حين تخدع المزادات الفنية زبائنها

حجم الخط
3

في الدوحة عرض المزاد البريطاني الشهير سوثبي لوحا خشبيا مستطيلا مؤطرا بمصابيح ملونة، شبيهة بمصابيح الزينة في الأعراس الريفية وفي الأماكن الرخيصة كتبت عليه بالانجليزية جملة واحدة هي ‘I am sorry’.
ذلك اللوح عُرض للبيع باعتباره عملا فنيا من انجاز شاب عراقي يقيم في فنلندا أسعفه الحظ في أن يهتدي في وقت مبكر من حياته إلى الدروب التي تقود إلى نوادي الفن الخفية، وهي الجهات التي صارت تدير شؤون السوق الفنية في مختلف جهات العالم، وبالاخص في العالم الغربي وفي المناطق الخاضعة لنفوذه (على المستوى الاقتصادي بشكل خاص). ذلك اللوح بُيع بحوالي سبعين الف دولار أمريكي.
هنا الاسئلة تذهب إلى الأسباب التي حدت بشخص ما إلى اقتناء ذلك اللوح الخشبي. ترى أين سيضعه؟ غالبا ما يعلق العرب على جدران بيوتهم ومحلاتهم التجارية ألواحا تحمل آيات قرانية من نوع (هذا من فضل ربي) في اشارة شكر معلنة، هي في حقيقتها محاولة مضمرة لدفع الحسد. ولكن جملة من نوع (أنا آسف) لا يمكنها لو اقتطعت من سياقها أن تعبر عن شيء بعينه. جملة لا معنى ولا قيمة ولا أثر لها. بعيدا عن سؤال الاستعمال لا يمكنني في كل الأحوال أن أقتنع أن شخصا يحمل قدرا ولو ضئيلا من المعرفة بالفن، يمكنه أن ينظر إلى ذلك اللوح باعتباره عملا فنيا كما شاء المزاد أن يقدمه. ما من أحد مضطر إلى تصديق كل ما يقوله السماسرة.
قبل أن أستطرد أعرف أن هناك من يفكر الآن بالرد على جملتي الأخيرة، بما يفيد أن ذلك اللوح انما عرض باعتباره عملا فنيا لانه ينتمي إلى ما صار يسمى بفن المفاهيم. كان جوزيف كوست قد عرض عمله (ثلاثة كراس) عام 1965. يتألف ذلك العمل من ثلاث قطع: كرسي، صورته ولوح شرح عليه مفهومه للكرسي. تاريخيا يعود المؤرخون إلى ذلك العمل باعتباره العمل الرائد لفن جديد سيسمى في ما بعد بفن المفاهيم أو الفن المفهومي. عام 1980 نشطت جماعة فنية في بريطانيا في مجال فن اللغة. عمل كوست وحده يُنظر إليه من جهة كونه عملا متحفيا، يؤرخ لمرحلة من مراحل الازمة الفكرية التي يمر بها العقل الغربي بين حين وآخر. كذلك الامر بالنسبة لأعمال جماعة اللغة في بريطانيا التي صارت جزءا من ارشيف الفن. هل كانت أعمالا فنية؟ لو اعتبرت كذلك فان ذلك انما يعد نوعا من الازدراء للفن والسخرية من تاريخه ومن صورته ومن وظيفته، بل وحتى من إنسانيته.
القول بتغير الفن لا يعني التخلي عن مقوماته ولا عن المؤهلات التي يجب أن يتحلى بها الشخص الذي نطلق عليه لقب (فنان). غير أن ما يجب أن نضعه في الحسبان دائما أن كل العصور، بضمنها العصور التي انتجت الروائع الخالدة كانت تغص بالفنانين من ذوي المواهب الضعيفة الذين استطاع بعضهم أن يتسلق السلم الاجتماعي وأن يفرض فنه على الآخرين من خلال شبكة العلاقات الخفية التي أقامها، والتي لم تبخل عليه بالدعم المادي والترويج الدعائي. غير أن كل ذلك الاستعراض لم يلزم التاريخ بشيء لا يمت إلى حقيقة الفن بصلة. لقد اختفى الزبد كله ولم يبق إلا ما ينفع الناس.
لقد احتفى النصف الثاني من القرن العشرين بالكثير من الظواهر الغريبة. بعضها ذهب الى المتاحف مثل ظاهرة كيث هارينغ، حيث صارت رسوم هذا الفنان التي هي عبارة عن تخطيطات مستلهمة من عالم المجلات المصورة توضع إلى جانب أعمال فنانين كبار من أمثال سي تومبلي وأنسليم كيفر. موت هارينغ بالايدز في سن الثامنة والعشرين ربما يكون سببا في تلك المبالغة، غير أن كل ذلك الاهتمام المتحفي لن يكون أبديا كما أتوقع. سيأتي اليوم الذي تستعيد فيه المتاحف عافيتها لتحترم نفسها وتعيد النظر بما مر عليها تلفيقا. وإذا ما أردنا الذهاب مباشرة إلى الحقيقة فان المتاحف هي الأخرى قد وقعت تحت ضغط الابتزاز. دائما كانت هناك تسويات، يتم من خلالها تمرير الاكاذيب مقابل الدعم المادي. هل علينا أن نصدق أن لوفر فرنسا، وهو رئة العالم التي تتنفس فرنسيا قد وافق على فتح فرع له في أبو ظبي من أجل نشر الوعي الفني وتطوير ذائقة الناس الجمالية؟ لا وعي ولا ذائقة ولا ناس، بل هي صفقة تجلب المزيد من الأموال بطريقة مهنية مريحة لا غبار عليها. إذا كان اللوفر، وهومؤسسة ثقافية عريقة يفعل ذلك، فما الذي يفعله سوثبي وهو مزاد، لا شأن لإدارته سوى بالربح السريع؟
لا علاقة للموضوع إذاً بمسألة التحولات التي صار الفن يشهدها ليقتحم بنا من خلال قوته عالم ما بعد الحداثة، وهو عالم تعددي، منوع، ديمقراطي لا يفرض خيارا بعينه، بل يضع كل الخيارات جاهزة على الطاولة من غير أن يخفي نقصانها. ذلك العالم اللازمني صار يستعين بتجرده من الاسلوب ليهب الشخصية الإنسانية طابع المسافر المغامر بين الازمنة كما بين الأمكنة. وكما أرى فان هناك تجارب فنية حية قد تمثلت بقوة وصرامة ذلك المفهوم الطليعي واستطاعت أن تغير من مسار الفن، مستخلصة الحكمة من فكرة العبور بين الحدود، وهنا أخص بالذكر تجربتي أنيش كابور وأي وي وي. وهما تجربتان يقف المرء أمامهما بإجلال، لا لأنهما تشفان عن وعي معاصر حسب بل لإنهما أيضا تعيدان الاعتبار إلى المهارة والخيال، ركيزتي الفن اللتين من غيرهما يمكن للفن أن يقول ‘أنا آسف لأنني لم أعد فنا’.
لقد استعملت اخيرا جملة ذلك الفنان بما يفيد.
سوثبي ضحك على الجميع، لكن هل هناك من ضحك عليه؟
سوثبي المستفيد طبعا لا يشكل إلا حلقة صغيرة من حلقات الدائرة التي صارت تحكم الخناق على الفن من أجل السيطرة عليه ومن ثم السيطرة من خلاله على ثقافة الناس. في تلك الدائرة لم يعد هناك وجود للمختصين أو النقاد أو المؤرخين.
هناك صحافيون وناشطون وقيمون. وهي وظائف مضللة، يُراد من خلالها خلق واقع بديل. واقع ينتمي إلى عالم رجال الأعمال. في جوف ذلك العالم تكمن كل المعاني التي صرنا نقف أمامها حائرين ومحبطين. هناك من فرض على سوثبي اللوح الخشبي المزين بمصابيح والذي يحمل عبارة (أنا آسف) باعتباره عملا فنيا. سوثبي من جهته فرضه على عملائه مثل لقية، سيزداد ثمنها بعد حين. سيقول مَن اقتناها ‘هذا سعر سوثبي’ لن يهمه الضحك من حوله.
ولن يصدق أنه كان مجنونا لحظة صدق ما قاله سماسرة سوثبي. هناك اكاذيب كثيرة صار عليها أن تمر.
هل صار علينا أن نصدقها؟ سيكون علينا في هذه الحالة أن نتحدث عن خيال أعمى. وهو الخيال الذي يقود صاحبه إلى أن يصدق أن ذلك اللوح الخشبي سيكون بمثابة لوح نجاة إذا حل الطوفان.
ولكن هل يُعقل أن شخصا دفع حوالى سبعين الف دولار لم يكن متأكدأ من أنه قد ظفر بشيء ذي قيمة؟ بالنسبة لي فانا هنا لست معنيا بمن دفع وبمن قبض ولا بالثمن الذي تم دفعه لقاء خشبة لا قيمة فنية لها، كما أنني لست معنيا بمصير تلك الخشبة بالرغم من أنني متأكد من أن أحدا لن يصدق أنها عمل فني.
ما يهمني حقا أن أؤدي واجبي في التحذير من الكذب الذي يقف وراء عمليات من هذا النوع، يمتزج فيها الابتزاز والارهاب الفكري بالدهاء والخبث لينتجوا عقلا مغيبا وخيالا مسيرا.

‘ شاعر وناقد من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Ali Mousawi Sculptor:

    الاخ الفاضل فاروق
    تحية طيبة
    المزادات البريطانية محيرة جداً في اختياراتها لاْعمال تسمى فنية وهي في الحقيقة اربكت العديد من الفنانين واقاقتهم… ياترى كيف ولماذا ولمن وما هي الغاية…
    والشخص الذي دفع مبلغ 70 الف دولار لعمل لاتتعدى تكاليفه الا بعض دولارات.ظاهرة احبطت العديد من المبدعين وتجاوزت على اساليبهم الفنية .. وهل ان هذا الفنان الذي قدم العمل يمكن تسميته فنان ..
    تحياتي

  2. يقول وليد شيت:

    صح ألسانك يافارق ,, مقالك هذا يثلج الصدر .. بجملة واحدة العمل الذي أشرت اليه هو (نكتة العصر ) وعملية البيع هي ( سمسرة معاصرة مابعد الحداثة) والمشتري هو في منتهى الغباء وأعتقد أنه الخبل المعتوه ( جورج بوش) . تحياتي لك .

    وليد شيت

  3. يقول صلاج زينل Salah zainal:

    … هو فن لكنه ليس فنا تشكيليا ..لأني فنان تشكيلي منذ اكثلر من ثلاين عاما ..واستاذ في أعرق مرفق فني بالعراق ..أقول ان هذا ليس فنا تشكيليا وليس له علاقة بالفن التشكيلي .. ممكن ان تكون له علاقة بفن أخر جديد ربما يمكن ان نسميه (( فن النصب )) والاحتيال على كزاذ سوثبي ورجال الأعمال الذين لايعرفون من الفن شيئا بقدر مايؤيدوا ان يصرفوا أموالهم في مجال يحقق لهم الشهرة ..وليس غير ذلك والدليل ما تتداوله وسائل الاعلام لهذا الموضوع الذي استطيع أن أتجرا واطلق عليه (( فن التفاهة والنصب )) ….. تحياتي لكم

إشترك في قائمتنا البريدية