حرب طائفية صامتة
عبد الباري عطوانحرب طائفية صامتةارقام المستشفيات تفيد بان اكثر من الف وخمسمئة شخص يقتلون شهريا في العراق، وان الثلاجات لم تعد تستوعب جثث الضحايا، ورغم ذلك هناك من يجادل بان ما يجري ليس حربا اهلية، وان الاوضاع افضل مما كانت عليه في السابق.السفير الامريكي في بغداد زلماي خليل زاد اقدم علي اعتراف نادر في حديث ادلي به لصحيفة لوس انجليس تايمز قبل يومين بان غزو العراق فجر صراعا طائفيا وبات يهدد باشعال فتيل حرب اقليمية، وتوسيع نفوذ قوي التطرف الاسلامي، وهو تطرف يجعل مثيله الطالباني (نسبة الي حركة طالبان وليس الي طالباني السليمانية) مجرد لعب اطفال علي حد وصفه.هذه الحقائق يعرفها الجميع باستثناء الرئيس الامريكي جورج بوش ورجالات المشروع الامريكي من العراقيين القادمين مع قوات الغزو من الخارج. فهؤلاء يكابرون ويرفضون الاعتراف بخطيئتهم في تدمير هذا البلد وتحمل مسؤولية المقابر الجماعية اليومية التي يرتكبونها في حق ابنائه.فبينما يُفجع العراقيون يومياً باكتشاف عشرات الجثث المجهولة الهوية، المقيدة الارجل واليدين، والمعصوبة العينين، والمجهز عليها برصاصة في مؤخرة الرأس، تنشغل النخبة في صراعاتها حول تقسيم كعكة سلطة وهمية، ووزارات اسمية، ومناصب ليس لها وجود علي الارض.لا احد يريد ان يعترف بالمسؤولية عن الكارثة الراهنة. الحكام الجدد واتباعهم ما زالوا يستخدمون شماعة الرئيس العراقي صدام حسين ويحملونه المسؤولية عن كل شيء حدث في الماضي، ويحدث في الحاضر، وسيحدث في المستقبل حتي لو بعد الف عام. ويصورون انفسهم علي انهم الملائكة الاطهار، فرسان الانقاذ، وعهدهم هو اكثر عهود العراق ازدهاراً وديمقراطية واحتراما لحقوق الانسان.دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي يشترك مع الجعفري والحكيم وعلاوي والطالباني في المكابرة نفسها، ويصر هو الآخر علي ان ايران هي السبب، لانها ترسل عناصر الحرس الثوري الي العراق لبذر بذور المشاكل والاضــــطرابات. ويقول بالحــــرف الواحد يقومون حاليا بارسال اناس الي العراق لارتكاب اعمال مضرة بمستقبل العراق، ونحن نعرفها، وسيندمون عليها .. صح النوم.الوحيد من بين العراقيين الجدد الذي اعترف بخطئه عندما ايد الغزو دون تحفظ وراهن علي عملية التغيير من خلاله هو الدكتور كنعان مكية، الذي قال في مقالة كتبها لصحيفة بريطانية ان غزو العراق دمر كل مقومات الدولة، وحول البلاد الي فوضي، وسلم القيادة الي المعممين. اما المثقفون العراقيون الآخرون الذين كانوا يملأون الكون ضجيجا حول حقوق الانسان، والليبرالية، والعدالة، والمقابر الجماعية والعراق الجديد الذي سينمو من بين جنازير الدبابات الامريكية، فقد التزموا الصمت المطبق، ومن النادر ان نسمع لهم صوتا علي الفضائيات العربية.ثلاثة اشهر مرت علي اعلان نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية التي قيل لنا انها ستكون البلسم الشافي من كل الامراض وستقود الي مرحلة جديدة من الامن والاستقرار، لانها جرت بمشاركة الجميع، بما في ذلك الاحزاب والجماعات السنية، ولكن هذه النبوءة لم تتحقق ولا يبدو انها ستتحقق، فالاوضاع تزداد سوءا، وقوات الامن والشرطة باتت الاكثر انتهاكا للأمن، ومشاركة في اعمال القتل الطائفي، وممارسة ابشع انواع التعذيب ضد الخصوم. فهي التي تقتحم المساجد وتقتل المصلين وهي التي تكسر بوابات السجون وتقضي علي كل نزلائها، وهي التي تنتهك الاعراض، وتقتاد النساء سبايا.مئة وخمسون الف جندي امريكي، وخمسون الفا من القوات المتعددة الجنسيات، ومئتان وخمسون الفا من قوات الامن والشرطة العراقية، ومع ذلك لم يستطيعوا ولن يستطيعوا حكم ربع بغداد، واعادة الماء والكهرباء اليها، وتوفير الامن والطمأنينة لاهلها. وهم الذين ضحوا بمئة الف شهيد من ابناء بلدهم، ومئات الآلاف من الجرحي، وملايين المشردين الذين هاجروا الي الخارج طلبا للسلامة، من اجل ان يحققوا شهوتهم في الحكم الذي سرقه منهم الآخرون.العراق لن يصدر الديمقراطية الي دول الجوار بل التطرف والحرب الاهلية، هذه هي الحقيقة المرة التي لا بد من الاعتراف بها من قبل من سهلوا الغزو والاحتلال، ورقصوا علي جثث ضحاياهم من الابرياء العراقيين، فالعراق لم يعد افضل، نقولها بالفم الملآن وان كانت ارصفته تزدحم بصحف بائسة مول معظمها الاحتلال الامريكي او اموال الفساد والسرقات المنهوبة من قوت العراقيين المعدمين.زلماي خليل زاد يري ان قوات الامن العراقية باتت مخترقة من قبل الميليشيات الطائفية، ولا بد من اعادة بنائها من جديد علي اسس غير طائفية، وبادخال المزيد من العناصر السنية، وتأسيس حكومة وحدة وطنية كمخرج من الأزمة الراهنة.فككوا مؤسسات الدولة، وحلوا الجيش العراقي، المؤسسة العسكرية الوحيدة غير الطائفية، واعتبروا السنة جميعا، بعثيين. والآن يريدون حل قوات الامن التي أسسوها كبديل قبل اقل من عامين، وانفقوا علي اعدادها وتدريبها وتسليحها المليارات.سياسة امريكية متخبطة تدفع المنطقة بأسرها ثمنها الباهظ من امنها واستقرارها، وليس العراق وشعبه فقط، وهناك من هو مستمر في مساندة هذه السياسة للأسف الشديد.بكل اسف ومرارة نقول ان الاوضاع في العراق باتت مستعصية علي الاصلاح، ومرشحة للمزيد من الانهيار والعنف الطائفي فقد حولوا العراق الي معمل تجريب للديمقراطية من قبل اناس غير ديمقراطيين وسلموه لأناس اكتشفت واشنطن متأخرة كعادتها انهم طائفيون ليمارسوا فيه احقادهم الطائفية، والنتيجة نراها علي الارض حاليا خرابا ودمارا ودموية.جميع من شاركوا في المشروع الامريكي الذي اوصل العراق الي هذه الهاوية، من عسكريين وسياسيين ومثقفين، عراقيين كانوا ام امريكان وبريطانيين، هم مجرمو حرب، تجب محاكمتهم، وفي اسرع وقت ممكن، قبل ان يزجوا بالمنطقة في حرب نووية للتغطية علي فشلهم في العراق.