حوار الحضارات وثقافة الاستسلام
د. يوسف نور عوضحوار الحضارات وثقافة الاستسلامعندما نشر المفكر الفرنسي روجيه غارودي كتابه من أجل حوار للحضارات في القرن الماضي أثار الكتاب اهتماما كبيرا في العالم العربي لأن غارودي كان من مفكري الحزب الشيوعي الفرنسي وزعمائه وكان تحوله للإسلام مثار اهتمام في جميع أنحاء العالم الإسلامي، واذكر أن جامعة الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية دعت المفكر الفرنسي للتحدث عن فكرته وكنت أحد الذين شاركوا في الحوار في تلك المناسبة وتطرقت إلي موضوعين يتعلقان بما أثاره روجيه غارودي.قلت له أولا إن أول جملة في كتابه هي أن الغرب عرض زائل فكيف يريد للحضارات الأخري أن تتحاور مع ما يعتقد أنه زائل، ولم أركز علي هذا الأمر كثيرا لأنني كنت أعرف أنني أستند إلي مدلولات لغوية وليس فكرية، ولكني قصدت جانبا اخر من حديثي عندما قلت له إن الحضارات الإنسانية لا تتحاور، بسبب عدم وجود حضارات إنسانية مختلفة إذ هي في الحقيقة حضارة واحدة، وعرفت الحضارة بأنها المكتشفات الإنسانية التي تخرج عن حدود الزمان والمكان، وضربت لذلك مثلا العجلة التي هي اكتشاف حضاري وليس مهما أن تستخدم في المحراث البدائي في الصين أو في الطائرة النفاثة في الولايات المتحدة، وينطبق ذلك علي كل الإنجازات الحضارية مثل الملابس والحكومات وغيرها، ولكن هذه المكتشفات الحضارية تتحول إلي قيم مدنية عندما نضعها موضع التطبيق، فتكون مدنيات مصرية أو يونانية أو أمريكية ونحو ذلك، وكل هذه المدنيات تتأثر إلي حد كبير بالقيم الثقافية التي ينتجها المجتمع، وبالتالي فإن التحاور لا يكون في مستوي الحضارات بل في مستوي المدنيات والثقافات التي هي متباينة بالضرورة بسبب اختلاف البيئات الإنسانية. وما نشهده الآن من صراع هو في الحقيقة بسبب اختلاف في أساليب المدنيات وكيفية تعاملها مع الآخر.ونلحظ بصفة عامة أن الحديث عن صراع الحضارات ومحاولة إيجاد لغة مشتركة للتعاون سببه اختلافات سياسية ومواقف فرضتها بعض الدول، وهي بالتالي لا تنطلق من رؤية شمولية في التعاون مع الآخر بل تنطلق من براغماتية سياسية تحاول أن تتجاوز أوضاعا أصبحت علي درجة عالية من التعقيد.ويمكننا أن نرجع الوضع الراهن إلي اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، ذلك أن المأساة التي خلفها ذلك الوضع في الولايات المتحدة فتح الأعين علي كثير من جوانب الضعف في المجتمع الإنساني ويشمل ذلك المجتمعات التي هي علي درجة عالية من التقدم مثل الولايات المتحدة بكون الاعتداء علي الولايات المتحدة كان يمكن أن يتم بأسلحة أكثر دمارا وبالتالي فإن الولايات المتحدة عندما أعلنت استراتيجيتها في محاربة الإرهاب كانت تدرك تماما أنها تريد أن توجه رسالة مباشرة إلي شعبها وهي رسالة لم تكن علي درجة كبيرة من القوة خاصة أن الولايات المتحدة ركزت علي محاربة ما سمته الإرهاب الأفغاني في وقت لم تكن فيه أفغانستان علي تلك الدرجة من القوة التي تسمح للولايات المتحدة أن تزعم أنها قدمت إنجازا كبيرا، وبالتالي بدأت تتجه واشنطن نحو هدف آخر هو العراق الذي أثار اختياره كجبهة جديدة من جبهات الحرب استغراب الكثيرين في العالم، أولا لأن العراق لم يكن في حالة عداء مع الولايات المتحدة وكانت كل الدلائل تشير إلي أنه كان من الدول المتعاونة مع الولايات المتحدة وثانيا لم يقم العراق بأعمال تهدد المصالح الأمريكية غير أنه كان في نظر إسرائيل واليمين المتطرف في الولايات المتحدة هدفا يمكن أن يقلل من التهديدات التي تواجهها الدولة العبرية كما أن الاستيلاء علي ثرواته النفطية ولو إلي فترة محدودة من الزمن يمكن أن يوفر امكانات هائلة للنخب المتحكمة في سياسة الولايات المتحدة ويمكنها من الاستمرار في السيطرة علي مدي عقود طويلة وبالتالي اخترعت الولايات المتحدة تهمة البرنامج السري العراقي لإنتاج سلاح نووي وأسلحة دمار شامل وهي تهم أثبت الواقع أنها باطلة وحاولت الولايات المتحدة التي خرجت علي الإجماع الدولي أن تقول بعد أن اتضحت حقيقة الحرب في العراق إنها تهدف إلي إقامة نظام ديمقراطي في ذلك البلد يصلح نموذجا لمشروع الشرق الأوسط الكبير، ولا شك أن فكرة الشرق الأوسط الكبير أثارت الرعب في كثير من الأنظمة العربية وفي مقدمها النظام الليبي الذي سارع بحل مشكلة لوكربي ودفع مليارات الدولارات من أجل الخروج من المأزق كما اعترف النظام بأنه كان يعمل في برنامج نووي سري قام بتفكيكه ولكن فكرة الشرق الأوسط الكبير لم تلق ارتياحا في دول مثل مصر والمملكة العربية السعودية اللتين كانتا تحتفظان في الأساس بعلاقات حسنة مع الولايات المتحدة، ولا شك أن تطورات الموقف في العراق وتحول هذا البلد من مشروع للديمقراطية في قلب الشرق الأوسط إلي مشروع للصراعات الطائفية أقنع الولايات المتحدة بأنه لا داعي للتسرع بهز أنظمة في الشرق الأوسط لا تمارس الديمقراطية وحكوماتها علي استعداد لأن تحتفظ بصداقة معها وتلبي كل مطالبها السياسية والاقتصادية، ولكن اقتناع الولايات المتحدة لم يوقف تحرك بعض الدول في اتجاه الحماية الذاتية وأهم هذه الدول إيران التي تدخل في جدل عقيم مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي، حيث تقول إيران إنها تسعي إلي امتلاك قدرات نووية لأغراض سلمية ولكن الولايات المتحدة تتهمها بأنها تسعي لامتلاك سلاح نووي، وعلي الرغم من أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أعربت عن عدم امتلاكها لأي دليل بأن إيران تطور برنامجا نوويا عسكريا فإن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة للولايات المتحدة التي تعمل في اتساق مع إسرائيل وتري أنها يمكن أن تخضع إيران لنفس الظروف التي خضع لها العراق، علي الرغم من اختلاف الوضع ذلك أن إيران تمتلك من قدرات المقاومة والدفاع عن نفسها ما لم يكن يمتلكه العراق كما أن الولايات المتحدة ربما لا تكون قادرة علي الدخول في مغامرة جديدة بعد مأزقها في العراق خاصة وهي قد فتحت جبهة جديدة مع سورية قد تكون مصدر تهديد لوجودها في العراق إذا ما قررت أن تتحرك في اتجاهها واتجاه إيران.ولا شك أن الولايات المتحدة لا تعجز عن قراءة الخريطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وهي لذلك تحاول أن تتبع أساليب جديدة يكون فيها أكبر قدر من الفائدة لدولة إسرائيل وتمكنها من الخروج من المأزق، ويبدو ذلك واضحا من خلال تحركها بالضغط علي سورية من أجل تحقيق مكاسب لإسرائيل في لبنان وفي المنطقة بأسرها ومن خلال الضغط علي السودان من خلال قضية دار فور الموجهة أصلا إلي إضعاف مصر مستقبلا ذلك أن السودان المقسم والمفكك سيكون مصدر ضعف لمصر وهذه حقيقة لم تلتفت إليها الحكومة المصرية بجدية حتي هذه اللحظة وهي تتعامل مع الصراع في دار فور وفي جنوب السودان وكأنه أمر لا يهمها مع أنه صراع يمس مصالحها الحيوية بشكل كبير وهي تستطيع أن تلعب دورا فاعلا من أجل المحافظة علي وحدة السودان لأن المستفيد الوحيد من تفكيك السودان هو إسرائيل.ونستطيع أن نقول إن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تكسب معركتها في الأرض العربية علي النحو الذي تريده بسبب التباين في الثقافات كما أن الدول العربية التي تلبي مصالح الولايات المتحدة ترتكب خطأ لا تعرف أبعاده الحقيقية بسبب عدم معرفتها بطبيعة العقل الغربي وأبعاده الثقافية، ذلك أن القوي الغربية بطبيعتها لا تعتبر التنازل في مرحلة من المراحل هو عربون صداقة بل هي تفسره علي أنه تعبير عن حالة ضعف مستمرة يمكن أن تتحقق من خلالها كثير من المصالح في العالم العربي، وهذه حقيقة أدركتها إيران وأدركها جمال عبد الناصر من قبل ذلك أن العالم الغربي يكون أكثر احتراما للدول التي تقف من أجل الدفاع عن مصالحها ولكنها لا تحترم الدول التي تتنازل عن حقوقها الأساسية حتي لو كانت تمتلك بعض مصادر القوة ونستطيع أن نتبين هذا الموقف بوضوح في علاقة الولايات المتحدة مع روسيا، ذلك أن روسيا تمتلك من القوة ما تستطيع أن توقف بها الولايات المتحدة إذا أرادت ولكن روسيا تنازلت عن حقها ولم تعد تلوح بهذه القوة وأدركت الولايات المتحدة ذلك وأصبحت تتعامل مع روسيا وكأنها دولة من دول العالم المتخلف، وعلي الرغم من معارضتها لبعض سياسات الولايات المتحدة فهي في آخر الأمر سترضخ وسنري قريبا كيف ستضحي روسيا بصداقتها ومصالحها مع إيران من أجل تمرير قرار بتوقيع عقوبات عليها. وربما كان الوضع في العالم العربي يختلف بعض الشيء لأنه علي الرغم من استسلام معظم الحكومات العربية لإرادة الولايات المتحدة، فمازال الشارع العربي الذي يخضع لمنظومة ثقافية مغايرة هو الذي يقف سدا ضد المطامع الأمريكية وذلك ما يجعل الولايات المتحدة تسعي من أجل أن تتحاور مع الثقافات تحت مفهوم الحضارات علي الرغم من عدم وجود أرضية مشتركة. ولا شك أن الولايات المتحدة لها تجربة سابقة مع ألمانيا النازية التي انطلقت من فكرة ثقافية عنصرية وحركت بها حربا عالمية ولكن ألمانيا في نهاية الأمر تحاورت مع العالم الغربي لأن الفكرة النازية كانت فكرة عارضة وهي تنتمي إلي الثقافة الغربية بصفة عامة ولكن العالم العربي ينتمي إلي ثقافة مغايرة وتاريخه مع العالم الغربي هو تاريخ الاستعمار والسيطرة، وبالتالي فإن العلاقات الثقافية مع العالم الغربي لا تقف عند حدود العلاقات الدينية، كما أن اختلاف العالم العربي مع العالم الغربي ليس بسبب الدين بكون المسلمين لا يعادون المسيحية وإنما هو اختلاف بسبب ثقافة الهيمنة والسيطرة والجشع الذي سببه الخضوع المستمر لمطالب الغرب وهو خضوع تمارسه الحكومات، ولكنه بكل تأكيد لن يستمر طويلا بعد أن شهدنا يقظة في بعض البلاد العربية مثل مصر وفلسطين التي فازت فيها حماس أخيرا وفاجأت بذلك العالم الغربي الذي لم يكن يتوقع مثل هذا الفوز، وما نخلص إليه هو أن الذين يسعون إلي ما يسمونه حوار الحضارات يجب أن يدركوا أن الحوار لا يكون بين قوي وضعيف ومحترم ومحتقر بل يكون بين ثقافات متباينة تنتمي إلي حضارة واحدة أساسها الاحترام وتبادل المنافع والمصالح.9