حديث خرافة يا أم عمرو!

حجم الخط
0

حديث خرافة يا أم عمرو!

أحمد المديني حديث خرافة يا أم عمرو! حكيہ أعرابي أن الجن تخطفته، وطافت به في مناطقها بين أرض وسماء، وزعم أنه شاهد عجائب وسمع غرائب، وهو ما أخذ يرويه لبني عشيرته الذين ما صدقوا قوله، واستكثروا عليه ذلك فقالوا عنه حديث خرافة يا أم عمرو! . وسُمع عن الشاعر العباسي ديك الجن قوله: أأترك لذة الصهباء عمدا / لما وعدوه من لبن وخمر حياة ثم موت ثم بعث / حديث خرافة يا أم عمرو! أما أنا فأعرف طفلة رباطية إسمها ميسان، ِلعبها ُيسلي، وهي لي في خاطري كظلي، لها أسلوب في التفكير طريف، شأن أبيها صديقي الأديب اللطيف. فهي عندما يستعصي عليها أمر، أو تختلف مع نفسها، تذهب وتجيء في صالة البيت واضعة يديها إلي الخلف ورافعة صوتها إلي السقف يعود إليها مع الصدي، وتظل هكذا إلي أن تنسي أوتستعيد كالعقلاء ُرشدها، أوْ لا.. أنا مثلها الآن، كل شيء مستعص عليّ حتي إني لم أعد أجد، فإن وجدت لا يشبعني ما وجدت، يظل يهيج بي وجدي ِلما بعد لمّا أجد. عندئذ أستحضرها كجنية رشيقة، أقول لها ماذا أنا صانع يا ميسان بين صبابة تشدني إلي جبل العلم، لصاحب أشهر من نار علي علم، ولصاحب أغلي، جبله في تنقوّب ، القلب من محبته، لو علمت يذوب؟ تأخذني من يدي، تحملني إلي علٍ ونطير في السماء بأجنحة الملائكة، وتحط بي أخيرا في هذا المجلس، وتطلب مني أن نمثل ونحلم ونتكلم بصوت كالكلام، أو صبيب الغمام، ماذا لو استطعنا أن نغنّي: يا سادة، يا كرام، ماذا يملك كاتب إذا تكلم غير الأوهام أو أضغات أحلام، ولذلك ُسمّي معادل كلامه عند أجدادي العرب حديث خرافة يا أمّ عمرو! . أن نجيء به هنا، لمجلس التنبؤ إما مفارقة، أو إحياء لنبوة لها خاتمها ليختمها، كيف؟! فهي بالأحري مجازفة. أما إن شئتم الحقيقة فهي عندي تعطيل لوقتي، وإبطاء للجموح الذي انطلق عندي منذ ما يناهز ثلاثين عاما، أي المستقبل الذي ربما تفكرون بالالتحاق به اليوم، أو غدا، أم تراكم ستحلمون بالإبحار نحو ماذا؟ بهدوء لم أعهده في ّ، وثقة لم تتخل عني أبدا، أقول لكم : نحو أمسي . ومن جديد لماذا؟ أعود أقول لأنه لا مبدع حقيقياً ـ رغم نسبية هذه التسمية في هذا الزمن الأغبر الذي يتسلل فيه الأقزام والمغشوشون ليلعقوا في ِجفان الكبار ـ إلا ويحاول الالتحاق بزمن مضي، ولا توجد تسمية للرومانسية أو معادل غير النوستلجيا، التي تعني ُعصاب الحنين لا الحنين الفطري، ومن ثم ّ فإن أي نبوءة للكاتب (أخاف أن أقول الشاعر، دعك من أن المبدع في مغرب اليوم تحول إلي مزحة لا تقل ازدراء عن وضع الشعر علي العموم )؛ إن أي نبوءة تقود إلي نقيضها، خارج دوافع المنافع الوقتية، أي حيث نجهل أين نمضي، مستبقين سؤال الشغف: وبعد لماذا نصر علي أن نمضي، وأنا أحب أن أجدد السؤال الآن أمامكم، إن استطعت أن أصرخ بملء حنجرتي، بالغضب الذي فات، والموت الذي من كثرة ما استقر مات؛ أن أصرخ إنني في وضع من لم يعد ينتظر شيئا، ولذا فليس لأحد أن ينتظر مني أيّ شيء، أنا الذي وضعت بيضي قبل ثلاثين سنة خلون، ثم أتاها ثعلب فأكل الحمائم، ولذا، أيضا، أشعر كأني شيخ هرم، في مجلس سيفسد بظله الثقيل علي أهله ما هم فيه من مرح، ويبغون لمجلسهم من فرح ؛ الأفضل عندي أن أمضي فلا أعديكم بقرحتي الرومانسية، ولكم تمنيت هذا لولا، لولا أني، كما أسلفت، واقع في تقاطع فرقدين، ولا فكاك لي معهما، معكم، إلا هذا المابين، لا انتهازا، ولكن اتباعا لسلف صالح علمنا أننا في الملمات يمكن دائما أن نبحث عن مخرج لنا بالجلوس في المنزلة بين المنزلتين. تعالوا معي إلي المنفعة قليلا، ذلك أن افتراضي كاتب سرديات أو روائيا يطرح علي الوعي بما أفعل، من باب الإدراك قبل التخييل، غير أن إدراكي كروائي ينشد إلي الماضي، إذ لا رواية إلا عن ماض اكتمل، أو هي تحقيق أو تعليق صحفي، كما أن الشغل الأساس للروائي هو أن يسد ثقوب االماضي، أي أن يعيد تخيل ما فات بالطريقة المثلي، فهذه هي طريقته في معالجة الغد، والتفاؤل به ما أمكن. ليست الرواية بهذا المعني هي الخيال بل وعي العالم باستعادته متخيلا، ونظن أنها أفضل وصفة لاستشراف الغد. وحين أتطلع من شرفة نصوصي أقول، مثل فيتوريو غاسمان (الممثل الإيطالي الشهير) إن مستقبلي ورائي ـ مستقبلنا نوعا ما ـ وأضيف: الذي لم يتحقق. وإذن ما العمل؟ وخاصة بالنسبة لجيلنا الذي عاش الوطنية، والنضال، والالتزام، والقمع، وخيبة الأمل، والبوار، وها هو اليوم علي حافة الصمت الرهيب يحاول أن يصعد من قاع البئر، ليقول، ليحلم ـ هما عندي سيان ـ لكن بكلمات جف فيها ماء المعني، فكيف برحيق الروح؟! للبحث عن جواب ذي منفعة، كما هو المطلوب لهذا المقام، نحتاج إلي المثقف، أوعلي الكاتب أن يُشغّل النصف المفكِِّر فيه، علما بأنه لا يطير في الهواء: إن قدميه راسختان في الأرض ورأسه َوْكنٌ تنطلق منه الأسراب كل وقت إلي كل مكان. والمثقف هنا بالتعريف الذي أعطاه Kenzaburo روائي اليابان الكبير (نوبل 1994) هو ذلك الشخص الذي يستطيع وينبغي أن يتكلم كهاٍو خارج حقل اختصاصه، ليذكّر بأن هنالك طرقا أخري للنظر، ولتصورالواقع، تختلف عن تلك المطروقة في الخطاب المهيمن . ولا يوجد غير الاعتراض علي السائد المبتذل، المدجن، المكبل للإبداع والحقيقة ما يساعد علي هذا المنظور. وعطفا علي هذا نجيز إضافة ما قاله نوبلي آخر ( هارولد بنتر 2005 ) من أن الفرق بين الإبداع الأدبي والفني وبين السياسيين هو أن الإبداع يقوم علي البحث عن الحقيقة بينما صارت السياسة ملعبا للكذب معناه أن أحد عناصرالتمييز الكبري بين السياسة والأدب هي الحقيقة. طبعا هذا مفهوم إشكالي، فضلا عن أنه نسبي، ولكن هذا الوضع بالذات ما يسمح للكاتب بأن يحشر أنفه كهاوٍ في شؤون أكبر منه، بواسطة الخيال من غير شك، ولكن وهو يسير دوما علي شوك الواقع، يكسر صخره، ويلقي فيه بذور الرياحين والاستعارات. إن الأدب لا يتعالي علي التاريخ وإنما هو في صميم معركته، وباستعادة (بنتر ) فلكي أكون كاتبا لا بد أن أكون مواطنا أولاً. بذا فإن أحلامنا ولدت معنا، وغدنا يسير معنا حذوك النعل بالنعل، لا كساعات أو عقود، وإنما كرؤي ورؤيات، والباقي أتركه لأولئك الذين تعوّدوا أن يملأوا أشداقهم بالكلمات الكبيرة ليقينهم أنهم يملكون الحقيقة المطلقة عن كل شيء، وهؤلاء ليسوا في حاجة إلي الشعراء والروائيين. هم في غني عن المجاز والحبكة، عن المبدعين الذين لا يملكون ـ إن ملكوا ـ غير الكلمات، بالريح التي تعصف في رؤوسهم، يحسبون أن هاجس الإبداع هو ما سينقذ البشرية من كل مخاوفها. بالضبط، فهذه هي القضية وهو الملاذ في آن: يبقي هاجس البحث عن المعني، وكل ما أريده في النهاية هو أن تمتلئ كلماتي بالمعني.. غدا.. عساه لا يفوت مرة أخري. وأنا في طريقي إلي المستقبل، التفتّ ناحية ميسان التي كانت قد صارت امرأة هيفاء فوجدتها تطل من شرفة شقتها، وإلي جانبها طفلة تشبهها، وهما معا ينظران إلي الأفق حيث مغيب الشمس. أشارت لصغيرتها قائلة: أترين هناك، ذلك الشفق الأخير، إنه عمو أحمد المديني، إنه يلوّح لنا بيده وهو ذاهب، فعلينا أن نودعه أيضا ونتمني له رحلة سعيدة ؛ وانظري فقد ترك لنا اللون الأرجواني، وبعد قليل ستسطع النجوم، ومعني هذا أن الجو غدا سيكون صحوا، والسماء زرقاء صافية الأديم. كاتب من المغربقدمت هذه الورقة في ندوة نظمتها المندوبية السامية للتخطيط بتعاون مع المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب حول توقعات المبدعين المغاربة في أفق سنة 2030، وذلك بالرباط بتاريخ 16ـ12ـ2005. 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية