رزكار….. هذا البطل من ذاك الزمان !

حجم الخط
0

رزكار….. هذا البطل من ذاك الزمان !

عبدالامير الركابيرزكار….. هذا البطل من ذاك الزمان !الصحافيون الذين التقوا رزكار أمين في مقر اقامته في السليمانية، فاجأتهم الحدود التي كان القاضي العراقي، قادرا علي رسمها بصرامة، قابلهم من دون ادعاء، واستقبلهم بتواضعه المبهر، وكان صادقا بقدر ما هو صريح، انما بالحدود التي تتيحها مهمته، بعض الصحافيين ارتبكوا، وبعضهم لم يفهموا، والبعض الآخر تعلموا للمرة الاولي، كيف يمكن ان تفرد هنا، في هذه البلاد، ورغم كل شيء، خانة جازمة بمنتهي الليونة، للاختصاصات، والادوار. وهؤلاء لم يحبطوا، بل انتظروا اياما، كان رزكار يعد بها، بينما هو يصر اكثر من الاستقالة، علي انتزاع حقه، في ان يحصر نفسه داخل عالمه، دائما، او كلما تمكن، بشق الأنفس، من طرد السياسة وواجه اغراءها…. وضح لهم: بان مسألة المداولات حول عودته عن قرار استقالته، وحتي عن حقيقة الاستقالة نفسها، ليست مجال بحث، لن يصرح بأي شيء بهذا الخصوص، وسوي ذلك فليسألوا ما شاءوا.انتهي اللقاء بلا ضجيج، وبدا وكان ما يقف خلف هذا الرجل، قلم آخر يكتب، وعين خفية تري، قد يكون ذلك صوت التاريخ ، وقد يكون رزكار ابنه. في الأيام الاخيرة، وعلي وقع انباء الاستقالة، نشرت احدي الصحف العربية الشرق الأوسط للقاضي العراقي (48 عاما)، صورة رجل بأوداج منفوخة، جاهد الفنان الكاريكاتيري، حتي يفي الرجل الذي فاجأ الجميع، حقه من الحضور والمهابة، فسقط مضطرا في المبالغة الزائدة، وكل من طالع الرسم المشحون بلون اقرب الي الاحمرار الفاقع، فرك عينيه، ولم يصدق، وفي سره هتف: هذا ليس رزكار الذي نعرفه؟رزكار الذي رأيناه طيلة جلسات المحكمة، صغير الهيئة، يوحي بالقصر والضآلة، باللهجة العراقية ذميم ، بتشديد الياء، صوته خافت، ونظراته مبتعدة، ومحايدة، لكنها بلا قرار، هكذا كان يجب ان يكون، حتي يستحق مصيره، ويمر من خرم الابرة، ساعده علي ذلك، كل الاطار المهلهل المحيط بعمله، وبمهمته كرئيس للمحكمة، واليوم اذا راجع المراقبون تاريخ تلك الجلسات المضحكة، المثيرة للشفقة، يستحيل عليهم ان يتجاهلوا سهو الحاكم، ويسقطوه، مما اصبح الآن بمثابة خطة كان القاضي يبيتها، وغدت ملامحها تتضح. السيد رزكار، الضعيف البنية، مثل ريشة، كان يخطط لمصلحة القانون، وأراد ان ينتصر علي طوفان من الفوضي، والاحتلال، وتضارب الاهواء، والمخاطر التي لا تحصي.هل الابطال من هيئة واحدة، وهل ما قد منعنا من ان نري البطولة، تكلس مخيالنا، وفراغ ذاكرتنا الجمعية، المقفولة علي لون واحد من البطولات، ان وجدت، لعل ذلك ما كان رزكار يراهن عليه، واحتمي به. فالاشياء القوية والخارقة، تمر من شارع الغفلة، وبفعل الظلام المخيم هناك، تستطيع ان تأمن الشرور الآنية، قبل ان تفاجئ الآخرين، والضعف المثير للشفقة ـ في حالة رزكار مثير للامتعاض لدي جهات معينة ـ مثل دروب التاريخ المظلمة، شرط يؤمن سلامة المرور من ذلك المسرب الذي يترك التاريخ بابه مفتوحا لعابرين قلائل، يختارهم بدقة متناهية. الآن يمر موكب منسي، حامورابي، ضد تضخم سطوة عنترة التي حولها الزمن الي دون كيشوت او طبعته العراقية خلف بن امين في المدينه و معيجل في الريف، عرف عن حامورابي مدخل شريعته العظيم والمبهر، حيث قال: (انا حامورابي (الملك الفقيرللرب) اخرج علي الناس السود الرؤوس) واقتص للضعيف من القوي) وهذا صوت ملك (ضعيف وعادل ) ليس كصدام حسين قرين عنترة المهلهل في غير أوانه ولا عصره.لا وجود للمحكمة، انها بلا نظام، ولا ترتيب محكم، الاصوات التي تصدر عنها، وصور هيئة الادعاء والشهود والمتهمين متقطعة، وتصل متأخرة، بالمقارنة حتي بحالة قديمة جدا تعود، الي ما قبل (47) عاما، اي عندما كان رزكار ما يزال رضيعا، وقتها كانت الفضائيات في عالم الغيب والاحلام، والبث التلفزيوني لا يكاد يصل سوي الي اطراف بغداد (العراق هو اول بلد عربي عرف التلفزيون عام 1952 ـ تذكروا ذلك جيدا) وبعض المدن القريبة عند دائرة لا تتعدي المئة وخمسين كيلومترا، ولم تكن محطات تقوية البث في البصرة، والالوية الشمالية قد اقيمت، لهذا كانت دائرة الارسال تضيق مع الصحو، وتمتد قليلا، حين تمتلئ سماء العراق بالغيوم، وفيما عدا بغداد، كانت الصورة والصوت يحضران لفترة، ويغيبان تحت وشوشة موترة لفترة اطول، يسارع النظارة خلالها في المقاهي والبيوت عادة، لتعويضها برفع اصوات الراديوهات، الا ان الراديو كان ينقل وقتها وقائع محكمة الشعب الشهيرة بالتمام والكمال، وبعض المتشفين، يسمعون قبل بدء الجلسات وهم ينادون في الطرقات (اجاهم … اجاهم ابو العباس).. يقصدون العقيد فاضل عباس المهداوي، رئيس تلك المحكمة الشهيرة، المولع بالقاء الشعر، والخطب الطويلة الرنانة، ولكن الذي لم يكن صوته يتقطع ولا يتوقف علي مدي ساعات.اليوم تتضافر ارتجاعات موترة وكئيبة للزمن، فوق رؤوس الحاضرين داخل القاعة الضيقة، القريبة من صورة غرفة تعذيب تبدو كأنها، حفرت تحت الانقاض، يتخايل للمرء انه قادر علي ان يسمع من خلف جدرانها، اصوات طلقات نارية أو مدفعية تمشط المحيط، واي شخص لا يعرف بدقة ما يجري في العراق، ويري مشاهدها، لا يمكن الا ان يتصور، بانها تجري في ساحة حرب، او في بلاد عادت الي عصور ما قبل الصناعه: (هذا الخبر قديم لكنه حاضر الآن)، ولا أحد شاهد جلسات ما يسمي بـ محكمة العصر ، الا ورأي الزمن مضغوطا ومتعاكسا، برثاثة، لم تخلق بعد، الكلمات القادرة علي وصفها، فتركت معلقة في الاحاسيس، الزمن نفسه هنا فوضي، بلا اتجاهات.. يتضارب فيه الماضي والحاضر، ولا يتعايشان، بل يقتتلان، تاركين اشلاء التاريخ تتطاير في الارجاء.ورزكار يقدر الاحداث بتطامن، راضيا بان يكون جزءا منها، هم يريدون محاكمة، وهو يقبل، الكثيرون سوف يضعونه في الخانة المفترضة في مثل هذه الاحوال، وقد فعلوا للوهلة الاولي باصرار ويقين لا يتزحزح، قالوا: متعاون مع المحتلين وحكومة المتعاونين ماذا يبقي رجل بلا حول ولا قوة جاء اصلا ليزور العدالة ويخدم الاحتلال كل الدلائل تؤيد ذلك حتي شكل الرجل وهيئته، احد السياسيين قال لاصدقائه: صدام في حالته تلك، أكثر هيبة من كل اعضاء هيئة المحكمة ، وبالأخص رئيسها المسكين. عدة صحف عربية قالت صدام يستغل قوة حضوره جيدا ، وكلهم قصدوا القول، ان منظر القاضي لا يدل علي قوة شخصية. رزكار كان يتواطا ضد نفسه، وبما انه، هو القاضي، فلقد كان يعلم بان كل من يقفون وراء المحكمة، الاحتلال، والحكومة، والشهود، والمتهمون، وهيئة الدفاع التافهة، في طرف، وهو في طرف آخر: اذن المحكمة في نهاية المطاف ستنتصر، والبطولة ليست لها مقاييس جسدية.الامريكيون يريدون محاكمة بتلك الشروط، رزكار يقبل، ناويا التنصل في اللحظة المناسبة، من تبعات أمر لا يد له فيه، صدام ومن معه يريدون استغلال المحكمة للخطابة، هو لا يمانع، حول الرئيس العراقي السابق الي فاضل عباس المهداوي ، وأظهره، هو ومن معه احيانا، كمهرجين مفصولين عن الارض والسماء معا، سمع صوت صدام شبه الباكي، وهو يهتف باسم الأمة العربية التي لم يساهم أحد قبله، كما ساهم هو، في هزيمتها، وتدمير احلامها. مشهد مثير ومحير لمرددي شعارات، يتعاملون مع جرائمهم ببراءة كالاطفال، افرحهم وهم رزكار، الذي رماه داخل قفص الاتهام، فانكشفت فاضحة حدود وعيهم، واختلال بنيتهم النفسية، وظنوا انهم سيمسحون الدماء عن اكفهم، بخليط الصلافة، والتودد، احدهم هو برزان التكريتي قال لرئيس المحكمة: انت كما هو واضح، تريد ان تسجل في التاريخ بانك حاكمت صدام حسين، وسعيت الي توفير العدالة ، هذا اعتراف، يضع الحاكم بصف الصداقة مع المتهمين، وهو يستوجب من موقع آخر خروج مظاهرات محتجة، تندد بأسلوب التساهل مع المجرمين والقتلة .وقتها كانت المحكمة تنشطر، انتبه الجميع بلا صوت عال الي وجود القاضي ، ونسوا الانحدارات التي منها ترتفع راية القانون في بلاد الرافدين، فمجتمع اللجاجة، والاعتقاد الصخري الشكاك، لدي كل طرف، وكثرة اسباب التصادم، التي لا تنتهي ولا تهدأ، افردت علي مر التاريخ، وبالاخص في القدم، مكانا لقوة عليا، توجدها، علي حسب نظريات علم الاجتماع ، التسوية الضرورية لبقاء المجتمعات واستمرارها هنا يصبح الكل ضعفاء، بينما يصبح المخالف الاعزل الحكيم الهادئ والضعيف، محل التقاء، الكل ينتهون اليه ويحتاجونه، ومن برج بابل يخرج حامورابي وهو ويا للتناقض الصارخ، الطرف الوحيد الذي لا يعرف حمل السلاح: هكذا عرف العراق أربع منظومات قوانين شرائع ، آخرها تلك المسجلة باسم حامورابي، والتي ما تزال مقدمتها هي الارقي في مقدمات الدساتير في العالم، حتي بالمقارنة بالدساتير الاوروبية الحديثة. دعونا بالمناسبة نذكر، ان تلك البراعة الاستثنائية في القانون، وصلت اثينا القديمة، كانت كلية بيروت ، التي اكتشفت اثارها مع اعادة بناء الوسط التجاري المهدم بسبب الحرب، تدرس القانون بكتب ونظريات عراقية ، واساتذة فينيقيين، وطلبه يونان، الان أيضا، ثمة شق ينسل منه رزكار، والاحري ان تكون السليمانية اقرب من اثينا القديمة الي بابل ، وحكمتها الكونية، ومأساتها المتكررة، المدوية في كل مرة، في الآفاق، وعلي امتداد الكوكب…. في اللحظة المناسبه قال رزكار الضعيف: انا سأستقيل.وهذه المرة ضرب القاضي العراقي رأسه برأس رئيس الوزراء، تلميحا، ومن دون صراخ كان رزكار (مع حفظ الالقاب) يركب مجازفا قاربا آخر. خرج من المحكمة الي بيته في السليمانية، تاركا هذا الشيء المهلهل معلقا برقبة اصحابه: الامريكيين، والحكومة، وبعض الخطباء من قادة القوي النافذة (بمقدمهم مقتدي الصدر)، وصدام وصحبه، وهيئة دفاعه التي لاحاجة لها، اي كل الضعفاء العاجزين عن عقد محاكمة، لا يرأسها رزكار. من يا تري سينتصر؟ برج بابل المنهار، المهلهل، بشخوصه وقاعاته وشوارعه المغبرة الحزينة..؟ ام الحكمة التي تخترق التاريخ والازمان؟ تريدونني ان اقول رزكار نعم، لن اخالفكم لو تقولون ذلك، فقط اسمحوا لي ان اغير الاسم لا المعني.. لأقول…. العراق.9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية