ذلك الكلب الأسود

حجم الخط
0

لدى مغادرتها مقرّ عملها رأت أمامها كلباً أسود اللون على الرصيف المقابل وكان في حالة انتظار على ما يبدو. كانت ثمة سلسلة معدنية تحيط بعنقه من طرف وتحيط بعمود الكهرباء الكائن على مقربة منه من طرف آخر. ولسبب ٍ مجهول ٍ تغيّرتْ سحنتـُهُ فجأة حين نظرتْ إليه وكشّر عن أنيابه وزمجر بعدوانية غريبة وقفز في اتجاهها مسعوراً، لكنّ السلسلة المعدنية الصلبة شدّتـْهُ وهو في الهواء وكبحت جماح اندفاعه نحوها مما زاد من حنقه ووحشيته، فانخلع قلبها من صدرها، وأسرعت مذعورة ً لا تلوي على شيء إلى كافتيريا قريبة في انتظار زوجها الذي يأتي لدى انتهاء عمله كل يوم ليقـلـّها بسيارته إلى البيت.
والتمع ألم ٌ لا يُطاق في ساقها اليمنى. ألمٌ لا يُطاق. أحسّتْ أنها عاجزة عن تحريكها. وبدأ الدمُ ينزّ ويسيل منها. وشبّتْ في ذاكرتها مرحلة ٌ مبكرة ٌمن طفولتها. مرحلة تعود إلى خمسين عاماً خـَلـَتْ على وجه التقريب. كلبٌ ضالّ أسودُ اللون وفي حجم هذا الكلب تماماً أنشب أنيابه في ساقها عندما كانتْ في التاسعة من عمرها.
كان هلعها الهستيري آنذاك، والذي دام حتى بعد أن عولجت في المستشفى، أقوى من ألمها الفادح. وكانت تلك الحادثة البغيضة بداية َ خوفٍ صاحَبـَها طوال حياتها ولم يحالفها التوفيق في الانتصار عليه. آثار العضـّة زالت عن ساقها مع انفراط سبحة الأيام والسنين لكنها بقيتْ واضحة المعالم في مخيلتها، تحسّ بوخزاتها وتشعر بأنياب النارية وهي تخترق لحم ساقها وتشـلـّها بحيث تعجز عن تحريكها كلما رأت كلباً، ولو في الأفلام، وحتى لو كان كلباً أليفاً، بل تشعر بالدماء تنزّ وتسيل منها، ويُخيَّـلُ إليها أنها تراها.
وأخفقت كل محاولات والديها وإخوتها لاحقاً في إقناعها بالتربيت على كلب ٍ أليف ٍ ومسالم كانوا يمسكونه بإحكام لـِبـَثِّ الطمأنينة في نفسها بأنها في منأى عن أية مجازفة غير محمودة العواقب.
أثناء حياتها الدراسية امتنعت عن زيارة أية زميلة أو صديقة لديها كلب في منزلها. وحين دقّ الحبُّ باب قلبها أسرّتْ لمن سيصبح زوجها بأنها لا يمكن البتة أن تتخلى عن هلعها التاريخي من الكلاب مهما صغر حجمها أو انتفى احتمال عدوانيتها.
وأوقف شريط َ ذكرياتها وصولُ زوجها.
– هل رأيتَ ذلك الكلب؟
– أيّ كلب؟
– كان ثمة كلب أسود يقعي على الرصيف أمام مدخل مقرّ عملي!
– لم أرَ أيّ كلب في الشارع كلـّه في طريقي إلى هنا. لعلـّه ذهب.
– لقد زمجر بوحشية حين رآني وهجم عليّ هجوم وحش كاسر ٍ ولو لم يكن مقيَّدَاً إلى عمود الكهرباء لمزّقني إرباً.
– لا تفكري في الأمر. لا أعتقد أن صاحب أيّ كلب غير مسالم سيتركه حرّاً طليقاً، فلا تقلقي.
رأت في حلمها أن مجموعة من الكلاب الشرسة أحاطت بها من كلّ صوب ٍ وكشّرتْ عن أنيابها، وأنها في اللحظة التي كانت تفقد فيها وعيها من الهلع أحسّتْ بأنياب تلك الكلاب تنغرز في يديها ورجليها وخاصرتــَيْـها وعـُنقها. أفاقت مذعورة ً في صراخ هيستيريّ ٍ ولكنّ أعصابها لم تلبث أن هدأتْ حين رأتْ نفسها في السرير ولمحتْ في عتمة الغرفة زوجها النائم إلى جوارها، وأدركتْ أن ذلك كان مجرّد كابوس بغيض نجم عن رؤيتها أمام مقرّ عملها. وتنفست ِ الصعداءَ حين وجدتْ أن زوجها لا يزال نائماً مما يعني أنه لم يسمع صراخها الهيستيري حين أفاقت من كابوسها، أو أنها لم تصرخ أساساً بل خُـيِّـلَ إليها أنها صرختْ. بـَيْدَ أنها شعرتْ بضيق ٍ في التنفس. وأحسّتْ أن الجدران آخذة ٌ في الانقباض وأن غرفة النوم بدأتْ تضيّق الخناق عليها.
نهضتْ وفتحت ِ الستائرَ فانخلع قلبها هلعاً إذ وقعت عيناها على ما يشبه كلباً أسود اللون يقعي على الرصيف المقابل لنافذة الغرفة. أحسّتْ أن ثمة شيئاً غامضاً يغلـّف المشهد. نافذة غرفتها مختلفة، والرصيف المقابل مختلف أيضاً. كان أدنى من مستوى النافذة فيما هو في الواقع في مستوى النافذة نفسه. وأحسّت أن ثمة ماء ً يفصل بينهما ولا تعرف كيف ومن أين جاء الماء. كان سوادُ الكلب وعتمة بداية الفجر متداخلـَيْـن بيْدَ أنه كان من الممكن تمييز الخطوط العامة لجسده ككلب. وكانت عيناه ضوأيْن ِ صفراوَيْن ِ في تلك العتمة الحالكة.
كان ينظر إليها، بل كان يحدّق فيها، واستطاعت أن تحسّ بتلك النظرات تخترق صدرها وتكوي قلبها. أرادتْ أن تُهرع إلى زوجها لإيقاظه، لكنّ ساقـَيْـها خذلتاها، وأرادت أن توقظه بملء صوتها، لكنّ الصرخة اختنقتْ في فمها. ورغم أنها كانت تقف داخل غرفة النوم وخلف زجاج نافذتها، ورغم أن الكلب كان يقعي في الخارج وعلى الرصيف المقابل الأدنى في مستواه من النافذة، إلا أنها لم تشعر بالأمان بكلّ ما للكلمة من معنى. كان أماناً زائفاً. وزاد في هلعها أنه كان يشبه إلى حدّ ٍ بعيد الكلب الذي رأته لدى مغادرتها مقرّ عملها أصيل البارحة والذي انقلب إلى وحش ٍ مفترس تنخلع لمرآه القلوب. لكنّ ذلك الكلب كان مُقـَيـَّداً بسلسلة ٍ معدنيّة ٍ إلى عمود الكهرباء أفلحتْ في منعه من تمزيقها، وهذا الكلب طليق.
التقطت أنفاسها بعض الشيء وتحلـّتْ، في تحدّ ٍ غريب، بشجاعة افتقدتـْها طوال خمسين عاماً، وكان هذا هو الخيار الوحيد المتبقي أمامها بعد أن عجزت ساقاها وصوتها عن الحصول على عون الزوج النائم. وقرّرَتْ أن تواجهه بالتحديق في عينيه لتريه أنها لا تخشاه.
وتلاقت عيناها بعينيه. كانت عيناه الشيءَ الوحيد الذي تراه منه في تلك العتمة. ولم يتوقف عن التحديق في عينيها. كانت على قناعة داخلية من أنه يمكن في أية لحظة أن يختصرَ المسافة بينه وبينها في وثبة واحدة.
بَيْدَ أن ميزان المواجهة البصرية انقلب رأساً على عقب، فقد أحسّتْ وهي على شفا دوّامة ٍ هادرة كانت تهدّد أذنيها بالصمم أنها على وشك الانتصار، الانتصار على هذا الوحش المريع، الانتصار على سلالته التي تـَمكـّنَ فردٌ منها من إنشاب أنيابه الحارقة في لحم ساقها اليمنى البضـّة حين كانت طفلة، وأخيراً وليس آخراً الانتصار على نفسها بعد نصف قرن ٍ من الهزيمة والانضواء تحت راية خوف مريع ٍ أنشب جذورَه في أعماق روحها. وكان ذلك الانتصار فوق طاقة احتمالها. وتسارعتْ نبضاتُ قلبها في إيقاع ٍ تصاعديّ ٍ ما كان لدواء ٍ أن يهدّىءَ من خطورته.

* قاصة من سورية تقيم في إنكلترا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية