حينما تحاور السينما صفاءها الأول: بصدد فيلم بيدرو ألمودوفار تحدث إليها
عبداللطيف البازيحينما تحاور السينما صفاءها الأول: بصدد فيلم بيدرو ألمودوفار تحدث إليها تعيش السينما الإسبانية منذ مدة فورة لافتة للإنتباه جعلتها تصل ليس فقط إلي الجمهور الأوروبي بل والعالمي كذلك وجعلتها تسجل حضورها في أكثر من محفل ومهرجان دولي عبر أسماء مثل فيرناندو طرويبا وألكس دي إكليسياس وفيـرناندو أمينابر وممثلات مرموقات وممثلين مرموقين أمثال بينولوبي كروز وماريسا باريديس وخافيير بارديم وأنطونيو بانديراس.و قد يكون المخرج بيدرو ألمودوفار، إلي جانب مبدع آخر هو لويس بونويل، أكثر السينمائيين الإسبان شهرة في تاريخ السينما العالمية وأكثرهم إثارة للجدل بالنظر لجرأته ولخياله الجامح ولاقترابه الدائم من مواضيع شائكة. وهو قد أنجز إلي حد الآن 15 فيلما من بينها العناوين التالية : كيكا و كعوب بعيدة و نساء علي حافة انهيار عصبي الذي كان مدخله إلي الإعتراف الهوليوودي ثم كل شيء عن أمي الذي حاز علي جائزة الأوسكار سنة 1999 وصولا إلي فيلمه الأخير التربية السيئة (2004). والمثير هو أن كل فيلم جديد لبيدرو ألمودوفار يشكل حدثا ثقافيا وفنيا ويكون مدعاة للإحتفال ولطرح السؤال تلو السؤال سواء بالنســـــبة للجمهور العريض أو بالنسبة للمختصين والنقاد ولم يشكل فيلمه ما قبل الأخير تحدث إليها Hable con ella (2002) خروجا عن هذه القاعدة المرتكزة علي سنوات من العمل المتواصل ورؤية ثاقبة للأمور؟- ب – يعتمد فيلم تحدث إليها علي مسارين حكائيين تقاطعا بفعل مصادفات نقبلها باطمئنان كبير، المسار الأول هو المسار الذي يجمع بين ليديا مصارعة الثيران الشجاعة وماركو الكاتب والصحافي البوهيمي، والمسار الثاني يربط بين الممرض بينينيو الغريب الأطوار وأليسيا راقصة الباليه الفاتنة. وقد التقي ماركو وبينينيو بالمستشفي في ظروف إستثنائية فكلاهما أصبح مسؤولا ومتعهدا لامرأة في أقصي درجات الإستسلام وفي حالة غيبوبة قد تكون نهائية، فأليسيا تعرضت لحادث سير ذات يوم ممطر وليديا كانت ضحية لطعنات عديدة من طرف ثور هائج بحلبة لمصارعة الثيران. وبالطبع، فإن هذا الوضع غير المألوف جعلهما براجعان الكثير من قناعاتهما وجعل علاقتهما تتطور بشكل سريع وتتعرض، في مدة زمنية وجيزة، لأكثر من اختبار عنيف.موضوعة المصادفة هي إذن، بالتأكيد، موضوعة مركزية في هذا الفيلم فالممرض بينينيو الذي تعود علي العيش وحيدا بعد وفاة أمه والذي لم يعرف عنه أنه ارتبط بإمرأة أخري، كان عاشقا لأليسيا وكان يسعده تأملها وهي ترقص بطريقتها الجذابة وهي تعطي الإنطباع بأنها منقطعة عن العالم ومكتفية بذاتها وببهائها. وهو قد عمل كل ما في وسعه للتقرب منها إلي أن لقيها أمامه بالمستشفي جثة تكاد تكون هامدة. كما سبق له أن التقي بماركو الصحافي وشده أن هذا الأخير كان يبكي بحرقة خلال عرض مسرحي. كما أن المصادفة هي التي جعلت ماركو يذهب لإجراء حوار صحافي مع ليديا مع أن مصارعة الثيران ليست تخصصه ومصادفة أخري هي التي أجلت إخبار ليديا لماركو بقرارها الإرتباط برجل آخر.- ج -وطوال الفيلم نشعر أننا إزاء ميلودراما بالنظر إلي أن موضوعة الموت حاضرة بقوة منذ البداية إلي ما يقارب النهاية وتتــــــواطأ الشخصيات مع بعضها البعض بمحبـــة وقسوة في نفــــس الآن؟ إلا أن ما نحتفظ به في النـــهاية هــــو أننا إزاء عوالم غيــــر عادية وإزاء شخصيات متفردة لا تستسلم للتــــصنيفات السهلة والجاهزة. وبما أن معظم الوقائع يؤطرها فضاء المستشفي المغلق بصمته وعلاقاته الملتبسة فإننا نكتشف بسهولة غني أو خواء العوالم الداخلية للشخصيات، هشاشتها أو قدرتها علي المقاومة.ومن التقنيات التي يعتمدها الفيلم كذلك تقنية التضعيف، تضعيف ما نشاهد من أحداث ووقائع وذلك قصد شرحها أو تأويلها وذلك عبر إثبات مشاهد مسرحية أو مقاطع من أفلام صامتة كان الممرض بينينيو يذهب لمشاهدتها ليحكي قصصها لمعشوقته النائمة أليسيا كما أن ألمودوفار يحاور هذه الأفلام رغبة منه في العودة بالسينما إلي أصولها الأولي أي نقائها الأول. مما يجعل من هذا الفيلم عملا كلاسيكيا، بالمعني العميق للكلمة، عملا أنجزه صاحبه بكل طمأنينة وحمله خلاصاته المتقدمة عن السينما والحياة وعن طبيعة الجسور التي تصل السينما بالحياة. وعبر هذا الفيلم رغب ألمودوفار في أن يبرهن علي أن السينما هي فن جامع لذا نجده يستثمر بإتقان ودهاء الإمكانيات التي تتيحها فنون أخري كالرقص والمسرح والتشكيل. وهذا البعد التشكيلي كان بارزا طوال الفيلم ولكن برز بشكل خاص عند اقترابه من مصارعة الثيران وطقوسها وألوانها وحركاتها المتميزة مما جعل الفيلم يقدم لنا معرفة فرحة بهذه الرياضة المثيرة للكثير من الجدل. ورغم أن الوقائع والأجواء تحيل علي انشغالات المجتمع الأسباني المعاصر وتشير إلي سمات من حياته اليومية إلا أن الحكاية أو حكايات الفيلم تتخذ طابعا كونيا وعابرا للأزمنة والمجتمعات وتشبه في بعض جوانبها المآسي اليونانية التي احتفظ بها تاريخ الأدب الإنساني.- د -إن فيلم تحدث إليها ! لبيدرو المودوفار يحكي عن الوحدة ومتعها وعن الألم وكيفية معاشرته وعن التواصل وضرورته في جميع الحالات والسياقات.ويحكي الفيلم كذلك عن معني محدد للمعجزة وارتباطها بالحياة أو منح الحياة وبالخصوبة وعن العشق وارتباطه المحير بالموت وأسراره وعن قوة الرجال حينما يبكون ويحكي بصفة خاصة عن السينما في إحدي أقصي درجات صفائها حينما كان الفيلم يتقدم إلي المشاهد صامتا، أعزل إلا من دهشته ورغبته في الإدهاش. كل ذلك عبر رصد الفيلم لتعامل الشخصيتين الرئيسيتين الممرض الغريب الأطوار بينينيو والصحافي التائه ماركو مع جسدين من المفترض أن يتواصلا معهما رغم أنهما في غيبوبة. يقول بينينو لصديقه ماركو: تحدث إليها. قد تسمعك. كل إمرأة هي بمثابة لغز . إن ألمودوفار يؤكد مرة أخري عبر هذا الفيلم أنه من أكثر المخرجين العالميين قدرة علي الإنصات للنساء، لأجسادهن وانشغالاتهن الدفينة، كما كان هذا الإنتباه مدخله للتساؤل حول فكرة الأسرة وتحولاتها وعن ضرورة التآلف والتصالح مع هذه التحولات كما نجد ذلك في فيلمه كل شيء عن أمي .- هـ -نتبين كذلك أن موضوعة التحول هي موضوعة مركزية في هذا الفيلم وخاصة الإنتقال من الحياة إلي الموت أو العكس وهكذا سينتحر بينينيو بالسجن بعد أن حملت منه أليسيا التي ستستعيد وعيها بعد أكثر من أربع سنوات من الغيبوبة وتعود إلي الحياة ربما بفعل حملها أي استجابة لنداء الحياة وسيعود ماركو من سفر طويل، دون سابق ترتيب واستجابة لنداء صديقه بينينيو، ليجد نفسه بأحد المسارح بالقرب من أليسيا التي انجذبت فورا، في نهاية الفيلم، لملامحه المتعبة وجعلتنا مضطرين لتخيل قصتهما المشتركة وجعلتنا نحس ببعض الإرتباك وكذا شعور بتواطؤ لذيذ مع هاتين الشخصيتين العميقتين والجذابتين.ناقد سينمائي0