زفاف مدن ما بعد الحداثة الخليجية

حجم الخط
0

زفاف مدن ما بعد الحداثة الخليجية

د. علي محمد فخروزفاف مدن ما بعد الحداثة الخليجيةفي أي حقول تصرف فوائض عائدات البترول المالية الحالية؟ قسم ضخم منها يبدد علي بناء ما يعرف بمدن ما بعد الحداثة. وهذا يستوجب الشرح والتوضيح. فعبر القرون الثلاثة الماضية ارتبط تخطيط المدن بالنظام الاقتصادي.فمدن مرحلة الرأسمالية الأولي التي كانت تحكمها البضاعة المنتجة والمصنعة تختلف عن مدن مرحلة الرأسمالية الثانية المروجة للاستهلاك النهم للبضاعة والتي بدورها تختلف عن مدن مرحلة الرأسمالية الثالثة الحالية التي بدأت منذ سقوط جدار برلين والموصوفة برأسمالية الخيال والوهم (Fiction Capitalism) التي تركٍز علي الفرد نفسه لتسيطر علي أحاسيسه ونفسيته وعقله من خلال خلق حالة واقع ثانٍ خيالي وطفولي لا يمت بصلة لواقع الحياة الحقيقي ولكنه يقدمُ كبديل أفضل وأحسن وأرقي. مجتمعات الخليج، رسميه وخاصة، رفضت وعجزت عن الاندماج في رأسمالية منتجة صناعية ذاتية فقفزت كعادتها إلي آخر الصيحات الرأسمالية فتبنت أولاً رأسمالية الاستهلاك النًهم بصورة أقوي حتي من قلب تلك الرأسمالية في أمريكا وأوروبا، وكمية القمامة التي يلقيها الفرد الخليجي يومياً، والتي هي الأعلي في العالم، تشهد علي هذا التميُز والسًبق الخليجي في ممارسة تلك الرأسمالية الاستهلاكية وحرق كل مدُخرات حكوماته وأفراده في مظاهرها ومفاخراتها.وها أن الخليج المقلٍد ابداً، اللاهث وراء كل صرعة مادية حسيُة، يحاول أن يبزً مرة أخري مجتمعات الدنيا في تبنًيه وممارسته لما تطرحه الرأسمالية الجديدة. ولعلُ أفضل مثل علي هذا التبني المدهش المفجع هو التسابق في بناء أعداد هائلة من المجُمعات السكنية التجارية باهظة التكلفة وبالغة الإفراط في كل وسائل الترف. وهي كلها، وما يقام من بنية تحتيُة من أجلها، ستزفُ المدينة الخليجية الي عرس مدينة ما بعد الحداثة. أول ما يميز تلك المدن هي تلك المجمُعات السكنية التي لن تكون لها أية علاقة بالمدينة التي تحيط بها، لا بتاريخها ولا بسكانها أو بمشاكلها اليومية. فهي مجمعات ستسكنها جماعات متماثلة في الثروة وفي الذوق وفي الثقافة.فإذا كنت تستطيع أن تشتري بيتاً أو شقُة بمليون دولار أو أكثر فانك تستطيع الإنتماء الي المجمع وإلاً فاسكن في مكان ما في أرجاء المدينة خارج أسوار المجمع. والمجُمع سيغنيك عن الحاجة للمدينة: فهو سيضًم وسائل للتسوق وللأكل ولممارسة الرياضة وللتنزُه الهادئ في حدائق غنُاء ولتعليم الأولاد ولأماكن عمل إن شئت. وهو سيكون محروساً من قبل حُراس خاصٍين لا دخل لهم بشرطة المدينة ومن قبل أحدث الكاميرات التي ستتابع كل حركة في المجُمع. وخلافاً للأحياء البشرية المعتادة لن يستطيع أحد دخول تلك المجمُعات إلاُ إذا كان يحمل بطاقة خاصة ممغنطة. وسيحكم المجمعات نظام يتعلق بحركة السيارات وبالضوضاء وبأماكن لعب الأطفال بحيث أن إزعاجات المدينة ستنتهي ومناظر الفقراء والمتسولين المثيرة للإشمئزاز ستختفي.وإذا كان التماثل اليوم هو في الثروة فان بالإمكان أن يصبح في الغد تماثلاً في أمور أخري: مجمعات لجنسيات مُحددة، لأناس متقاربين في العمر، لعزاب، لمتقاعدين، لمثليين في العادات الجنسية، لعاملين في حقل تخصصي واحد الخ. من فذلكات عبثية.وما دام الخليج يفتح ذراعيه مرحباً بالعولمة وبكل متطلباتها فان تلك المجمُعات ستكون في الأساس، لا لأبناء المدينة، وإنما لجحافل السٍياحة والقادمين من وراء البحار الذين ينشدون المتعة والابتعاد عن آلام واقع الحياة ومصائبها.لكن مدن ما بعد الحداثة الخليجية لن تقف عند الهوس بوضع ثروات هائلة في مجمعات الأحلام والخيالات الجامحة، فبعضها سيشبه السكن في مدينة فينيسيا الإيطالية أو مدينة لوس فيجاس الصحراوية الامريكية أو باريس الفرنسية، وإنما سينتقل الحال إلي كل ما تبقي من مساحات مدن الخليج لإدخالها في متطلبات رأسماليتي الإستهلاك والوهم وهو ما سنفصٍله في مقال قادم. أما رأسمالية الإنتاج والصناعة والتكنولوجيا والزراعة والأبحاث المتطورة والبشر المنتجين الجديين فإنها ستترك للآخرين. بعبقرية الهلوسة هذه نعدُ لحقبة ما بعد البترول.9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية