رغم الدمار: السينما الفلسطينية تواصل إبداعها في وجه الاحتلال

منذ إقامة حفل افتتاح الدورة الثامنة لمهرجان العودة السينمائي الفلسطيني، وتواتر الأنباء حول النجاح الذي تحقق لها في عدة دول عربية وأوروبية وبعض المناطق الفلسطينية، لم تهدأ عاصفة الهجوم الإسرائيلي على المُدن والقرى الفلسطينية المُحتلة، حيث مثلت حالة الثبات وعدم الاكتراث بما يحدث من جانب المُبدعين الفلسطينيين، نوعا من الاستفزاز لجنود الاحتلال، فسعوا إلى إحداث المزيد من التدمير والتخريب للبنية الأساسية الفلسطينية في العديد من المناطق.
وتركزت بطبيعة الحال عمليات الضرب والدمار في مدينة غزة، باعتبارها مسرح أحداث حفلي الافتتاح والختام لمهرجان العودة السينمائي، الذي تميز بالصفة الدولية، بعد مشاركة الكثير من الدول العربية، واهتمام دول أوروبا بالفعاليات وسعيها لإرسال أفلام لإدارة المهرجان قبل عدة شهور، نكاية بإسرائيل ودعماً للقضية الفلسطينية بعد التأكد من عدالتها السياسية والإنسانية، وأحقية فلسطين شعباً ودولة في الاستقلال، كأي دولة حرة لها السيادة على كامل أراضيها، وصاحبة الحق الوحيدة في إصدار القرارات المصيرية، دون تدخل من أي جهة أخرى، أو انصياع وخضوع لأي وصاية أجنبية.
لقد ساهمت التغطية الإعلامية الموسعة للنشاط السينمائي الاستثنائي، الذي امتد من غزة ووصل إلى مدينة طولكرم ومواصي خان يونس، وزاد امتداده إلى خارج المحيط المحلي فصار مُحتفى به في مدينة سيدني في استراليا والقاهرة في مصر ودول وعواصم المغرب العربي والبرازيل وتركيا وغيرها، حتى أصبحت أصداؤه ملء الآفاق الدولية والعالمية.
الأمر الذي آثار حفيظة الكيان الصهيوني، فلم يجد ما يفعله إزاء هذا الانتشار القوي غير هدم وحرق بيت المخرج الفلسطيني سعود مهنا مؤسس المهرجان ورئيسه، والقضاء التام على جميع محتويات مركز الذاكرة الفلسطينية، في مُلتقى ومقر الفيلم الفلسطيني الذي تأسس قبل نحو خمسة عشر عاماً وضم مجموعة مهمة من الأفلام التسجيلية والوثائقية والصور النادرة لكبار السينمائيين الفلسطينيين، في مناسبات فنية وثقافية عديدة.
لقد أتت نيران العدو الصهيوني على كل غال ونفيس في بيت سعود مهنا من مفروشات وقطع أثاث وتُحف وأوراق ومُستلزمات شخصية وتسجيلات نادرة سمعية وبصرية، حتى حديقة المنزل تم حرق أشجارها وثمارها بالكامل، قبل القيام بهدم البيت المكون من طابقين وتفجيره، وهو اللغز الذي أثار في الأذهان سؤالاً مهماً.. لماذا تم حرق البيت من الداخل بكل محتوياته أولاً قبل هدمه؟!
هذا السؤال الصعب أجاب عنه المخرج نفسه عبر اتصال تليفوني مع مراسل صحيفة «القدس العربي» في القاهرة، مؤكداً أن الهدف الأساسي من الحرق هو القضاء المُبرم والنهائي على الشرائط التي تحتوي على الذاكرة الفلسطينية بتواريخها وصورها الموثقة، ثم أعقب ذلك هدم المنزل لطمس أي معالم خاصة تتصل بوجود ملامح لمركز الذاكرة ومُقتنيات ومتعلقات تخص الإبداع الفلسطيني، كنوع من إخفاء الجريمة الشنعاء.
كما مثلت الهجمة الصهيونية التاتارية، حسب قول مهنا أيضاً، إنذاراً بعدم تكرار الاحتفالات السينمائية في غزة والامتناع نهائياً عن الاستمرار في إقامة مهرجان العودة، الذي أثار استفزاز قادة إسرائيل وجنودها بعد التركيز الإعلامي عليه من جانب وسائل الإعلام العربية والدولية، والتأثير الإيجابي الذي تحقق على المستوى السياسي والثقافي بتعاطف الملايين من الشعوب الافريقية والأوروبية والآسيوية مع الشعب الفلسطيني في محنته التاريخية، ومأساته الإنسانية الكُبرى.
الغريب أن جرائم الحرق والهدم والإبادة لم تُثنِ المخرج صاحب الأفلام الوثائقية المهمة، «هُم في الذاكرة والشجرة المُباركة وجدتي الشجرة والتحدي» وغيرها عن مواصلة نشاطه بعد ذلك مباشرة، فقد بدأ على الفور بتصوير فيلمه الجديد «رحلة» عن واحدة من السيدات الفلسطينيات الفُضليات اللاتي اعتدن تقديم الخدمات التعليمية والاجتماعية واللوجستية للأطفال الفلسطينيين ورعايتهم بشكل كامل، حتى بلوغهم سن الرُشد واعتمادهم على أنفسهم، فضلاً عن تقديم الشخصية ذاتها لبعض الخدمات النوعية للفتيات الفلسطينيات وربات البيوت والعاملات وغيرهن.
تلك هي الرسالة التي استوجبت اهتمام المخرج والسيناريست سعود مهنا، وفريق العمل الذي يرافقه ومساعدة يوسف خطاب واستدعت التوثيق والحفظ من جانبهم، لإعادة تكوين الذاكرة السينمائية مُجدداً، وتسجيل كل التفاصيل الإنسانية فيها، كمحتوى لائق بكفاح الشعب الفلسطيني البطل الذي يواجه الدبابات والطائرات والمدافع الإسرائيلية بمزيد من الصمود والإبداع والتحدي لتبقى فلسطين حية خالدة، يُشار إليها بإعزاز في كتب الجغرافيا والتاريخ كبقعة مضيئة على الخريطة العربية وفي الذاكرة الجمعية للأوطان والشعوب الحرة.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية