي أن أحضر الندوة التي استضافت سارتر إلا أن ما سمعته مؤخرا وبعد عدة عقود عن تلك الزيارة أثار دهشتي بأثر رجعي، فكل ما كنا نعرفه عنها أن مثقفا مصريا نظم الزيارة بالاتفاق مع جريدة الأهرام، وأن سيمون دي بوفوار وكلود لانزمان قد صحبا الفيلسوف في تلك الزيارة التي تمت لأسباب تراجيدية ثم تحولت إلي فيلم كوميدي، فما رواه الدكتور محمد أبو الغار الأستاذ في كلية الطب والناشط المعروف عن زيارة سارتر لمصر ومن ثم إلي غزة عام 1967 قد لا يخطر ببال أحد علي الإطلاق.يقول.. إن الجهة الداعية لسارتر حددت له يوما لزيارة قرية كمشيش التي وقعت فيها أحداث عنف ضد الفلاحين بعد ثورة تموز (يوليو) وبالفعل وصل الفيلسوف إلي القرية ليجد حشدا من الفلاحين بانتظاره، وأكثرهم لم يكن يعرف من هو الزائر الكبير ولكنهم كانوا ينتظرون الولائم وتوزيع الهدايا والأطعمة بالمناسبة، لهذا هتفوا للفيلسوف كما يهتفون لزعيم سياسي ورفعوا الشعارات ذاتها.وحسب رواية د. أبو الغار فإن الاتحاد الاشتراكي تولي لعدة أسابيع تدريب شبان وشابات من تلك القرية علي طقوس الاستقبال، وإن كان بعض هؤلاء قد اختيروا لكي يسألوا الفيلسوف أسئلة لا يحلم بأن يتعرض لها في قرية عربية، ومنها العلاقة بين مسرحية الذباب .. وكتاب الوجود والعدم!و قد أصيب سارتر فور وصوله إلي القرية بصدمة لم يتهيأ لها، ولم يخطر بباله أنه كان علي موعد معها، لهذا لم يمكث طويلا في القرية وغادرها إلي حيث يقيم في القاهرة استعدادا لاستئناف الزيارة إلي غزة..وفي غزة حدث ما لا يقل كوميدية عما حدث في كمشيش فقد أعد للزيارة شبان وشابات فلسطينيون حفظوا عن ظهر قلب ما سيقولونه للزائر.. وكان بين هؤلاء عجوز مغرورق العينين ينظر في أسي وحنين إلي ما وراء الحدود..ہہہفي فيلم زيارة السيد الرئيس الذي قام ببطولته محمود عبد العزيز، يسمع الناس في القرية التي تم اختيارها كمحطة لزيارة الرئيس الأمريكي أن الزائر سيقدم المعونات والهدايا للنساء الحوامل، بهذا يسرح الرجال إلي بيوتهم لإنجاز هذه المهمة، ومن لم تسعفه صحته أو شيخوخته استعان بطبيب القرية ولكي تكتمل الدائرة الكوميدية لم يصل الرئيس إلي القرية، وأصبح مثل الإله غودو في مسرحية بيكيت، يأتي ولا يأتي، وإن كانت حياة الناس كلها قد تخلخلت وانقلبت بانتظاره..زيارة الفيلسوف رغم ما أحاط بها من أجواء كوميدية تمت، لكنها لم تتم أيضا، لأن الرجل لم يفهم ما أحيط به من رعاية وما سمعه من ضجيج وما شاهده من يافطات تحمل شعارات غامضة بالنسبة إليه.. ولا شك في أن كلود لانزمان همس بأذن صاحبه شيئا ما.. ثم تولي تحريضه علي من استضافوه، خصوصا بعد أن التقي عبد الناصر علي هامش الزيارة وربما كانت الزيارة كلها علي هامش ذلك اللقاء!عاد الفيلسوف من تلك الزيارة إلي باريس وقد قرر أن يكرس عددا من مجلة الأزمنة الحديثة التي كان يترأس تحريرها فرانسيس جانسون عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وانتهي الأمر إلي سجال غير متكافئ بين مثقفين يهود استعدوا جيدا لهذه المعركة وبين مثقفين عرب اعتمدوا كالعادة علي الموهبة وما امتازوا به من الحديث في كل شيء وفي كل مقام ومقال.. ثم شاع في أوساط المثقفين العرب أن سارتر قد أدار ظهره لمخيمات الفلسطينيين، وانحاز لإسرائيل بعد حرب حزيران (يونيو).وبدأت بعد ذلك حملة المقالات الهجائية للضيف العامد، وللمفكر الذي أصابه العمي كما رأي بعض المتحمسين، وسرعان ما طوي هذا الملف لأن ما أعقبه كان أغزر مما سبق، ولم يفطن المثقفون العرب لسارتر الذي ترجموه حتي النخاع وترجموا سعاله ودخان سجائره في الكافي دي فلور إلا بعد أن جاء جان جينيه إلي بلادهم وزار الفدائيين، وكتب عنهم نصا مبدعا ترجمه إلي العربية الشاعر كاظم جهاد!ہہہفي زيارة السيدة العجوز لدورنمات يتهيأ أهل القرية التي خرجت منها تلك المرأة فقيرة وطريدة وعادت إليها ثرية لاستقبالها بحفاوة تليق برسول، ما دامت قد وعدت أهل بلدتها رغم الجور الذي لقيته منهم أن تنقلهم من الجحيم إلي الفردوس، وكأنها المعجزة التي تشفي الأبرص وتحقق وصال المحرومين، ولم يدر بخلد هؤلاء المساكين أن السيدة جاءت لتنتقم، ولكي تتلذذ بجوعهم بعد أن تسيل لعابهم علي وعودها. بالطبع لم يأت الفيلسوف إلي كمشيش أو غزة لينتقم أو يتلذذ بمشهد الخيام وتجاعيد الوجوه المنعمة بالشقاء.. لكن الطريقة التي عومل بها كانت سببا كافيا لإحداث رد فعل غير محسوب من قبل.ورغم كونه اشتراكيا بهذا القدر أو ذك إلا أنه طالما ضاق ذرعا بالتشكل الأيديولوجي لما سماه الاشتراكية الوافدة من الصقيع، وما اتخذه من مواقف بعد الغزو الروسي لبراغ في ربيعها الأسود!ولعله شاهد في الكيفية التي لقن بها الفلاحون ما ذكره بتلك الفوبيا الكولوخوزية فكان موقفه السياسي لاحقا مشوبا بمزاج وجودي يتطير من القطعنة ومن الأدبيات الشعارية، ومن كون الناس حسب تعبيره ومصطلحه الوجودي الأثير: سواهم، أي عندما يغتربون عن أنفسهم ويكونون أشخاصا آخرين.فالفلسفة الوجودية في بعدها السارتري علي الأقل جهرت بمضادات التقمص، وتمثيل الأدوار، ومن حق أي كاتب او فيلسوف ان يتيح لنفسه فرصة المشاركة بين ما يراه فلسفيا وسايكولوجيا وبين ما يراه علي صعيد تاريخي.وهذا ليس بأي حال دفاعا عن موقف سارتر الذي ظهر التناقض فيه منذ كتب عن المسألة اليهودية متجاهلا البعد الاقتصادي للدراما اليهودية منذ الإمبراطورية الرومانية حتي الإمبراطورية البريطانية التي وعدت اليهود بالدولة.. وأنجزتها!لكن المثير بحق هو الكيفية التي يتعامل بها العرب مع مثقفي العالم، خصوصا هؤلاء الذين تسبقهم إلي الصحافة ودوائر الإعلام أنباء وآراء علي مواقفهم الإشكالية والملتبسة.فالأسلوب الذي تعامل به العرب مع محنة روجيه غارودي بعد صدور كتابه الشهير عن أعمدة الخرافة السبعة في الأيديولوجيا اليهودية يصلح عينة أخري لكوميديا من طرز مغاير.. ومن هللوا لغارودي وفرحوا بإعلانه الإسلام تناسوا أن العرب والمسلمين كانوا وما يزالون بحاجة إليه مسيحيا و فرنسيا ، وتلك حكاية اخري لا نريد الاستطراد بها حتي التورط.ہہہلدينا من الأمثولات المشابهة لكوميديا زيارة الفيلسوف ما يكفي للجزم بأن العرب أنفقوا مالا وجهدا ووقتا للدفاع عن قضاياهم بنوايا قد تكون حسنة، لكن طريق جهنم المعبد بمثل هذه النوايا لم يكن خارج التضاريس التي ضلوا في شعابها المعرفية والسياسية، فأحيانا يكتشف المرء أن ما فعله كي ينجو قد تحول إلي سبب منطقي لغرقه، وقد يتحول الاحتجاج إلي قضية عادلة إلي احتجاج ضدها إذا كانت الوسائل والأدوات قد استخدمت بالمعكوس أو علي نحو خاطئ..وبعيدا عن تلك الكوميديا السارترية في زمن تراجيدي بامتياز تعالوا نتفحص معا نصوصا شعرية وغير شعرية كان محركها والوازع فيها الدفاع عن الحق والانتصاف للضحية المغلوبة علي أمرها..إن بعض هذه النصوص عندما ترجمت تحولت إلي مضادات فكرية ونفسية للقضية العادلة، لأنها تغذت علي التاريخ ولم تقدم له قيمة إبداعية أو حتي أخلاقية، فأحيانا يكون الصمت أبلغ ألف مرة من ثرثرة عقيمة، ينوب بها ندابون محترفون عن ضحية لم تشهد بعد، وقد تكون هذه مناسبة للاعتراف بأنني أصبت بالهلع لدي قراءة نص عبري عن مدينة فلسطينية، فقد كان وثيق الصلة بأسرارها، وعندما قرأت لكاتب النص تعليقا ساخرا علي حاييم بياليك الشاعر الصهيوني الذي تحدث عن مملكة ليست من هذه الأرض، تضاعف هلعي، وبدأت أحس أن الكتابة تفتضح شعورا ما بالاستحقاق، سواء كان تاريخيا أم وجوديا وسايكولوجيا!ہہہأنقول أخيرا ان هناك نصوصا عربية حاولت استلهام الصراع وتغذت من دينمياته.. هي أشبه باحتفال قرية كمشيش.. وهي تستقبل السيد الفيلسوف؟0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية