دم الغزال : شيوع الجريمة بين السلطة والجهل والمجتمع
يفتح ملف الإرهاب من جديد دم الغزال : شيوع الجريمة بين السلطة والجهل والمجتمعالقاهرة ـ القدس العربي ـ من كمال القاضي: في منتصف التسعينيات لعبت السينما علي موجة الإرهاب كمتغير طارئ علي المجتمع المصري في تضامن واضح مع السلطة ضد الظاهرة، ولكن قليلا من الأفلام التي قدمت في هذا الإطار عنيت بالبحث في الجذور عن أصل الإرهاب ومنبته، وأغلب الرؤي التي قدمت عالجت القضية بشكل بوليسي بافتراض أن الإرهاب موجة من بعض الخارجين علي القانون ضد الحكومة أو ضد الشرطة علي وجه التحديد، وهي النظرة الأحادية التي أضعفت دور السينما في التصدي للعنف وخلق جبهة مضادة للأفلام وأبطالها وكتابها ومخرجيها للظن الخاطئ بأن هؤلاء المبدعين يستهدفون رضاء الدولة من وراء ترويج الأفكار المناهضة للتيار الديني المتشدد الذي تقوم بعض عناصره بالعمليات الإرهابية، وبموجب هذا الاعتقاد ظلت الحقيقة غائبة وانفصل الجمهور تماما عن المعادل المشترك بين الفن والوعي الاجتماعي، ولم ينتبه لأهمية السينما في هذا الصدد إلا بعد أن اكتوي بنار الإرهاب وأصبح الضرر مباشرا علي الفرد والجماعة وازدادت نسبة المحظورات الدينية وحدة الخطاب العام بين الأمراء الجدد والرعية .. من هنا بدأ يتفتق ذهن المجموع عن خطورة إطلاق الأحكام الصارمة والعنف الذي بات قانونا معتمدا لدي أصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . علي هذه الخلفية بدأت التجارب السينمائية النوعية تتلامس مع الوعي العام وتقرب وجهات النظر بين ممارسات عناصر التطرف الطامعة في الحكم والسلطة التي تدافع عن شرعيتها وبقائها ليتبين للناس الحقيقة ويدركون أن وقوف السينما ضد الإرهاب لا يعني أبدا مساندتها للسلطة بقدر ما يعني حمايتها للمجتمع من سيادة الفوضي وتعميم سياسة القتل واتخاذه سبيلا للوصل للكرسي، خاصة وأن من بين الأفلام التي خاضت الحرب ضد الإرهاب أفلاما أدانت فاشية الحكومة في تعاملها مع الإرهابيين بما ينفي عنها تهمة الانحياز أو اللا موضوعية باستثناء تجارب قليلة ظهرت في بداية نشوب الصدام بين الطرفين استهدفت في الأصل الربح واتخذت من القضية جسرا لعبور المشاهد إلي شباك التذاكر وبامتداد الظاهرة الإرهابية توازت التجارب السينمائية وبين التوهج والخفقان خرجت أعمال يؤرخ بها للسينما مثل طيور الظلام والإرهاب والكباب لوحيد حامد وعادل إمام قبل أن ينفصل الاثنان ويقدم الأخير ما لديه من تصور نهائي معه نور الشريف بطلا ومحمد ياسين مخرجا في فيلمهم دم الغزال .. أحد الأفلام البارزة في الموسم الشتوي، حيث انتهاء مرحلة التحذير المباشر من الخطر وبداية الطرح الفلسفي لعملية التفتيش عن الجذور الاجتماعية للإرهاب كنبت شيطاني ينمو في ظل عوامل بيئية تعمل علي تنشيط غريزة العنف يأتي في مقدمتها الفقر والبطالة كأهم رافدين مصدرين للجريمة، بجانب تفاصيل أخري هامشية مثل العنوسة لدي الجنسين.فالبطل نور الشريف رجل في الخمسين من عمره عاطل بالوراثة وغير متزوج.. يهوي تربية الحمام الزاجل وينفس عن رغباته مع جارته الأرملة عايدة رياض ويمتهن مهنة غريبة تدر له مالا وفيرا، فهو يحترف إلقاء نفسه أمام السيارات الملاكي وإبرام المصالحات الشفوية بعد الحصول علي التعويض الفوري من قائد السيارة، وفيما يمارس جابر عميش أو نور الشريف هذا الفصل يوميا يقوم بإيهام أهل الحارة بأنه من أصحاب الأملاك، ومن ثم يكبرونه ويعتمدون عليه في حل مشاكلهم، والتي من أبرزها حمايتهم من الهجامة واللصوص الذين يتزعمهم عمرو واكد، ذلك الشقي المسجل خطر وصاحب السطوة والنفوذ غير الشرعي أو بمعني أدق الطرف الآخر للإرهاب الموازي لإرهاب المتطرفين الدينيين، والذين يمثلهم الممثل الشاب محمود عبد الغني صبي العالمة والطبال السابق الذي ترك كار العوالم واصبح إرهابيا بعد أن خُذل في حبه وهُزمت كرامته في مشاجرة بينه وبين الهجام عمرو واكد .. ثنائي الشر في الحارة التي تعج بالمتناقضات يحومون حول الفتاة الضحية مني زكي حنان تلك التي فقدت أبويها وتقيم مع زوج خالتها الرجل الطيب صلاح عبد الله الذي يسعي تحت إصرارها لتشغيلها عند سيدة ثرية لها ماضي يسرا حصلت علي ثروة من وراء رجل الأعمال عبد العزيز مخيون وتعيش في عزلة شديدة..خطوط متعددة ومتقاطعة ينسجها وحيد حامد ليصل بنا إلي مفهوم الإدانة الجماعية في خلق ظواهر الإرهاب بعد الفشل في تلبية الاحتياجات الضرورية للمواطنين وتركهم فريسة للانحراف والتحايل والنصب والسمسرة والدعاة وابتكار أساليب الابتزاز والإغراق في الحياة العشوائية ، فنسير دون ان نشعر في لجة الدم ونفقد أحلي ما لدينا سجايانا الخيرة ويصبح للإنسان منا ألف وجه يعيش أمام أهله وذويه محتميا في طيبته وإنسانيته، بينما هو نفسه جابر الأعمش الذي يرتزق من وراء الخدعة التي صارت بفعل التكرار مهنة يمارسها في الخفاء حتي يذهب ضحيتها ويموت مقتولا علي رصيف أحد الشوارع وينزف دمه تحت ضوء الإشارة الحمراء نذير الخطر والسوء وهو يعترض بأنه لم يكن يوما من أصحاب الأملاك وليس لديه بلد غير حارته التي استباح طيبة أهلها وبات يخدعهم سنوات.. كان الاعتراف مصحوبا بمرثية وداع للحبيبة الطاهرة.. الوحيدة التي لقيت مصرعها أيضا نتيجة رعونة السلطة وعدم قدرتها علي حمايتها بعدما استخدمتها قوات الأمن طعما للقبض علي الإرهابي.. استشهدت حنان الضحية البريئة وهي تعانق أحلامها وخوفها وتمني نفسها بحياة مستقرة تنأي بها عن الرعب من أنياب الفقر والمعيشة الضنكة. كان الموت هو المشهد الختامي في ثلاثية الدراما الحزينة لوحيد حامد ومحمد ياسين بعناصرها الرئيسية الفقر والجهل والقمع وأسانيد الجريمة الكاملة للشركاء الثلاثة أيضا الإرهاب والحكومة والشعب، حيث لا مناص من تحميل المسؤولية بالتساوي لكل منهم فالإرهاب نتاج الجهل وتخلي الدولة عن مسؤولياتها تجاه رعاياها مما دفع بالبعض لمحاولة خلق نظام بديل وإنشاء مجتمع جديد قوامه الفهلوة واللصوصية والاحتيال. أما الحكومة فكانت حجر الزاوية في تفجر الأزمة بعدم قدرتها علي وئد ظاهرة الإرهاب مبكرا واستخدامها للعنف كلغة وحيدة للحوار!دم الغزال.. فيلم يفتح الجرح من جديد ويدق ناقوس الخطر لرصد توابع الإرهاب بكل أبعاده ويلفت النظر إلي حكمة أجهزة الأمن المفتقدة في التعامل مع القضايا الشائكة، كما أن الفيلم عودة أيضا إلي دور السينما الإيجابي في الوقوف علي جبهة الحرب للحيلولة دون تحويل الفن إلي مجرد مساخر وتسلية.نور الشريف بدا في هذا الدور كرجل حكيم يصب عصارة تجاربه ويقول كلمته للتاريخ ويمضي، فقد اتسم أداؤه بالرصانة الشديدة وبالغ العفوية والاقتدار، غير أنه ترك مساحات شاسعة لبقية الأبطال ليتوازوا معه في المكانة والنجومية، خاصة صلاح عبد الله ومحمود عبد الغني حيث وقفا معه علي خط واحد في الأداء وارتفعا كثيرا بمستوي الحوار حتي أنهما طاولا قامة يسرا وكادا أن يسرقا الكاميرا من مني زكي وعمرو واكد.2