رواية «فورور»: عن معطف وكمنجة من زمن مدننا الغابر

حجم الخط
0

المسعى الأساس الذي يُشغل صابر عفيف هو استعادة الفورور، الذي كان لأمّه. كان مساعد وزير الدفاع الروسي قد أهداه لها، هي «وحيدة جميل» التي كانت تعمل في كباريه مولان روج في بغداد. والهدية لن تلبث، في لحظة مصادفة عابرة، أن تنتقل إلى مريم فخر الدين إبان أدائها، مع عبد الحليم حافظ، بطولة فيلم «حكاية حب».
ثم يتابع «الفورور السوارية الشنشيلا البيج» رحلته متنقّلا بين نجمات ذلك الزمن، حاطّا على كتفي جيهان السادات، سيدة مصر الأولى، ثم في خزانة الشهبانو فرح ديبا بهلوي. كان الفورور الأثر الوحيد الباقي من الأم، نجمة كباريه المولان روج البغدادية، لذلك شكّل سعي ابنها لاسترداده معظم السياق السردي للرواية. الفورور هو « الجلد الثاني للأم، حسب التعريف بالرواية المثبت على غلافها الخلفي.
وهو رمز من ذلك الزمن، حلّ في مدن عدة هي بغداد والقاهرة وبيروت ولندن. زمن رومانسي، كما يقول ذلك التعريف، حيث ـ في تتابع أحداث الرواية ـ تحضر وجوه بينها، إضافة إلى من يتنقّل الفورور بينهن، مشاهير مثل فريد الأطرش وفيلمون وهبي، الذي كان أولهما قد التقى الأم الفنانة «وحيدة جميل» لقاء عابرا، وإن كان مفعما بالوعد والأمل، والثاني قد رعاها في طموحها الفني والحياتي وبقي حريصا على علاقته بها حتى وفاتها.
ما تحكيه الرواية هو إحياء ذاك الزمن الجميل، بالإلماح، إذ لم يبق منه خالدا إلا من كانوا من صانعيه الفنانين. ومن شخصيات ذاك الماضي، المتعلق بـ»صابر عفيف» وحده هذه المرة، هو خالة الراوي «بدرية» التي، انسجاما مع ما كانه ذلك الزمن، كانت تعمل عازفة على كمانها الذي أٌهديَ إليها من عازف أجنبي شهير. أما ثمن ذلك الكمان، حسبما يجري التداول حوله بين عارفين في مؤسسة كريستيز للمزادات، فيتعدّى عشرات الملايين، بل مئاتها. للكمان هذا موضع، أو حكاية، في مجرى الرواية أيضا. وهي حكاية إضافية ملحقة لا ترقى إلى ما أٌسند إلى الفورور الذي، لم يتوقف الكلام عنه وعن تاريخه. فريد الأطرش كان حضوره قليلا في الرواية، شأنه شأن أحداث وأمكنة بينها مولان روج بغداد وكازينو بيسين عاليه الواسع الشهرة آنذاك.
الرواية تستعيد ذلك الزمن كما هو ماثل، أو متخيّل، في ذاكرة «صابر عفيف». أما لكي يُعرف سرّ رومانسيته أو فتنته، فيعمد الراوي إلى مقارنته بزمنه الشخصي، هو الذي يعمل موظفا، بصفة مستشار أحيانا، في صالة كريستيز للمزاد على الأعمال الفنية. في تفاصيل ما نقرأ عما يعيشه «صابر عفيف» في مهنته نشهد على تحطيم السمعة لأحد من أهم مراكز الفنون في العالم، حيث كل شيء عليه أن يظهر باهرا. أما في قاعدته وفي تكوينه فهو مزيّف ومخادع. من ذلك مثلا أن الموظف «صابر عفيف» كانت من بين أدواره هناك ظهوره، بين عشرين آخرين، محمّسا عملية المزاد، برفع المبلغ المطروح عن الحدّ الذي كاد يتوقّف عنده.
الرواية هي وصف هجائي متواصل لأشهر صالات الفنّ. في الأعمال الفنية التي تقدّم للمزاد يلعب المال الدور الأول. أما تقييم تلك الأعمال فيجري غاضّا النظر عن قيمتها الإبداعية. وها هو «صابر عفيف» يشهد أنهم، هناك في كريستيز أو سوذبيذ أو في بونهامز فيصنعون التاريخ وفق مصالح مؤسّساتهم . يقول: «طوال سنوات خدمتي في كريستيز لم أسمع من أحدهم أي رأي فنّي، فكل الحوارات تصبّ في التحضيرات ودقّة تطابقا لنتائج مع التوقّعات، حتى عندما تُخمّن الأعمال فإن ذلك يتمّ بجوٍّ مادي، لأن أي لوحة تُعرض في المزاد هي ادّخار واستثمار».
أحد معلّمي «صابر عفيف»، وهو «سانتينو» الإيطالي (كما في الرواية) قال له إن «النقّاد الجائعين لا يقدرون على تقييم لوحة ما، لكنهم يظهرونها للناس كدجاجة فرنسية مشوية». أما في ما يتصل بهجاء رجلنا، أو بطلنا، للعلاقات الداخلية فنرى كيف أن المكائد جارية بين المسؤولين. هو نفسه أوقف عن عمله لأسباب لا تقع مسؤوليتها عليه، لكنه حقق ثروة من أعمال جانبية كان يقوم بها على هامش وظيفته، أو على مبعدة منها. لكنه قليل الاكتراث بما حصّله. ما رغب فيه، لفترة تقاعده، هو السفر إلى بلد آخر مع المرأة التي يحبّها، العازفة عن المظاهرالمفتعلة والراضية بالعيش القليل. في أحيان يشبّهها بأمه، حتى في شكلها الخارجي، رغم الاختلاف العميق في ما ترغب فيه الامرأتان.، حيث الأم طامحة إلى الشهرة والأضواء فيما الحبيبة عازفة عنهما.
يخطر للقارئ أن يتساءل على الدوام كيف أمكن صناعة رواية من عالمين يلعب التوهّم والتخيل دورا كبيرا في مقاربتها. ذاك أنه يرى أن حكاية الفورور مؤلّفة بالكامل، ومن دون أن يجهد الكاتب في إقناعنا بحقيقيتها. حياة الراوي «صابر عفيف» هي كذلك أيضا، تذكّر بين الحين والحين بأن حياة صاحبها مؤلّفة هي أيضا ومصنوعة صناعة، وذلك على غرار ما هي شخصيات أكثر الأعمال الروائية على كل حال. لكن ما تتميّز به رواية نزار عبد الستار هو أنها تظل مشعرة قارئها بأن عالمها هو كذلك، عالم حقيقي وغير قابل للتصديق في آن معا.
*رواية «فورور» للروائي نزار عبد الستّار صدرت عن دار نوفل في 183 صفحة- لسنة 2024 .

 كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية