ذاكرة فقد
رجاء بكريةذاكرة فقدليست ذاكرة وداع عزيزي مازن، ولكن ذاكرة فقد!ليس تماما، ولكن بالتّقريب لأنّني لا أعرف كيف أودّعك لن أكتب لك كما كتب الآخرون. سوف أكتب إليك لا عنك. وهل تعرف ربّما لأنّ الفالنتاين علي بعد خطوتين منّا سأعتبر هذه الكلمات سطور فقد عن رجل أدّعي بأنّني أعزّه اسمه مازن. هذا ما أعرف التفلسف بصدده، أن أعتبرك علي الجانب الآخر من الهاتف أصغي لاقتراحاتك، أو تصغي لعتبي علي ما يحدث، وكنت تعرف أنّ الأشياء تحدث كثيرا عندنا ودون توقّف. تصهل بالضّحك أو أغرق بالعزف علي وتر الأسماء. كان الأمر هكذا يدور بيننا، لكلامي ما يؤكّده ولصهيلك ما يمحوه ويكتبه في مكان ما خلف الغيم.لن أبكي الآن، ولن أعلن أنّك كنت رجلا عظيما علي عادة الكتّاب المرائين، لأنّ العظمة، يا صديقي، ليست دائما بحجم الخسارة. والرّجال العظماء يجب استعمال الدّلالة لتأكيد حضورهم، وليس الكلمات المباشرة تماما. كأن يجلس مكان كلامنا ريف من العصافير علي سلك كهرباء فالت، ويتجاذب أحاديث شوق إلي رجل كان يمرّ من هنا مطلقا صليل ضحكه في ناحية، ورماد سيجارته في ناحية ويحتضن البحر. كلّ صباح يصافح الهواء ويأخذ الموج في جولة قصيرة حول المراكب التي تنتظر في ميناء عكّا بحّارا يملك حفنة من المغامرة.لم يروّضني أحد علي الكتابة إليك سوي تلك العصافير الصّغيرة، الفسافس، فمثلك يجب أن يروّض الكتّاب أقلام قريحتهم كي يقولوا عنه، والأصدقاء قلوبهم كي يفهموا أنّهم يكتبون عن راحل وليس غائبا لأيّام معدودة يعود بعدها نضرا وسعيدا وجميلا يتعربش موج عكّا فرحا علي كتفيه بمجرّد أن يلمح طرف حذائه.أجل، يا صديقي، يجوز أن أنعتك وخروجا عن مألوف السّائد بين الرّجال والنّساء بالرّجل الجميل، المنطلق دائما، دافيء القلب، غزير الضّحك، الهازيء بكلّ شيء. وربّما هذه الأشياء النّادرة فيك هي الّتي دفعتني دفعا للبحث عنك. هنا من عادة الكتّاب والنّقاد الهاوين للمسرح أن يبحثوا عن رجال الضّوء كي يصنّفوا عائلة الأضواء الّتي يبذرونها علي خشبات الشّوق، لكنّك، أيّها الرجل الجميل، لم تتركني أصنّف أقمارك ولا تركتني ألمّع شموسك. فجأة وعلي غفلة من نظام الكون ذهبت.لم يخبرني أحد بأمر سفرك المفاجيء. لم تهاتفني خشبة ولا مسرح. وأنا اليوم أتذكّر جيّدا أنّها كانت ليلة ماطرة جدا من ليالي شتاء أحبّه. هاتفت أسامة كي أستفسر عن موعد العرض القادم. هنّأته بالسّنة فعزّاني بفألها. ضحكت من نكاته الغامضة، فاستدرك قائلا: هناك مخرج مهم ذهب. ماذا تعني؟، همست بفزع. فهمس بشيء من التردّد، مازن غطّاس ذهب. دارت بي الغرفة، ولم أعرف كيف خرجت من ذهولي وصرخت قائلة: أنا مدينة لهذا الرّجل بهاتف. فعقّب قائلا: هاتفته عنك السّماء.لماذا يذهب الّذين نحبّهم قبل أن نكتشف مساحة حبّنا لهم، وماذا يمكن أن نفعل كي نرسم صورا لم نعشها معهم لمجرّد أنّنا نحبّهم؟لئلا تبقي وتعمينا! مازن العزيزلا أعرف ماذا يمكن أن أكتب لك. لا أحبّ أن أكتب كلمات وداع، ويرعبني جدا قطف الرّيح لأعناق الزّهر. ومنذ زمن بعيد عوّدت رصاصي علي الإنطلاق بوجه اللّقاءات الصّغيرة والدّافئة فقط لأنّني أتهيّب من مظاهر الفرح طويل الأمد. ويبدو أنّ الحياة تعوّدنا، يا صديقي، كلّما مرّرنا كحل أفراحها في عيوننا علي غسلها، وعلي عجل لئلا تبقي هناك أكثر ممّا يجب، وتعمينا. حمقاء هذه الحياة، حمقاء حتّي الوجع. هل عرفت حمقا يوجع؟ يخيّل إليّ أنّك عرفت أكثر من هذا أيضا. ولعلّني إذ أستحضر فنون الحمق الّتي حاصرت مشاريعك أستحضر معها حضوري الأوّل إلي مسرحك شهورا علي افتتاحه لرؤية عرض جلجامش. يومها أذكر أنّني كنت عائدة من العمل، منهكة جدا علي عادتي لكن متحمّسة جدا للنّزال الّذي بدأت أفرغ مساحات روحي الممتلئة مسرحا لفرسانه وقتلاه. دخلت وبحثت عنك فلم أجدك. عثرت مكانك علي شاب رقيع مع فتاة ليست جميلة كانا ينتظران مثلي بداية العرض. لسبب ما شعرت بالاختناق ورغبة ملحّة بالتقيؤ. ولم أتمالك نفسي، تركت المكان علي عجل كأنّني أتحلّل من ملابس ليست لجسدي. عدت من حيث أتيت دون أن أري جلجامش أو أراك. بقيت مساحات روحي الفارغة بدون فارس يحدّد ملامح الطّريق الّتي رجعتها غاضبة ونادمة لأنّني لم أنتظرك. بعد نصف ساعة من السّفر أطلّ وجع حيفا وجها من البلّور، يبتسم لرقصتي المتخاذلة بين خطوط الشّارع الهرم بفعل البرد والشّتاء. تذكّرت ابتسامتك الصّافية، وأنّبت نفسي، كان يجب أن أبقي، أتمهّل قليلا كي لا تهرم رقصتي هكذا، كان يجب أن أسلّم علي الفرح، وكنت أعنيك.هل تشفي فقدي هذه الكلمات الخائبة؟ نحن الكتّاب لا نعرف خلاف شيئين، خيانة الورق بهزائمنا والكذب عليه. نري فأرا فنكتب كي ندهش القرّاء نازلنا أسدا، وحين يفتننا عملاق بملء الصّدق الّذي كان لك لا نعرف ماذا نقول. تسقط ألسنتنا بين سيقاننا، ونخرس. ما الّذي يخرسنا تماما؟ لا نعرف ولا أريد أنا أن أعرف ما دمت أنت. هل تستطيع، وأنت هناك أن تغفـــــر غيابي عن الأمكنة الّتي ذكرتك؟ هل تسمع؟ لقد عاقبتـــــــني مزاجيّتي وأشباح يومي الأسود فلم أشارك بفعل واحد يؤكّد لمن أحسّ غيابي معزّتي الشّديدة لك. كأنّني نسيتك، قيل. ليس هذا ما حدث، ولكن حدث أنّني فقدت الشّعور بكلّ أشكال التذكّر. اعتقدت أنّني منذ تلك الليلة الماطرة قد دبّستك بمشبك الدّمع، وهذا المشبك، يا مازن، يظلّ عالقا باللّحظة. لا يسترجع شكل العلاقات، ولكن يتأبّد فيها. وكل من سيراني سيلمح تحت عيني ذلك المشبك يلمع بكلّ ما لا أعرف كيف أسجّله عنك. لا أؤمن تماما بأنّ تسجيل الأعمار المستحيلة من اختصاص قلمي، ولكنّي حقيقة أؤمن أنّ مسألة حفرك في رزنامة التّاريخ المسرحي يدخل ضمن خصوصيّات بقائي.وأنا كما كنت يوم ذهبتاليوم تحلّ ذكري الأربعين علي غيابك. وأنا كما كنت يوم ذهبت عرفت في اللّحظة الأخيرة. لم أحضر لأنّني اعتقدت أنّ حضوري بقناع لم تره ليس ما تريده تماما منّي. بعد أن رتّبت عطري وقلبي رجعت أدراجي، وبدأت أبحث عن صوتك في مفكّرة شوقي. كنت أعرف أنّ حافظة أشواقي وحدها القادرة علي البثّ بأمر حيرتي. منّي أردت أن أكتب، ليس شيئا آخر غير تخزيق الورق بالسّهام، هذا كلّ ما سمعته منك. ذات يوم أذكر أنّك قلت، أقرأ بمتعة ما تثيرينه من فتن تحت فساتين الورق، وكنت تستدرجني بهذه الملاحظة العابرة، لكن الموجّهة إلي عملك ” فساتين” لكنّني لم أر فساتينك ولا رأيت سواها.كنتَ ككلّ الفنّانين الواقعين تحت مغناطيس الهجس نسّاءً أو مدووشا كما قلت. قبل ساعة أو ليلة تهاتفني، متأخّر؟ لا مازن، ساعاتي جميعها مبكّرة حين تكون أنت. أحببت هتافاتك المفاجئة. كأنّك تنساني أسابيع طويلة كي تذكّرني بعد أن أنسي أنا نسيانك بغزارة حضوري في مشاريعك المؤجّلة. تستعيد أصدقاءك وأعداءك لحظة يتساقط فيك الصّوت ويغمرك الضّوء بالرّهبة.لن أودّعك الآن بل سأعدك أنّني سأبحث عن اللّحظة المناسبة كي أسقط الدّمعة من المشبك الأبيض وأدبّس به لحظات كان يجب أن أكون شاهدة علي تفاصيلها. سأسجّل عنك ليس تماما ما أحببت، ولكن ما أحبّت الأشياء أن أسجّلها اختلافا بك! كاتبة وفنّانة تشكيليّة من فلسطين0