حديث الثروة.. وحديث الثورة ايضا

حجم الخط
0

مخطئ من يظنّ أنّنا نتوخّى التلاعب بالألفاظ في مقالنا اليوم فنبحث في برنامج شهير لفضائية عربية غنية عن التعريف، يكاد يحمل نفس عنوان مقالنا.. يكادلأنه لا يحمل نفس العنوان.. وحديثنا فعلا حديث الثروة وليس حديث الثورة.
ولكن مصيب من يتوقع أن يكون حديث الثروة، الذي يشكل موضوعنا، مرتبطا بانعكاسات الثورة وتبعاتها.. وحديث الثروة في موضوعنا هو، أساسا، حديث الثروة البشرية. والثروة البشرية، وقود الثورة، قلما وقع الحديث عنها في ما وقع من حديث عن الثورة. وإن رأى البعض أنّ في هذا المقال ردّ اعتبار لحلقة مفقودة ومظلومة من أحاديث الثورة، فليس بعيدا عن الحقيقة.
غير أنّ حديثنا لا يتوقّف عند رد الاعتبار لطرف مظلوم من كلام المراقبين ولا عند ترحم على أرواح شهداء الثورة، وإن كان هذا وذاك لا يفارق مشروع صاحب هذه السطور، طبعا.
فحديثنا عن الثروة البشرية الهائلة، التي شرعت في كتابة سطور جديدة من مؤلّف جديد، هو حديث عن هذه المئات من المدوّنين الذين رصدوا تحرّكات ذويهم ونسّقوها ليصبح نتاج رصدهم وتنسيقهم زخما جارفا أوصل نظما وهياكل إلى نقطة اللاعودة. وحديث الثروة هو أيضا حديث عن الكهول والشيوخ الذين عاشوا وشافوا، حسب العبارة العامية الشائعة، عاشوا وشافوا ليحدوهم أمل معاشرة مشهد جديد ورؤية ما لم يعيشوه ولم يروه: مشهد فيه يتمتع أبناؤهم بكرم عيش يسدّ حاجة، وجودة تكوين يضمن تكافؤ فرص، ومكانة في المجتمع تقوم محفّزا لبناء غد أفضل.
ولكن حديث الثروة هو أيضا الحديث عن حالة هؤلاء وأولئك الآن، حالة الملايين من الأشقاء والشقيقات الذين يقفون في قاعة الانتظار ليترقبوا نتائج خطواتهم، إذ حديث الثروة هو أيضا حديث عن حالة الجمود والشلل التي أصابت اقتصاد أوطان وألهبت نعرة طوائف وأجّجت مشاحنة إيديولوجيات… فحديث الثروة هو أيضا، ومع الأسف، حديث عن إهدار الثروة.
تمكّنت تونس من استعادة شيء من عافيتها الاقتصادية بإبقائها على وتيرة الرحلات السياحية التقليدية إليها فتلك، وإن قلّت كثيرا عما سبق، ظلّت على منسوب أتاح للقطاع الاحتفاظ بشيء من الحيوية.
أمّا مصر، فأين هي من الحيوية التي كانت قد جعلت من البلد مقصد أفواج زوار ما ان يتقاطروا على مآثرها حتى يشرعوا في فقدان كل علاقة بالفضاءات والأزمنة الواقعة لتملك عليهم مجامع عقلهم أجواء الشرق الساحرة الأبدية؟ ثم أين مصر اليوم من إنتاجها التلفزيوني والسينمائي الإعلامي الهائل؟ وهنا لن يفوتنا استحضار أنّ دخول عهد ما بعد الثورة الجديد تميز على هذا الصعيد بمحاصرة مدينة الانتاج الاعلامي، التي يفترض لها أن تشعّ قطبا لحرية التعبير والإعلام والإبداع في ربوع البلاد وتصدّر نتاج عملها إلى عالم عربي متعطّش لابتكار سمعي بصري يواكب تطوّراته الراهنة وآماله المستقبلية.
ثم حديث الثروة البشرية لما بعد الثورة هو أيضا حديث عن المثقفين والمفكرين… أين هؤلاء من المشهد الثوري؟ أين الأساتذة؟ أين الكتاب؟ أين مكوّنو الشباب؟ أيمكن اعتبار مجرد مرافقة كلامية متماشية مع الـ’خط’ عنصرا نافعا وفاعلا ومثمرا؟ أيكفي مساهمة استخدام لغة التنديد والنقر على أوتار الوعد والوعيد والتكهن بالويل والثبور وعظائم الأمور لنعود الى منازلنا مثلجي الصدور بعد أداء الواجب ‘على أكمل وجه’؟
يا معشر الباحثين والأساتذة والكتاب والإعلاميين، لقد صار الموضوع أخطر من أن يستسيغ قبوعنا في منابرنا، وجلوسنا على مدرجاتنا، وابتساماتنا امام كاميرات استوديوهاتنا الساخنة والمكيّفة، واحتساءنا ما طاب لنا من المشروبات في مقاهينا المألوفة.. الأمر صار أكثر استعجالا من أن يرتضي لتريّثنا في أخذ زمام أمور تثقيف شبابنا، في مدّهم بالعدّة الكفيلة بتمكينهم من المحاجحة والمحاججة المضادة، في مساعدتهم على النهل من وجهات نظر ووجهات نظر مناقضة، في حثهم على الإلمام بأمهات الكتب وأعمال كبار الكتاب، في تعليمهم كيفية اتقانهم لغة عربية فصحى سليمة، ثم إنكليزية ففرنسية فما تيّسر من غيرها. لقد بات الأمر أكثر من عاجل لنقفز فوق مناقشات أرائكنا الوثيرة وفذلكات ندواتنا المثيرة لنعلن بفصيح العبارات حربا على الجهل المنتشر اساسا من قلة عنايتنا بتكوين شبابنا. فحديث الثروة، أصلا، يبدأ من هنا. و’حديث الثورة’ أيضا.

باحث أكاديمي فرنسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية