حدث بالجزائر.. قصة حب احرقت مدينة

حجم الخط
0

حدث بالجزائر.. قصة حب احرقت مدينة

عابد شارفحدث بالجزائر.. قصة حب احرقت مدينة فيصل شاب جزائري عادي جدا. انه لم يكن يمارس السياسية ولم يكن نجم كرة قدم. كان فيصل يشتغل حدادا في البلدة التي يسكنها، زرالدة، غرب العاصمة. بلدة معروفة بشواطئها الجميلة ومنتجعاتها السياحية العديدة. لكن فيصل يعيش بعيدا عن البحر، حيث كان يقطن في منزل تقليدي مع عائلته رغم أنه تجاوز الثلاثين. وكان فيصل يقضي وقته بين العمل والأحلام، وأكبر حلم له هو الزواج من فتاة يحبها، فتاة تسكن نفس البلدة، سبق له أن غازلها فاستجابت له، وخطبها من أبويها فقبلته. ثم جاءت المأساة.في ليلة السبت 4 الي الأحد 5 اذار (مارس) الجاري، علي الساعة الثالثة صباحا، توجه فيصل الي مقر الشرطة في زرالدة. وكان يحمل معه شاقورا مخبأ تحت ثيابه. وفور دخوله مقر الشرطة، توجه الي أحد رجال الأمن القائم بالمداومة، فسدد له ضربتين أصابته بجروح خطيرة في ذراعيه، لأن الشرطي الذي فوجئ حاول أن يدافع عن نفسه بيديه ولم يتمكن من استعمال سلاحه. تدخل شرطي آخر فتلقي بدوره ضربة أصابته في الكتف، فتراجع الي الوراء. وعاد فيصل بشاقوره ليضرب الشرطي الأول، وعندها، قدم شرطي ثالث فاطلق النار من مسدسه علي فيصل أربع أو خمس مرات، فارداه قتيلا.وكانت قصة حب سبب هذه المأساة. فكان فيصل ينوي الزواج من خطيبته، لكنه لاحظ قبل أشهر أنها ليست متحمسة للزواج منه، ثم قالت انها تريد اعادة النظر في علاقتهما. وسمع فيصل كلاما عن علاقة تكون قد أقيمت بين حبيبته وأحد رجال الشرطة العاملين في زرالدة. ويقول أصدقاؤه أن الشرطي احتقره بطريقة أو أخري، فقام ذات ليلة علي الساعة الثالثة الا الربع، وقال لأمه التي سألته عن سبب هذا الخروج المبكر أنه ذاهب الي المسجد ليصلي صلاة الفجر، لكن توجه الي مقر الشرطة الموجود علي بعد 300 متر لبثأر من الشرطي الذي أهانه، فكانت الفاجعة.انتشر خبر وفاة فيصل في المدينة صباح يوم الأحد. وقال أصدقاؤه ان رجال الشرطة قتلوه لأنه رجل بسيط، ليست له سوابق عدلية، ويعرف في المدينة أنه ناس ملاح أي أنه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر. وتجمع الشباب في مدينة زرالدة طيلة الصبيحة، وشكلوا مجموعات ليتحسروا علي ما وقع. وبعد الظهر، كانت أعدادهم هائلة في شوارع المدينة، وكان التوتر واضحا في شوارع البلدة الهادئة. وفجأة اشتعلت الشرارة.لا يستطيع أحد أن يقول كيف بدأت المواجهة ومن رمي الحجرة الأولي. لكن بسرعة فائقة تحول الشارع المؤدي الي مقر الأمن الي ساحة معركة بين شباب المدينة وقوات الأمن، حسب سيناريو معتاد تعلم الجزائريون أن يعيشوا به منذ أحداث تشرين الاول (أكتوبر) 1988، لما اندلعت مسيرات احتجاجية كبري زعزعت النظام القائم آنذاك ودفعت السلطة الي اقامة التعددية الحزبية. وتعلم الشباب أن يحتجوا بعنف بطريقة تشبه تلك التي يستعملها الفلسطينيون أثناء الانتفاضة.ومرت البلاد بعد تشرين الاول (أكتوبر) 1988 بمرحلة ديمقراطية لا مثيل لها، مع بروز أحزاب وجمعيات وصحافة حرة. وتركت هذه المرحلة أثرا كبيرا في السلوك السياسي والاجتماعي للجزائريين، قبل أن تدخل الجزائر عشرية حمراء علي اثر ايقاف الانتخابات في كانون الثاني (يناير) 1992 وتمرد الاسلاميين. وخلفت الحرب الداخلية ما يقارب 200 ألف قتيل، قبل أن تشرع السلطة والمجموعات المسلحة في مفاوضات أدت الي العفو عن المتمردين شريطة أن يتخلوا عن السلاح ويغادروا السياسة. وتم تنظيم استفتاء في ايلول (سبتمبر) الماضي للموافقة علي هذا المشروع الذي تبناه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وصدرت القوانين الضرورية لتطبيقه هذا الأسبوع.لكن سكان زرالدة لم يخرجوا الي الشارع ليساندوا مشروع الرئيس بوتفليقة أو يعارضوه، انما خرجوا الي الشارع للاحتجاج ضد ما يسمونه الحقرة ، وما يعتبرونه احتقارا للمواطن البسيط من طرف السلطة بمختلف مكوناتها، سواء كانت ادارة أو قوات أمن أو جيش. وبطبيعة الحال فان السلطة لا تعتبر هذه الظاهرة التي انتشرت احتجاجا، بل تصفها بأنها أعمال شغب .وفعلا، قام المحتجون في زرالدة بحرق احد البنوك العمومية. وأثناء الهجوم علي هذا البنك، حاول أحد العاملين أن يفر بجلده فحاصره المتظاهرون، لكنه قفز من النافذة بالطابق الأول فأصيب بكسور في رجله اضطر بعدها الي تلقي عملية جراحية تركته معاقا جزئيا ما تبقي من حياته. وأغلبية المحتجين يعرفون هذا الموظف في البنك، لأنه هو الآخر الصديق والجار. لكن ذنبه أنه كان في مكان اختار المتظاهرون أن يهاجموه لأنه أقرب المباني العمومية من مركز الشرطة. وتحولت شوارع المدينة الي ساحة معركة خلال دقائق قليلة. أقيمت المتاريس وأحرقت العجلات المطاطية في الشوارع، وبرز زعماء جدد لقيادة الاحتجاج، معظمهم شباب عاطلون وجدوا فرصة لتصفية حسابات مع سلطة أو ممثلي سلطة يعتبرهم سبب المأزق الذي يعيشه هؤلاء الشباب.ويبقي الخبراء في علم النفس وعلم الاجتماع محتارين أمام هذه الظاهرة التي انتشرت في الجزائر حتي أنها أصبحت الطريقة الوحيدة للاحتجاج. ويقول أحد متتبعي هذه الظاهرة أن هناك عنفا موجودا بكثافة في المجتمع، يجد فرصة لاستعماله في مثل هذه الظروف . ويضيف أن الحرمان لا يجد أحزابا وجمعيات ذات مصداقية لتأطيره، فينفجر بطريقة عشوائية .ويقول أحد أبرز علماء الاجتماع في الجزائر أن السلطة الجزائرية دمرت كل المؤسسات التي يمكن أن تحتوي غضب الشارع وتستعمله بطريقة سلمية، ولم يبق أمام المواطن الا العنف ليؤكد أنه موجود . ويضيف أن تجارب السنين الماضية أكدت لهؤلاء الشباب أن طريقة الاحتجاج هذه انتحارية ولا يمكن أن تؤدي الي نتيجة، لكنهم لم يجدوا أحسن منها ولا بديلا لها . ويبقي اختيار كل الأطراف متعلقا بموقف السلطة التي تعرف جيدا أن المجتمع قد أصبح خاليا من كل الهياكل التي يمكن أن تلعب دور الملجأ أو الحَكَم، لكنها لا تقوم بأية مبادرة لتغيير الوضع، مما يجعل أعمال العنف هذه وسيلة احتجاج في البلاد كثيرا ما تؤدي الي سقوط ضحايا. ففي يوم 7 آذار (مارس)، أشارت جرائد محلية الي مظاهرات مماثلة في أربع مدن مختلفة، في مدينة خميس الخشنة، قرب العاصمة، وفي مدينة القل، بشرق البلاد، وفي الوادي، بالشمال الشرقي للصحراء، وأخيرا في برج منايل، بمنطقة القبائل.ورغم اختلاف الأسباب التي تؤدي الي الاحتجاج، فشكلها معروف، مع المواجهات وحرق المباني العمومية وجرح أو قتل عدد من المواطنين أو رجال الأمن. وهي لا تعبر عن مطلب ما في أغلب الأحيان، انما تعبر عن وضع بسيكولوجي جماعي متأزم، لأن أغلبية الناس يحسون أنهم في مأزق . ولاحظ وزير أول سابق مثلا أن الكل يشكو في الجزائر، فالغني يشكو لأنه ليس مطمئنا والوزير يشكو لأنه لا يعرف ماذا سيحدث غدا. فكيف يكون وضع المواطن البسيط في مثل هذه الحالة؟ .وما يزيد قلق الجزائري هو ذلك الشعور أن الطرق القانونية والسلمية لا توفر له مخرجا، مما يدفعه الي تصرف شبه انتحاري بتخريب المنشآت التي أقيمت لفائدته مثل المدارس ومقرات البلديات وغيرها. ويقول مختص في علم النفس أن الاحتجاج العنيف بهذه الطريقة يمكن أن نعتبره محاولة انتحار جماعية، لأن المواطن يدفع ثمنه غاليا، سواء لما يُلقي عليه القبض ويودع السجن، أو لما يدمر الهياكل التي تخدمه، أو لما يموت في المواجهات مثلما حدث ذلك في عدد من المدن . ويفرق هذا المثقف الجزائري بين العملية السياسية التي يتم تنظيمها بهدف واضح وطبق طرق معروفة من جهة، وبين العمليات العشوائية التي يخسر فيها كل الأطراف .لكن الكل يجمع علي أن هذا الوضع جاء سببا لغياب الهياكل التقليدية لتنظيم المجتمع. ويلخص أحد السياسيين الوضع في هذه الصورة الكاريكاتورية فيقول ان المواطن يتوجه مرة أولي الي البلدية أو القاضي أو الوالي فلا يجد من يصغي اليه، ثم يقطع الطريق أو يحرق مقر البلدية فتقبل السلطة أن تتفاوض معه. وحتي ان رفضت فانه أثبت وجوده، حتي لو أدي به ذلك الي الانتحار .ومن جهة أخري، فان ظاهرة الانتحار بدورها انتشرت بصفة رهيبة في الجزائر، خاصة عند الشباب. ورغم غياب احصائيات دقيقة، يقول أحد الأطباء النفسانيين ان الوضع النفسي السائد في المجتمع الجزائري بصفة عامة يشجع انتشار الظاهرة . ويضيف أن الطب يعجز أمام وضع كهذا، لأن المطلوب هو القضاء علي هذا الشعور العام بالفشل قبل التكفل بالأشخاص .ولا يُعرف هل أن فيصل الذي توفي ليلة السبت الي الأحد في زرالدة، كان علي علم بكل هذه التحاليل. لكن يكفيه أنه مات ليدافع عن صورة كان يحملها عن حبيبته، فسقط ضحية للحب، وأحرقت المدينة بعده، للثأر له. فكان من أنصار روميو ، وترك دور نيرون لأهل السلطة وأولئك الذين فضلوا بقاءهم في السلطة حتي ولو أدي ذلك الي انتحار الشباب، أي الحياة.ہ كاتب سياسي من الجزائر9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية