القاهرة ـ «القدس العربي»: نشأت السينما المصرية في ظل السينما الأوروبية ـ الفرنسية خاصة ـ وكما المسرح والإذاعة، فقد كان الحوار هو أساس الأفلام، ناهيك عن الموضوعات المنقولة عن الغرب والبعيدة تماماً عن المجتمع المصري، وهو ما يُسمى بـ(التمصير) ـ ظاهرة لم تزل سائدة في السينما المصرية حتى الآن، وإن سُميت تهذيبا بالاقتباس، ولكنها سرقة في الأصل ـ وكانت بعيدة كل البُعد عن الواقع المصري، فكانت تصوّر بيئات لا يعرفها المصريون، حفلات راقصة، قصور البشوات، عالم الملاهي الليلية والبارات، قصص الحب الأرستقراطية، وحبكات بلهاء عن أخطاء غير مقصودة تفرّق بين الحبيبين، إضافة إلى ألاعيب القدر، ولا بد في النهاية من انتصار الخير على الشر. وكان للتراث المسرحي ـ السابق على السينما بالطبع ـ أكبر الأثر على الفيلم السينمائي وموضوعاته، حتى تم تحويل مسرحيات بأكملها إلى السينما، دون الاقتصار على الموضوعات، بل امتد إلى التكنيك. ولكن، أين الواقع المصري، وأين الشخصيات التي يمكن أن تتقارب والناس العاديين؟ هنا يأتي ما تعارف عليه بتيار (الواقعية) وكان له رواده، الذين كانوا وفق النشأة والظروف السياسية والاجتماعية أبلغ الأثر في تكوينهم النفسي والفني، وهم.. كمال سليم (1912 ــ 1946)، كامل التلمساني (1915 ــ 1972)، وصلاح أبو سيف (1915 ــ 1996).
ومن خلال «رواد الواقعية في السينما المصرية» الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة (آفاق السينما) للناقد والأكاديمي وليد سيف، يمكن رصد هذه التجارب، وتأثيرها على الأجيال اللاحقة من السينمائيين المصريين، وبالتالي الفيلم المصري ومدى تطوره من حيث الموضوعات والقضايا التي يناقشها، وكذا التقنيات السينمائية التي تطورت بدورها، دون الاقتصار على نسخ العمل المسرحي ونقله إلى الشاشة. وسنقتصر على سليم والتلمساني، نظراً لكثرة الدراسات والمقالات التي تناولت أعمال صلاح أبو سيف.
جيل النهضة المصرية
يُشير سيف في البداية إلى أن المخرجين الثلاثة ينتمون إلى جيل واحد، والأهم أن ذلك الميلاد جاء في ظل بدايات الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى معاصرتهم لأهم مراحل الحركة الوطنية المصرية، والتي بدأت بثورة 1919، وانتهت بمعاهدة 1936، وفي ظل تلك الفترة أيضاً شهدت مصر نهضة ونشاطا ثقافيا يُعد أساس النهضة المصرية، التي لم تتكرر في ما بعد، مهما حاول البعض الاستنساخ أو التلفيق. «هكذا نشأ الثلاثة في تلك الأجواء، وانضموا إلى التجمعات الثقافية ذات الطابع اليساري التي انتشرت في الثلاثينيات والأربعينيات، انشغل ثلاثتهم بالهم الاجتماعي، وسعوا للتعبير عن واقع البلاد كل بطريقته وأسلوبه، وفق ثقافته ورؤيته وخبراته الفنية والحياتية».
العزيمة
«لا داعي لأن ترى العالم الذي تعيش فيه، بل على العكس تطمح إلى رؤية الأوساط التي تجهلها. السيناريو المتقن يتكون من قصة حب تدور حول ثلاثة أو أربعة أشخاص في بلد جميل المناظر أو منازل بديعة، تتخلل القصة عقبات، سواء كانت طبيعية أو طارئة». (أحمد بدرخان. مجلة صباح الخير 1932). هذا الرأي أصبح يُشبه البيان الذي انتهجته السينما المصرية ولم تزل حتى الآن، خاصة في ظل فترات انحطاط سياسي واقتصادي.
وبعد 6 سنوات من بيان بدرخان، بدأ كمال سليم تصوير فيلم «العزيمة» في 1938، وعُرض في 1939 عام اندلاع الحرب العالمية الثانية. والملاحظة المهمة هنا بعيداً عن أجواء الحارة المصرية وشخصياتها الغريبة عن السينما المصرية وقتها، هي فكرة الحل من وجهة نظر الشخصية الرئيسية (سي محمد) الذي لولا اللجوء إلى (الباشا) لانهارت الحياة من حوله. يذكر سيف رأياً لافتاً فيقول.. «لجوء محمد إلى صديقه ابن الباشا يمثل حلاً فردياً، ولا يقدم حلاً لأبناء الطبقة كلهم، إلا من خلال الاعتماد على البشوات وكبار الرأسماليين.. الحقيقة أنه ومن منظور واقعي جداً لم يكن هناك حل متاح آخر في ظل ظروف ذلك العهد… وحيث كانت القوى السياسية الوطنية في غالبيتها تسعى للحصول على مكتسباتها عن طريق التفاوض».
السوق السوداء
يمكن أن يطلق على فيلم «السوق السوداء» 1945 لكامل التلمساني مُسمى (الواقعية الثورية)، خاصة وقد قدّم الفيلم الحلول الواقعية للأزمات الاجتماعية، متلافياً الحل الفردي ومفاوضات عزيمة كمال سليم، بالتركيز على حل جمعي، دون انتظار لأحد، فأخذ الحق بالقوة هو السبيل الوحيد.. «فالجماهير هي الأقدر على إحداث التغيير، بعيدا عن الحلول التوفيقية بين الفقراء والأرستقراطيين، التي لجأ إليها فيلم العزيمة». وهو ما يتسق وشخصية كامل التلمساني ورؤيته لدور الفن، وهو ما ظهر في كتاباته النقدية ولوحاته التشكيلية، وكذا الرؤية الفكرية، بالانتماء إلى جماعة (الفن والحرية)، وإسهاماته في مجلة «التطور»، لسان حال السرياليين المصريين.
سيما أونطة
ونختتم بموقف يذكره الفنان عماد حمدي بطل الفيلم يوم عرضه الأول، حيث كانت أول بطولة له على شاشة السينما، وهو ما يوضح وجهة نظر الجماهير المُغيّبة وتحالفها اللاشعوري مع السلطة.. «كان سقوط أول فيلم قمت بتمثيله فيلم السوق السوداء، بسبب التدخل السافر للرقابة، التي هلهلت الفيلم بالقص واللزق… أنا لم أعترف بسقوطه، بل أعترف بأنه عمل فني ممتاز، ما زلت أذكر ليلة العرض الأول، وما زالت ترن في أذني أصوات الجماهير الساخطة على الفيلم، التي وصل بها الأمر إلى التفتيش عن الممثلين والمخرج لضربهم وتأديبهم، وهي تصيح (سيما أونطة هاتوا فلوسنا)».